الاقتصاد
البنك المركزي اليمني
البنك المركزي اليمني يسحب تراخيص مصارف وصرافين... والحكومة تواجه تمرّدًا تجاريًا
إجراءات حازمة من البنك المركزي لضبط القطاع المصرفي - أرشيف
في خطوة وصفت بالحاسمة، أعلن البنك المركزي اليمني – المركز الرئيسي في عدن – يوم الثالث من أغسطس 2025، عن سحب تراخيص عدد من شركات ومنشآت الصرافة، بالإضافة إلى إلغاء تراخيص فروع تابعة لعدد من الشركات الكبرى العاملة في القطاع، ضمن حملة رقابية متصاعدة تهدف إلى ضبط سوق الصرف ومكافحة غسل الأموال والمضاربة غير المشروعة.
ووفقًا للقرار رقم (12) لسنة 2025، الذي وقّعه محافظ البنك المركزي أحمد أحمد غالب المعبقي، تم إلغاء التراخيص الممنوحة لعدد من منشآت الصرافة، بناءً على تقييمات قطاع الرقابة على البنوك، والتي كشفت عن مخالفات جسيمة للقوانين والأنظمة، بما في ذلك قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ولم يُعلن البنك في قراره عن أسماء الشركات التي شملها الإيقاف، إلا أن مصادر مصرفية أكدت أن القائمة تضم منشآت بارزة تنشط في العاصمة عدن وعدد من المحافظات المحررة.
وفي قرار منفصل يحمل الرقم (13) للسنة نفسها، سحب البنك تراخيص أربعة فروع تابعة لشركات مرخصة سابقًا، وهي: فرع شركة القطيبي في مديرية المنصورة، فرع شركة الحداد في منطقة البريقة – إنماء، فرع شركة بن عوض في شارع التسعين، وفرع شركة المفلحي في المنطقة نفسها. القرار نصّ على أن هذه الفروع لم تعد مرخصة قانونيًا بمزاولة نشاط الصرافة، ووجّه الجهات المعنية بالتنفيذ الفوري ومنع التعامل مع هذه الفروع.
وتأتي هذه الإجراءات في وقت يشهد فيه الريال اليمني تحسنًا مفاجئًا أمام العملات الأجنبية، مدفوعًا بحزمة من التدابير النقدية التي اتخذها البنك المركزي للحد من المضاربة وتعزيز استقرار السوق. واعتبرت مصادر مصرفية لـ(اليوم الثامن)": أن قرارات إلغاء التراخيص تشكّل امتدادًا لخطة أوسع تستهدف استعادة الدور الرقابي للبنك المركزي وتطهير القطاع من التجاوزات التي عمّقت الانقسام النقدي والاقتصادي في البلاد.
مصادر في البنك المركزي أشارت إلى أن هذه الخطوات ليست الأخيرة، بل ستتبعها إجراءات إضافية بحق منشآت صرافة وبنوك أخرى قد تُسحب تراخيصها في حال ثبوت تجاوزات مشابهة. كما شددت المصادر على أهمية التزام الشركات بالربط الإلكتروني الكامل مع أنظمة البنك المركزي وتطبيق معايير الشفافية وفقًا لتوصيات مجموعة العمل المالي الدولية (FATF).
ويأمل الشارع اليمني أن تنعكس هذه القرارات رقابيًا وعمليًا في ضبط أسعار الصرف وتخفيف حدة التلاعب، بما يعيد قدرًا من الثقة إلى الأسواق المالية ويصبّ في مصلحة الاستقرار الاقتصادي المنشود.
ونتيجة لهذه التدابير المشددة، شهد الريال اليمني تعافيًا ملموسًا بعد موجة تدهور حاد. فبعد أن تجاوز سعر صرف الدولار الأمريكي حاجز 3000 ريال في عدن مؤخرًا، بدأ الريال يستعيد عافيته بسرعة. وبحلول مساء 30 يوليو 2025، ارتفعت قيمة العملة المحلية بحوالي 120 ريالًا مقابل الدولار، حيث تراجع سعر الدولار من 2840 إلى 2720 ريالًا خلال ساعات.
واستمر التحسّن خلال الأيام التالية؛ حتى بلغ سعر الدولار حوالي 1759 ريالًا للبيع (و1524 ريالًا للشراء) بحلول 2 أغسطس. كذلك هبط سعر الريال السعودي إلى نحو 480 ريالًا للبيع.
هذا التحسّن السريع عزته مصادر مصرفية إلى إجراءات المركزي بإغلاق شركات الصرافة المخالفة إلى جانب خطوات حكومية لزيادة الإيرادات وضبط الموازنة. وبذلك استعاد الريال جزءًا كبيرًا من قيمته المفقودة خلال فترة وجيزة، الأمر الذي بعث آمالًا بانعكاس هذا التعافي على معيشة المواطنين عبر تخفيض الأسعار.
شددت الحكومة اليمنية على ضرورة انتقال أثر تحسّن سعر الصرف فورًا إلى أسعار السلع الأساسية في الأسواق. وأكدت رفضها القاطع لما وصفته بـ«المبررات غير المنطقية» التي يسوقها بعض التجار للإبقاء على الأسعار عند مستوياتها السابقة بحجة ارتفاع تكاليف شحنات الاستيراد السابقة. وأوضحت الحكومة أن التسعير يجب أن يتم وفق سعر الصرف اليومي الحالي، خاصة وأن عائدات المبيعات تُحوَّل يوميًا إلى عملات أجنبية، مما يلزم التجار بتعديل أسعار بضائعهم بالتوازي مع الانخفاض في سعر الصرف.
جاء ذلك خلال زيارة رئيس الوزراء سالم بن بريك لمقر وزارة الصناعة والتجارة في عدن، حيث أكد أن السلطات تراقب عن كثب تطورات السوق وتضع ملف غلاء الأسعار في سلم أولوياتها نظراً للظروف المعيشية الصعبة للمواطنين.
ودعا بن بريك إلى اتخاذ إجراءات حازمة ضد المتلاعبين بالأسعار والعمل على ترجمة الانخفاض الكبير في سعر الصرف إلى انخفاض فعلي في أسعار الغذاء والخدمات، مشددًا أن «المواطن هو المتضرر الأول من هذا الخلل، ومسؤولية الحكومة حماية المستهلك والقطاع الخاص في آنٍ واحد لتحقيق التوازن». كما وجّه رئيس الوزراء بتشكيل فرق رقابة ميدانية نشطة في عدن وبقية المحافظات المحررة لضبط الأسعار، مع تطبيق العقوبات على المخالفين لضمان العدالة الاقتصادية.
على الرغم من التحسّن الكبير لقيمة الريال، لا يزال العديد من التجار في الأسواق يرفضون خفض أسعار السلع بما يتناسب مع انخفاض تكلفة الاستيراد. ويبرّر بعضهم هذا الرفض بأن المخزون الحالي تم شراؤه بأسعار صرف مرتفعة سابقًا، وبالتالي بيع البضائع بالسعر المخفّض سيؤدي إلى خسائر.
إلا أن مواطنين كثر يرون في هذا التبرير مماطلة غير مقبولة، مشيرين إلى أن التجار يسارعون برفع الأسعار مع أي تراجع لسعر العملة، لكنهم يتأنون كثيرًا في خفضها عند تحسّنها. ويصف الأهالي هذا السلوك بأنه احتكار وتلاعب صريح يستدعي تدخلًا قويًا من الجهات الرسمية لحماية قدرتهم الشرائية.
متجر في عدن يعلن إيقاف بيع إحدى السلع الأساسية بسبب امتناع الشركة الموردة عن تخفيض سعرها بما يواكب تحسن العملة. وقد تركزت الأنظار على خمس مجموعات تجارية كبرى يُنظر إليها كقادة لهذا التمرّد الاقتصادي في وجه توجيهات الحكومة. وأفادت مصادر محلية أن أبرز الشركات الرافضة لخفض أسعار منتجاتها حتى الآن تشمل ما يلي:
مجموعة هائل سعيد أنعم وشركاه – أكبر تكتل تجاري في اليمن ويسيطر على سوق عدد من المواد الأساسية كالدقيق والزيت والسكر.
مجموعة بن عوض النقيب – شركة تجارية بارزة تنشط في استيراد وتوزيع السلع الغذائية في السوق المحلية.
مجموعة إخوان ثابت – من كبار الشركات العائلية العاملة في مجال تجارة المواد الغذائية الأساسية على مستوى اليمن.
شركة عبدالعزيز محمد سيف (AMS Foods) – شركة استيراد وتوزيع منتجات غذائية رفضت تحديث قائمة أسعارها تماشياً مع سعر الصرف الجديد.
شركة طيبات عدن للتجارة – إحدى الشركات الكبرى العاملة في تجارة المواد الغذائية بالجملة ومقرها عدن، امتنعت عن خفض أسعار بضائعها رغم تحسن العملة.
هذه المجموعات الخمس واصلت بيع بضائعها بالأسعار القديمة المرتفعة وكأن شيئًا لم يتغيّر، متجاهلةً انخفاض كلفة الاستيراد وتحسّن قيمة الريال. ويصف مراقبون هذا التصرف بأنه “تمرد اقتصادي” مكشوف على توجيهات حكومة بن بريك، معتبرين أنه يتعدى مجرد جشع تجاري ليصل إلى مستوى الاحتكار المنظّم الذي يضر بمعيشة المواطنين. ويلحظ البعض أن نفوذ هذه الشركات واستحواذها على سلاسل التوريد يجعلها تتصرف كأنها فوق سلطة الدولة والقانون، خاصة في ظل ما يُوصف بـ«الحماية المناطقية» التي تتمتع بها – في إشارة إلى استفادتها من الانقسامات السياسية والجغرافية في البلاد للتحصّن من المحاسبة.
قوبل تعنّت تلك الشركات برفض شعبي واسع وبدأت بوادر تحرّك على الأرض لكسر حلقات الاحتكار. قامت بعض المراكز التجارية الكبرى في عدن بإيقاف بيع منتجات الشركات التي رفضت خفض الأسعار، ووضعت على الأرفف إشعارات تنبه الزبائن إلى أن بيع تلك الأصناف متوقف «لعدم تجاوب الشركة معنا بتخفيض سعره». هذه الخطوة لقيت ترحيبًا من المواطنين باعتبارها تضغط على الشركات المتمرّدة لتصحيح أسعارها أو risk فقدان حصتها في السوق المحلي.
بالتوازي، أطلق ناشطون يمنيون حملة إلكترونية واسعة للدعوة إلى مقاطعة منتجات مجموعة هائل سعيد أنعم وشركات أخرى متهمة باحتكار السلع ورفض خفض الأسعار. وانتشرت الدعوات على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسوم مثل #قاطعوا_هائل_سعيد و #الاحتكار_جريمة، حيث عبّر المئات من المواطنين عن غضبهم مما وصفوه بـ«التحكم الجائر بأسعار المواد الأساسية» وطالبوا الجهات الحكومية بالتدخل لكبح جماح هذا الاحتكار. وقد أوضح الصحفي ماجد الشعيبي – وهو من منظمي الحملة – أن هدف المقاطعة الشعبية هو إجبار تلك الشركات الكبرى وفي مقدمتها مجموعة هائل سعيد أنعم على الاستجابة الكاملة للإجراءات الحكومية وضبط الأسعار وفق الواقع الجديد للسوق.
من جانبه، أكّد رئيس الوزراء سالم بن بريك أن الحكومة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام من يعبث بمعيشة الناس، متوعدًا بمحاسبة كل من يصر على مخالفة القوانين والتوجيهات الاقتصادية. وقد بدأت بالفعل السلطات المحلية ووزارة الصناعة بتنفيذ حملات ميدانية لضبط الأسعار في عدن وعدة محافظات، شملت إغلاق عدد من محال الجملة التابعة لكبار المستوردين الذين لم يلتزموا بالتسعيرة الجديدة. وتدرس الجهات الرسمية خيارات أخرى لردع التمرد الاقتصادي لتلك المجموعات، بما فيها تفعيل قوانين مكافحة الاحتكار وسحب التراخيص التجارية من الشركات التي تثبت ممارستها الجشعة المخالفة للصالح العام.
وفي ظل هذه التطورات، يترقب الشارع اليمني ترجمة حقيقية لتحسّن العملة في انخفاض تكلفة المعيشة. ورغم التحديات الكبيرة التي يفرضها الاقتصاد المنقسم بين حكومة معترف بها دوليًا وجماعة الحوثيين، يرى مراقبون أن الخطوات الأخيرة للبنك المركزي والحكومة تمثّل رسالة قوية بأن هيبة الدولة الاقتصادية ما زالت حاضرة. ويبقى نجاح هذه الجهود مرهونًا بمدى استمرار استقرار سعر الصرف، والتزام التجار – كبارهم وصغارهم – بإعلاء المصلحة العامة فوق اعتبارات الربح السريع، بما يحقق قدرًا من الإنفراج للمواطن اليمني الذي أنهكته سنوات من التضخم وانهيار العملة.