تقارير وتحليلات
تحالفات استراتيجية بينهما..
تقرير: إيران والقاعدة.. مشروع طائفي وعلاقات براغماتية وطيدة
لا يكفي النكران للتغطية على العلاقة المعقدة بين إيران وتنظيم القاعدة. الأدلة التي تملكها أجهزة المخابرات الغربية، والتي تثبت متانة هذه العلاقات، كثيرة للغاية. ويبدو من عملية قتل أبومحمد المصري في طهران، “الرجل الثاني” في التنظيم، أن جهازي الموساد والـ”سي.آي. أي”، يعرفان الكثير مما تنكره إيران، إلى درجة أن عملية القتل تلك، تمت في الساعة واليوم اللذين يتصادفان مع ذكرى تفجير السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام في السابع من أغسطس من عام 1998، الذي خطط له المصري.
هذا يعني أن هذين الجهازين يمتلكان، ليس المعرفة بأماكن وجود قيادات تنظيم القاعدة في إيران، ولكنهما يملكان الرفاهية حتى في اختيار الرمز المعنوي لتوقيت العملية.
أما الصمت على العملية على امتداد نحو ثلاثة أشهر، فقد قصد التستر، ولكن كان للصمت صمتٌ أعمق من بعده.
كان الأمر مجرد نكتة عندما أنكرت إيران وجود المصري في أراضيها، وعندما زعمت أن القتيل أستاذ تاريخ لبناني يدعى حبيب داود. إذ سرعان ما اتضح أنه لا صلة له بلبنان ولا بالأستاذية ولا بالتاريخ. وتاريخه الوحيد هو أنه أحد “الآباء المؤسسين” لتنظيم القاعدة و”أستاذيته” الوحيدة هي أنه أحد أبرز مخططي العمليات الإرهابية في التنظيم.
الوجه الآخر من النكتة، جاء من جانب أحد فروع تنظيم القاعدة ويدعى “حراس الدين” في سوريا، عندما اعترف بمقتل المصري في إيران، مع ابنته مريم، أرملة حمزة بن أسامة بن لادن، ولكنه اعتبر أنه كان “أسيرا في سجون الرافضة لما يقارب 16 عاما”.
“الأسير” المزعوم، كان حرا طليقا في الواقع. وتمت عملية قتله وهو في سيارته مع ابنته. والأسرى لا يملكون سيارات، كما أنهم لا يُمنحون هويات وهمية للتغطية على أسمائهم وأدوارهم.
أحد أوجه التعقيد في العلاقة بين النظام الإيراني والقاعدة، هو أنهما يهاجمان أحدهما الآخر، تحت ستار من الدوافع العقائدية. ولكن ذلك كان هو نفسه ستارا لعلاقات براغماتية وطيدة وقديمة. ولقد سبق للمسؤولين الإيرانيين أن اعترفوا بوجودها فعلا.
المعلومات المتاحة حول الصلات بين إيران وتنظيم القاعدة، ومنها تقارير للأمم المتحدة، ووزارة الخارجية الأميركية، والوثائق التي عُثر عليها بعد مقتل أسامة بن لادن ونشرتها المخابرات الأميركية، وتصريحات معلنة لمسؤولين إيرانيين كبار، فضلا عن مسؤولين في المنظمات التابعة للحرس الثوري الإيراني، لا تبقي مجالا للشك في أن إيران ظلت توفر الدعم والتسهيلات، ماديا ولوجستيا وعسكريا، للقاعدة برغم النكران، وبرغم العداء المعلن من جانب الطرفين تجاه أحدهما الآخر.
تلك الأدلة، كانت هي ما ساعد المحكمة الأميركية في نيويورك في العام 2018، على التوصل إلى حكم يقضي بتغريم إيران نحو 10.7 مليار دولار لتورطها في التعاون مع تنظيم القاعدة بهجمات 11 سبتمبر من خلال تسهيل مرور منفذي الهجوم وأشخاص مرتبطين بهم.
وعلى الأسس نفسها، أصدرت المحكمة الأوروبية في لوكسمبورغ قراراً بحجز مبلغ مليار و600 مليون دولار من أموال البنك المركزي الإيراني في أوروبا لصالح أهالي ضحايا هجمات سبتمبر.
الأمر كان مجرد نكتة عندما أنكرت إيران وجود المصري في أراضيها وعندما زعمت أن القتيل أستاذ تاريخ لبناني، إذ سرعان ما اتضح أنه لا صلة له بلبنان ولا بالأستاذية ولا بالتاريخ
ليس وجود الأدلة على الترابط الوثيق بين إيران والقاعدة، هو الشيء الذي يتعين أن يشغل الاهتمام، لأنه بات حقيقة لا تحتاج إلى المزيد لإثباتها. ولا حتى الدوافع المشتركة بينهما، وإنما الصمت عليها من جانب الذين ذهبوا ليلاحقوا التنظيم في أفغانستان، وتركوه يلجأ الى إيران آمنة أو لم يصبها عشر معشار ما أصاب نظام طالبان.
عقائديا، تقف إيران والقاعدة على طرفي نقيض. ولكن هذا الجانب يبدو ثانويا للغاية، أو يصلح كغطاء، لحقيقة أنهما يسعيان إلى تحقيق هدف واحد، كل من طريقه الخاص. فالإسلام السياسي يخدم بعضه على نحو أكبر بكثير مما يعتقد الكثيرون.
إيران والقاعدة يدركان، بكل بساطة، أن المشروع الطائفي يصب الماء في طاحونة مشروع طائفي مضاد. أحدهما فعل، والآخر رد فعل طبيعي له. إيران تعتبر أن هذا السبيل يوفر لها القدرة على التوسع في عدد من دول المنطقة التي تتوفر فيها منافذ طائفية، بينما يعتبر تنظيم القاعدة أن ذلك يساعده في كسب موطئ قدم تنفذ إلى الأغلبية في العالم الإسلامي. وكلما كان المشروع الطائفي الإيراني أكثر وحشية في التعامل مع الطائفة الأخرى، كلما وفر ذلك أرضية أوسع لتنظيم القاعدة لنشر أيديولوجيته في تلك الطائفة.
الطرفان لديهما قائمة واحدة من الأعداء المشتركين، تضم الولايات المتحدة (في حدود نفوذها الإقليمي)، والقوى المحلية التي تتبنى أجندات وطنية، فضلا عن كل الشخصيات المستقلة التي تتخذ موقفا مناهضا لمشروع التمزيق والتقسيم على أسس مذهبية أو عرقية.
قائمة الأعداء المشتركين، هي ما يجعل إيران والقاعدة حليفا استراتيجيا أحدهما للآخر.
الطرفان يسعيان إلى فرض هويات جديدة على دول وشعوب المنطقة. فالعراقي، الذي كان يعرف نفسه كعراقي، على سبيل المثال، صار يتعين عليه أن يقدم هوية أخرى للتعريف بنفسه. هذا يناسب المشروع الطائفي الإيراني بالمقدار نفسه الذي يناسب مشروع القاعدة. فالمرء يتعين أن يكون إما من هذه الطائفة أو تلك ليعرف موطئ قدمه.
وهما يهاجمان بعضهما، ليس لكي يمارسا خداعا مزدوجا، فحسب، وإنما لكي يحافظ كل منهما على ما يفترض أنه “حصته” في أرض المعركة. وهما يخوضانها الآن معا، ولكنهما يعرفان في الوقت نفسه أنهما سوف ينفصلان عن أحدهما الآخر في وقت من الأوقات.
فمثلما أن إيران تريد أن تنتهي إلى إقامة “دولة إمامة” تمتد إلى ما لا حدود له، فإن القاعدة تريد أن تقيم “دولة خلافة” تمتد إلى ما لا حدود له أيضا، وفي الحالتين على أنقاض الكيانات الاجتماعية والسياسية القائمة. وسواء أدت “إدارة التوحش” المشتركة إلى التضحية بملايين من البشر، كما هو حاصل الآن، فذلك من آخر ما يهم.
مشروع الإسلام السياسي لا ينظر إلى التكاليف، بل إلى النهايات. وكلما عم الخراب والفقر والفساد والتخلف، كلما وفر ذلك فرصة أفضل لتغذية مناهج الإرهاب والتطرف. تلك هي “إدارة التوحش” أصلا.
إنها شراكة جريمة، تستند إلى توافق عقائدي على دمار شامل يقلب الهويات ليقلب الكيانات، وينسف الدول.
“القاعدة” التي تبدو اليوم كأداة توظفها إيران، لا تنظر إلى نفسها على أنها مجرد تابع أو لعبة. مشروعها الأيديولوجي يوفر لها القناعة بأنها ما يزال بوسعها أن تكون “قوة مستقلة” حتى وهي تنام في حضن الولي الفقيه.
وكأي لعبة أخرى، فإنه لن تمكن هزيمتها قبل أن يُهزم راعيها أولا.
هذا كله واضح، حتى يمكن القول إنه لا جديد فيه.
المعركة الطويلة التي خاضتها الولايات المتحدة لملاحقة القاعدة في أفغانستان، لم تبدُ معركة خاسرة، إلا لأن التنظيم وجد في إيران ملاذا آمنا. ولكي لا تكون إيران أفغانستان أخرى، فإن سلطة الولي الفقيه تقول، بدافع المساومة، إن التنظيم لم يعد خطرا دوليا، وإن نشاطه بات يقتصر على أجندات محلية.
وهذا يعني أنه إذ لم يعد يزمع القيام بـ11 سبتمبر جديد، فلأنه وراعيه ينشغلان بمذبحة أخرى تجري فصولها بعيدا عن نيويورك وباريس ولندن.
أنظر في طول المسافة بين وجود القاعدة في إيران، وآخر العمليات ضد الولايات المتحدة، ولسوف تشم الرائحة. فالتنظيم مفيد في احتوائه، ومفيد في بيعه. وقادته أغبياء، ليس لأنهم وضعوا رقابهم تحت سلطة الولي الفقيه، بل لأنهم اتبعوا أجندته من جهتها الأخرى.
قتل أبومحمد المصري تم بموافقة إيران، على سبيل التسوية مع “التاريخ”.
انظر في الصمت قبل انكشاف العملية، وستعرف شيئا. ولكن اُنظر في الصمت على عقد الشراكة، قبل وبعد انكشاف العملية، وستعرف شيئا آخر، أعمق.
لقد سمحت إيران للموساد أن يُنفذ عمليته مقابل ثمن، سوف نعرف لاحقا ما هو.