بحوث ودراسات
"بعد تعثُّر الجولة الخامسة للجنة الدستورية"..
تحليل: مسار السلام السوري: إشكالياته واحتمالاته المستقبلية
مركز الإمارات للسياسات سلط الضوء على خلفيات التعثر في العملية السلمية في سوريا - أرشيف
طرَحَ فشلُ الجولة الخامسة من اجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف، السؤالَ حول مستقبل مسار الأمم المتحدة للعملية السلمية في سوريا في ظل التعقيدات الحاصلة وتباعُد مواقف الأطراف. وبعد انقطاع لأكثر من عام، عادت الدول الثلاث "الضامنة"، أعضاء منصة أستانة، روسيا وتركيا وإيران، إلى الاجتماع، فيما بدا أنه محاولة من قبل هذه الأطراف لضبط العملية السلمية في سوريا ومنع انهيارها.
مركز الإمارات للسياسات سلط الضوء على خلفيات التعثر في العملية السلمية في سوريا، ومواقف الفاعلين الرئيسين، والمآلات المتوقعة لهذه العملية.
تعثُّر مسار جنيف والعودة لمسار أستانة
قرعت تصريحات مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسون، في إحاطته إلى مجلس الأمن في 9 فبراير 2021، جرسَ الإنذار حول العملية السلمية، وخاصة بعد تأكيده صعوبة الاستمرار وفق طريقة العمل الحالية، حيث لم تتمكن اللجنة الدستورية، بعد عام ونصف عام من انطلاق أعمالها، من تحقيق أي تقدم يُذكر، مؤكداً على الحاجة إلى "دبلوماسية دولية بنّاءة" في الشأن السوري، واعتبر أنه من دون ذلك فإنه من غير المحتمل لأي مسار –إنْ كان المسار الدستوري أو أي مسار آخر– أن يمضي قُدماً.1
وتُعتبر اللجنة الدستورية من مخرجات مؤتمر "سوتشي" الذي عقدته روسيا في مطلع عام 2018، وتهدف إلى وضع دستور جديد لسوريا، وتحظى بدعم ورعاية من الأمم المتحدة. ولم يكن خافياً الهدف الروسي من وراء إنشائها، وذلك للالتفاف على قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015 الذي نص في فقرته الرابعة على إنشاء "حكم ذي مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية خلال ستة أشهر"، وعقب ذلك تُجرى "عملية صياغة دستور جديد" للوصول إلى "انتخابات حرة ونزيهة في غضون 18 شهراً"، أي أن الدستور بحسب القرار يأتي بعد "هيئة الحكم الانتقالي".
وسبق انعقاد الجولة الخامسة لاجتماعات اللجنة الدستورية في الفترة 25-29 يناير 2021، ضخٌ إعلامي بأنها ستكون مختلفة، وستدخل الأطراف مباشرة إلى صياغة مقدمة الدستور. وقد ساهمت روسيا ببث الأمل بإمكانية حصول متغير مهم في الجولة الخامسة، حيث أشاد وزير الخارجية سيرغي لافروف بالمناقشات "المفيدة حول المبادئ الأساسية في الجولة الرابعة، مؤكداً أن الجولة الخامسة سوف تنتقل إلى العمل المباشر على وضع مقدّمة الدستور".2
إلا أن هذا التحوّل المأمول لم يحصل، ولم تستطع الوفود الانتقال إلى مرحلة الصياغة الدستورية، ووفق تصريحات بيدرسون، الذي أكد أن وفد المعارضة أكمل صياغة المبادئ العشرة الأساسية في الفصل الأول من الدستور وعرضه، إلا أن رئيس وفد النظام أحمد الكزبري لم يقبل المقترحات.3 وأكد معارضون أن وفد النظام رفض أيضاً مقترح الأمم المتحدة لتنظيم ووضع منهجية النقاش، بحيث تُفضي هذه الخطوة إلى صياغة مواد دستورية أولية من قبل اللجنة المصغرة، ومن ثم عرضها على اللجنة الموسعة لإقرارها، وأصرّ وفد النظام على مناقشة قضايا السيادة والعروبة والإرهاب، قبل البدء بصياغة المواد الدستورية.4ويرى المراقبون أن هدف النظام من ذلك إضاعة الوقت حتى الوصول إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة، المقرر تنظيمها في صيف العام الجاري.
وقد أعرب المبعوث الأممي إلى سوريا خلال إحاطته إلى مجلس الأمن عن خيبة أمل جراء التعثر الذي رافق أعمال اللجنة الدستورية، التي بدت تدور جلساتها منذ نحو أكثر من عام ونصف العام في حلقة مفرغة.
وفي إثر هذا التعثر في مسار اللجنة الدستورية ونتيجةً له، دعت "الدول الضامنة"، روسيا وإيران وتركيا، إلى جولة جديدة من اجتماعات أستانة "أستانة 15" في 16 فبراير، وهي الاجتماعات التي كانت قد تعطلت منذ أكثر من عام (آخر اجتماع عُقد في ديسمبر 2019)، فيما بدا أن الهدف من الاجتماع الجديد إنقاذ العملية السياسية في سوريا، لكن البيان الختامي الذي أصدرته المجموعة، والذي كان عبارة عن نسخة مكررة عن بيانات الاجتماعات السابقة، كشف عن أن التركيز الأساسي لهذه الأطراف محصورٌ في الحفاظ على مصالحها، عبر استمرار المعادلات القائمة حالياً، ومنع أو مقاومة أي محاولة لتغيير هذه الأوضاع من قبل أطراف دولية أخرى.5
ويُعتبر مسار أستانة ضرورياً بالنسبة للضامنين لإضفاء الشرعية على الوجود العسكري لأطرافه، ويبدو أن أطراف أستانة توافقت بشكل نهائي الحفاظ على الوضع الميداني القائم وتثبيت الخارطة العسكرية الحالية، ويُشير بعض المراقبين إلى وجود مؤشرات تؤكد التوافق على الوضع الراهن، مثل إطلاق حكومة الإنقاذ في إدلب مشاريع عمرانية واستثمارات عديدة في الأشهر الأخيرة الماضية، لعل أبرزها تمديد خطوط التيار الكهربائي من تركيا إلى إدلب، وهو أمر لم يكن ليحدث لولا وجود تطمينات سياسية من قبل تركيا، إلى جانب التطمينات الميدانية التي يؤكد عليها الانتشار الكثيف للقوات التركية في المنطقة وإرسالها تعزيزات مستمرة إلى هناك.6
وقد شكّل ظهور تحركات أممية لإخراج حل الملف السوري من السياق الروسي-التركي-الإيراني، تطوراً خطيراً لا تريده هذه الأطراف، للحفاظ على مكتسباتهم خلال الحرب السورية.7 كما تنظر هذه الأطراف بأهمية بالغة إلى اللجنة الدستورية، لأنها تشكل الجسر والرابط الرئيس الذي يُعطي تحركاتهم بُعداً أممياً، على أن تبقى هذه اللجنة شكليةً ودون التطرق إلى قضايا من شأنها التأثير في مصالحهم في سوريا.8
لكن بدا واضحاً أن أطراف أستانة، ورغم اتفاقهم على الحفاظ على مصالحهم في سوريا، إلا أنهم متباعدون في رؤيتهم للحل، بحيث لم يظهر في البيان ما يؤشر على اهتمام هذه الأطراف بإخراج العملية السلمية من مأزقها؛ وحسب مصادر قريبة من المعارضة، شهد اجتماع سوتشي خلافات على توزيع مناطق السيطرة ضمن نفوذ المناطق التي ترعاها وتضمنها تركيا وروسيا، والتي طالبت روسيا من خلالها تخلي تركيا عن بعض المواقع في منطقة جبل الزاوية الاستراتيجية بريف إدلب الجنوبي، ورفضت الحكومة التركية العرض الروسي للتخلي عن هذه المناطق التي نشرت فيها نقاطاً عسكرية مدعمة بالجنود والسلاح الثقيل.9
ويشكّل الموقف من إدلب أحد أكثر النقاط خلافية بين أطراف اجتماع أستانا، فلا تزال مواقفها متباينة بشأن كيفية التعامل مع أزمة إدلب وهو ما يفسر سبب تواضع النتائج التي خرجت بها الجولة الأخيرة من محادثات أستانا، حيث فضَّل الأعضاء استمرار تفاهمات الحد الأدنى وترحيل الخلافات إلى أجل آخر.10
وكان المستوى المنخفض للمشاركة في الاجتماع الأخير مؤشراً على هذا التباين في مواقف الأطراف، إذ فسّر المراقبون تخفيض مستوى المشاركة التركية في أستانة بأنه انعكاس لترقب تركيا نتائج الاتصالات الأخيرة مع واشنطن، حيث تُعتبر العلاقات بين أنقرة وموسكو على رأس اهتمامات واشنطن، وخاصة في ما يتعلق بالملف السوري11.
وربما لهذه الأسباب، انطوى البيان الختامي لمحادثات أستانة على تناقضات يصعب فهمها، حيث نص البيان في إحدى فقراته على التركيز على مواصلة الحرب ضد "الإرهاب"، وفي فقرة أخرى تحدث عن ضرورة الحفاظ على السلام على الأرض، ثم أكد على عدم وجود حل عسكري للأزمة السورية.12وفيما يخص اللجنة الدستورية اكتفى البيان بالتأكيد على دعم عمل اللجنة.
وبرغم أن موقف تركيا يقوم على حصول تقدم في أعمال اللجنة الدستورية يؤدي في النهاية إلى تقويض سلطة نظام الأسد، ووصول الأطراف المؤيدة لها للسلطة، إلا أن أولويات تركيا في المرحلة الحالية تتمثل في عدم انهيار أستانة، والتنسيق مع روسيا، من أجل إقامة منطقة آمنة على كامل الشريط الحدودي مع سوريا، وتثبيت الجماعات التي تدعمها في إدلب، ومنع روسيا من زعزعة الترتيبات التي تم الاتفاق عليها مع تركيا في إدلب.13
أهداف التحرك الروسي
يهدف التحرك الروسي لعقد اجتماع أستانة، والتصريحات الصادرة عن الكرملين حول دور الأمم المتحدة في الحل السياسي في سوريا، وفي العمليات الإنسانية أيضاً، إلى تحقيق غايات معينة أهمها:
- لإثبات أنها ما زالت تملك مفاتيح الحل في سوريا، وأنها قادرة على إدارة مسرح الصراع، الذي تتقاسمه مع تركيا وإيران، وبالتالي محاصرة أي تحرك غربي أو أمريكي جديد في الملف السوري، واستباقاً لأي مبادرة جديدة بالخصوص، حيث علمت موسكو أن دولاً غربية تضغط على بيدرسون لفتح "سلال" أخرى لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي يتضمن ملفات: مكافحة الإرهاب، والانتقال السياسي، والانتخابات، إضافة إلى الإصلاح الدستوري.
- حاجة روسيا لتثبيت وقف إطلاق النار في سوريا في الأشهر القادمة، لتمرير الانتخابات الرئاسية التي يبدو أنها أكثر الاستحقاقات أهمية في المرحلة المقبلة.
لكن روسيا تواجه إشكالية عدم القدرة على السيطرة على سلوك نظام الأسد وإجباره على الخضوع لاستراتيجياتها في سوريا، وقد أكد المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، في تصريحات لوكالة "سبوتنيك" الروسية، وجود هذه الإشكالية، موضحاً أن "وجود روسيا في سوريا لا يعني أنها كلية التأثير على دمشق، ودورها يقتصر على تقديم النصائح والتوصيات"، ويعكس كلام لافرنتييف الخلافات العميقة بين الطرفين سواء بشأن العملية السياسية وحسابات كل طرف تجاهها، أو فيما يخص الترتيبات العسكرية داخل سوريا، ومواقف الطرفين تجاه بعض الأزمات المتفجرة في جنوب سوريا وشرقها. وما يؤكد وجود هذه الخلافات، الزيارة السرية التي قام بها لافرنتيف إلى دمشق ولقائه بالريس الأسد قبل توجهه لحضور اجتماعات سوتشي، بهدف ترميم الفجوة بين دمشق وموسكو بشأن العملية السلمية في سوريا، حيث تريد موسكو من دمشق اللعب بطريقة أفضل وسط تعقيدات دولية خطيرة، تتمثل بمطالبة فرنسا إعلان وفاة" اللجنة الدستورية" واحتمالات دفع إدارة بايدن لـ "شرعنة سياسية" لحلفائها الأكراد.14
وعلى خلفية هذه التطورات جاء تحذير لا فرنتيف من دفن العملية الدستورية لأنه "لا بديل عن عملية التفاوض حول الإصلاح الدستوري في جنيف، لأنه إذا تم تقويضها، وإذا امتنع المجتمع الدولي عن دعم هذه العملية، فلن يكون أمام الحكومة السورية خيار آخر سوى نقل ساحة العمل على الإصلاح الدستوري إلى الداخل السوري، ووضعها تحت سيطرتها مباشرة، وهو أمر لن يحصل على دعم المجتمع الدولي أو بلدان معينة، ما يعني أن المواجهة سوف تستمر وهذا ليس في مصلحة أي طرف".15
نقاط التوافق والاختلاف بين روسيا ونظام الأسد حول اللجنة الدستورية
تُصر روسيا على استمرار عمل اللجنة الدستورية، فهي بالأصل مشروع روسي نتج عن الاجتماع الذي رعته روسيا تحت مسمى "مؤتمر الحوار الوطني" بين السوريين في سوتشي الروسية في 30 يناير 2018، وتدرك روسيا أن انهيار عمل اللجنة الدستورية يهدد بنسف جميع "المسارات السياسية" والخطط التي حاكتها الدبلوماسية الروسية على مدار عشر سنوات، ومكّنتها من إمساك جميع خيوط الأزمة السورية تقريباً، والاستفادة من هذا كله في تحسين موقفها إقليمياً ودولياً.16 وترى روسيا في نجاح عمل اللجنة الدستورية انتصاراً سياسياً لها، يبعدها عن شبح الغرق في مستنقع سوريا وحيدة، ويثبت مكاسبها الاقتصادية، سواء في استثماراتها في النفط والغاز وموانئ سوريا، أو في بدء عملية الإعمار التي تطمح بالحصول على حصة وازنة من عائداتها.
في حين يرغب نظام الأسد في التخلص نهائياً من مسار اللجنة الدستورية، التي يرى فيها خطراً عليه؛ إذ يخشى الأسد من أن ترضخ روسيا، في سبيل مصالحها، لضغوط الدول الغربية وتزيحه عن السلطة، أو تقبل بإجراءات قد تؤدي إلى تفكيك نظامه الحالي وتشكيل نظام جديد. ويبدو أن الروس الْتقطوا حقيقة مخاوف نظام الأسد، فأراد لافرنتيف تطمينه بقوله إنه لا يرى تهديداً على النظام من إجراء نقاش حقيقي حول الدستور.
وأتت زيارة كبير مساعدي وزير الخارجية الإيراني، علي أصغر حاجي، إلى دمشق، قبل انعقاد اجتماع "أستانة 15"، واجتماعه مع الأسد لتشكيل موقف موحد بهدف الضغط على روسيا، حيث أكد الطرفان، بحسب بيان رئاسي، على ضرورة استمرار عمل اللجنة الدستورية دون تدخلات خارجية وفق قواعد الإجراءات التي تم الاتفاق عليها سابقاً وبآلية عمل ومنهجية واضحة تبدأ من النقاش حول المبادئ الأساسية والاتفاق عليها، ثم الانتقال إلى التفاصيل،17وقد أكدت صحيفة "Kommersant" الروسية، أنه على هامش المفاوضات في سوتشي، كان يجري مناقشة فكرة من الواضح أن دمشق وطهران روجتا لها وتقول بأن التقدم في عمل اللجنة الدستورية يمكن أن يحدث فقط بعد إجراء الانتخابات الرئاسية السورية المقررة صيف هذا العام.18
وتقوم خطة نظام الأسد تجاه اللجنة الدستورية على إيصال أعمال اللجنة إلى حائط مسدود، والاكتفاء بمسار أستانة، أو تكون هناك عودة إلى عمل سياسي آخر يكون فيه الاعتراف أولاً بالحقائق على الأرض، ومنها أن النظام السوري بات الأقوى، ويجب أن يستكمل تحرير الأراضي قبل البحث في كتابة دستور أو حل سياسي، وبعد ذلك الاتفاق على إجراء الانتخابات، ومن ثم المجلس النيابي الذي سيَنتج عن هذه الانتخابات والذي سيقوم هو بتشكيل اللجنة الدستورية وكتابة الدستور. 19
وهنا تكمن نقطة التصادم بين روسيا ونظام الأسد، إذ إن لروسيا حسابات أمنية وسياسية واقتصادية، وتخشى من أن يؤدي عدم التوصل إلى حل سياسي إلى زيادة تورطها في سوريا، في حين يشك نظام الأسد في الإجراءات الروسية، ما يدفعه إلى تأكيد تحالفه مع إيران التي ترفض تقديم أي تنازلات في العملية السلمية، الأمر الذي يدفع روسيا إلى اتباع إجراءات للضغط على الأسد وإيران، من نوع تسريب رسالة الأسد إلى بوتين، في 24 فبراير 2013، التي يستغيث فيها بوتين لإنقاذ نظامه،20 وكذلك تحجيم نفوذ الميليشيات الإيرانية في البادية ومناطق غرب الفرات.21
الاحتمالات لمسار العملية السياسية في سوريا
يعكس الاستعصاء الحاصل في مسار العملية السلمية السورية التي تقودها الأمم المتحدة عدم نضوج الظروف للوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية، التي ما زال ينتظرها الكثير من المساومات والتسويات قبل إنجاز أبسط الأمور، كالاتفاق على مقدمة الدستور. وإذ تنتظر الأطراف الفاعلة معرفة توجهات إدارة بايدن، فإن أغلب الفاعلين يحاولون التمسك بمكتسباتهم التي تم تحصيلها في مرحلة الحرب السورية. إلا أنه بات من الواضح أن المقاربات القديمة للحل في سوريا قد استُنفدت ولم تعد صالحة لإنجاز التسوية المطلوبة، وقد عبَّر المبعوث الأممي غير بيدرسون عن عدم إمكانية الاستمرار بعمل اللجنة الدستورية وفق الطريقة التي تدار بها الآن. وهذا ما يفتح الباب أمام جملة من الاحتمالات:
الأول، البحث عن بدائل جديدة، من منطلق أن اللجنة الدستورية قد استنفدت إمكانية الوصول إلى حل للأزمة السورية. وكان بيدرسون قد لمّح إلى أن المجتمع الدولي قد يبحث عن بدائل في حال الفشل في تقدم العملية الدستورية. ويبدو أن اللجنة الدستورية قد وصلت بالفعل إلى حائط مسدود بعد فشل زيارة بيدرسون إلى دمشق في 21 فبراير، حيث رفض نظام الأسد مقترحات بيدرسون المتعلقة بتحديد جدول زمني لعمل اللجنة، وآلية عمل جديدة، إذ أكد وزير الخارجية السوري فيصل المقداد أن اللجنة سيدة نفسها، وعلى بيدرسون أن يحافظ على دوره كميسّر محايد.22
وبات واضحاً أن النظام يضع عدداً من القضايا على طاولة المساومة للانخراط جدياً في المسار الدستوري، من نوع رفع الحصار الاقتصادي عن سوريا، وخروج القوات التركية والأمريكية، والسماح له باستعادة بقية الأراضي السورية، من منطلق أنه إذا كان مطلوب منه تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 بشأن مسار الحل السوري، فإن على الأطراف الأخرى احترام القانون الدولي سواء عبر رفض الحصار أو إنهاء احتلال الأراضي السورية.
والسؤال الذي يُطرح الآن هو كيف سيكون موقف الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، على اعتبار أنهما الطرفان اللذان انتقدا نتائج اللجنة الدستورية؟ فهل سيُقْدمان على تقديم بديل حقيقي توافق عليه الأطراف ويقود إلى الحل السياسي السوري، بعد أن بات الحل السياسي في سوريا أقرب إلى المستحيل في ظل رفض نظام الأسد التعاطي بإيجابية، وعدم وجود ضغوط حقيقية تجبره على الالتزام بتنفيذ قرار مجلس الأمن؟
الثاني، انسحاب المعارضة من اللجنة الدستورية أو تجميد مشاركتها فيها، لعل الأطراف المعنية تسمع صوتها وتستجيب لشكواها، ونزولاً عند الضغط التي تتعرض له من القواعد الاجتماعية ومؤسسات وجهات إعلامية معارضة تطالبها بالانسحاب من عملية يحقق فيها نظام الأسد مكاسب كبيرة دون تقديم أي تنازل. لكن المعارضة تخشى بالمقابل أن يعود عليها مثل هذا الموقف بنتائج سلبية، وتستثمره روسيا بتصوير الأمر على أن المعارضة غير جدية في بحثها عن حل للأزمة السورية.
الثالث، أن يتم إعادة النظر في تركيبة المعارضة باللجنة الدستورية، وهو تحرك قائم وتشجعه روسيا، بحيث يصار إلى زيادة تأثير المنصات، وإشراك "قسد" على حساب "هيئة التفاوض" التي سيتراجع تأثيرها، وتصبح مضطرة إلى خفض سقف مطالبها من المفاوضات في حال أرادت الاستمرار كطرف في العملية السياسية. وما يشجع مثل هذا الاحتمال تراجُع أهمية الملف السوري دولياً، وقد أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن سوريا لم تعد على سلم أولويات المجموعة الدولية،23 كما أن إدارة بايدن تُولي الأهمية لإنجاز الاتفاق النووي مع إيران ولم يصدر عنها حتى اللحظة مؤشرات تدل على اهتمامها بالموضوع السوري.
الرابع، معاودة روسيا الضغط على نظام الأسد لإبداء نوع من المرونة الشكلية في بعض القضايا التفصيلية، مع استمراره في سياسة إغراق المفاوضات بالمقترحات والطروحات المختلفة، إلى حين تمرير الانتخابات الرئاسية، وعندئذ تكون فعالية اللجنة الدستورية قد انتهت ولم يعد لها لزوم، أو ستكون المعارضة ملزمة بالقبول بالأمر الواقع المتمثل ببقاء الأسد رئيساً لسبع سنوات مقبلة، وقبول بعض المناصب الحكومية غير المؤثرة.
خلاصة واستنتاجات
- قرعت تصريحات مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسون، جرس الإنذار حول العملية السلمية، خاصة بعد تأكيده صعوبة الاستمرار وفق طريقة العمل الحالية، إذ لم تتمكَّن اللجنة الدستورية، بعد عام ونصف من انطلاق أعمالها، من تحقيق أي تقدم يُذكر. وسارع، ما يُسمى بـ "الضامنون" (روسيا وإيران وتركيا) إلى جولة جديدة من اجتماعات أستانة "أستانة 15" التي كانت قد تعطَّلت منذ أكثر من عام، فيما بدا أن الهدف منها إنقاذ العملية السياسية في سوريا، لكن البيان الختامي الذي أصدرته المجموعة كشف أن التركيز الأساسي لهذه الأطراف محصور في الحفاظ على مصالحها، ورغم اتفاق هؤلاء على الحفاظ على مصالحهم في سوريا، إلا أنهم متباعدون في رؤيتهم للحل، وكان المستوى المنخفض للمشاركة في الاجتماعات مؤشراً على هذا التباعد.
- يعكس الاستعصاء الحاصل في مسار العملية السلمية السورية التي تقودها الأمم المتحدة عدم نضوج الظروف للوصول إلى حل سياسي للأزمة. وإذ تنتظر الأطراف الفاعلة معرفة توجُّهات إدارة بايدن، فإن أغلب الفاعلين يحاولون التمسُّك بمكتسباتهم، وبات من الواضح أن المقاربات القديمة للحل قد استُنفِدت ولم تعد صالحة، وقد عبَّر المبعوث الأممي غير بيدرسون عن عدم إمكانية الاستمرار بعمل اللجنة الدستورية وفق الطريقة التي تدار بها الآن. وهذا ما يفتح الباب أمام جملة من الاحتمالات: الأول، البحث عن بدائل جديدة من منطلق أن اللجنة الدستورية قد استنفدت إمكانية الوصول إلى حل للأزمة السورية؛ والثاني، انسحاب المعارضة من اللجنة الدستورية أو تجميد مشاركتها فيها؛ والثالث، أن يتم إعادة النظر في تركيبة المعارضة باللجنة الدستورية، وهو تحرُّك قائم وتشجعه روسيا؛ والرابع، معاودة روسيا الضغط على نظام الأسد لإبداء نوع من المرونة الشكلية في بعض القضايا التفصيلية.
- -----------------------------------------
- المصدر| مركز الإمارات للسياسات