الاقتصاد
كلمة التنين..
كيف استطاعت الصين انتشال أكثر من 700 مليون مواطن من الفقر
طبعا إنها الصين ، العملاق الهادئ ، تكنولوجيتها واقتصادها هما الأسرع في العالم ، وسياستها هي السياسة الأهدى في العالم ، إنه التنين الأصفر رمز الخير ورمز القوة المتحكمة بالطبيعة ، بل ورمز القوة والسلطة المطلقة في الأساطير والثقافة الصينية.
فعلى الرغم من أن الصين ارتدت ثوب الشيوعية في 23 أكتوبر سنة 1921م على يد مؤسسو الحزب الشيوعي الصيني تشن دوكسو ولي تاتشاو. أي قبل تأسيس جمهورية الصين الشعبية بحوالي 28 عاما ، حيث تأسست جمهورية الصين الشعبية في 1 أكتوبر سنة 1949م.
وعلاقتها بالاتحاد السوفيتي هي العلاقة الأقوى من بين دول الكتلة الشيوعية، إلا أنها في الوقت ذاته لم تكن الصين كالكثير من حال الدول الشيوعية "كتابع" للاتحاد السوفيتي ، ففي الوقت الذي كانت فيه الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وباقي الدول التي تدور في فلكه تسحق كل الثقافات والأعراف الدينية والاجتماعية للشعوب ليحل محلها الفكر الشيوعي في كل الدول الشيوعية اعتقادا منهم بمثالية الشيوعية كفكر ونظام ينظم حياة البشرية ، ويحقق العدل والمساواة بين الناس ، فإن الصين حافظت على ثقافتها وعاداتها وتقاليدها الدينية والاجتماعية ، وكانت وما زالت تقيم المهرجانات والاحتفالات إحياء لثقافتها الصينية ورفضت أي ثقافة أو فكر دخيل على المجتمع الصيني.
كما رفضت الإملاءات الخارجية عليها وانتهجت سياسة خاصة بها تتماشى وفق المجتمع الصيني مع الحفاظ على النظام الشيوعي كخطوط عريضة قابلة للتغيير في التفاصيل ولعل ذلك هو سر القوة والتقدم الذي وصلت إليه اليوم الصين في كل المجالات.
فمثلا في المجال الاجتماعي عندما انتهجت الصين سياسة الطفل الواحد لمدة 37 عاما تقريبا منذ عام 1978م وحتى عام 2015م ، والمعروفة رسميا باسم "تنظيم الأسرة في جمهورية الصين الشعبية" لم يكن ذلك أبدا بضغط وشروط من صندوق النقد الدولي لمنح الصين قروضا مشروطة مثلا أو غيرها من المنظمات الدولية ، كما هو الحال مع بعض الدول ، وإنما كانت سياسة مدروسة لظروف المجتمع الصيني آنذاك ، وتتلخص تلك السياسة في منع الإنجاب لأكثر من طفل واحد لكل عائلة صينية في المناطق الحضرية ، بينما يوجد في ذلك القانون أو تلك السياسة حالات إعفاء في المناطق الريفية وللأقليات العرقية والآباء والأمهات الذين ليس لهم أشقاء ، كما لم تطبق هذه السياسة أو هذا القانون في المناطق الإدارية الخاصة مثل التبت وماكاو وهونج كونج.
كانت الصين قد وضعت تلك السياسة لتخفيف المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، إضافة إلى التطبيق الصارم لقانون سياسة الطفل الواحد من قبل الحكومة الصينية ، فإن الكثير من الأسر الصينية التي لم يشملهم القانون بادروا بمحض إرادتهم بعدم الإنجاب لأكثر من طفل واحد نظرا لظروفهم الاقتصادية أو لعدم وجود وقت كاف لديهم للتفرغ لتربية الأطفال ، ولعل تلك الظروف التي مرت بها الصين حدت بشكل كبير جدا من عدد المواليد في البلاد.
بالرغم من أن هذه السياسة أثارت الكثير من الجدل بسبب المخاوف من العواقب الاجتماعية ، حيث تسببت في زيادة حالات الإجهاض القسري وتسببت أيضا في عدم التوازن بين الجنسين في الصين ، كما تسببت في زيادة أعداد كبار السن وتقلصت الطاقات الشبابية. مع كل تلك السلبيات إلا أنها كانت ضرورة لمرحلة تمر بها البلاد ، ثم ألغيت هذه السياسة في 29 أكتوبر سنة 2015م ، لكن تخيل معي عزيزي القارئ لو أن الصين لم تنتهج تلك السياسة على مدى 37 عاما لكان تعداد الصين اليوم نصف تعداد البشرية على كوكب الأرض.
وأما عسكريا فإن الصين التي مرت بحروب كثيرة ، ولعل أبرزها الحربين العالميتين الأولى والثانية ، فقد شاركت الصين في الحرب العالمية الأولى في عام 1917م وحتى عام 1918م في تحالف مع دول "الوفاق الثلاثي" فرنسا والمملكة المتحدة وروسيا ، بيد أن الصين لم ترسل قوات خارج البلاد قط ، إذ خدم 140 ألف عامل صيني "كجزء من الجيش البريطاني فيلق العمل الصيني" في القوات البريطانية والفرنسية على حد سواء ، وذلك قبل نهاية الحرب العالمية الأولى ، حيث تزعم رئيس وزراء الصين آنذاك دوان كيروي عملية تدخل الصين في الحرب العالمية الأولى بإعلان وقوف الصين إلى جانب الحلفاء ضد "قوى المركز" ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية.
أما الحرب الصينية – اليابانية التي دامت بين أعوام 1937م حتى 1945م كانت المرحلة الأكثر دموية والأكثر تجاهلا من الحرب العالمية الثانية ، حيث اجتاحت اليابان شمال الصين عام 1931م واندلعت الحرب عام 1937م بين قوات الإمبراطورية اليابانية وبين القوميين والشيوعيين الصينيين الذين تهادنوا من أجل مواجهة العدو المشترك.
دفع الصينيون ثمنا باهظا في هذا الصراع ، حيث قتل حوالي 20 مليون صيني من أصل أكثر من 70 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية. ارتكبت القوات اليابانية الفظائع في مدينة نانجنج بين ديسمبر 1937م ويناير 1938م ، حيث قتلت القوات اليابانية أكثر من 300 ألف شخص واغتصبت أكثر من 20 ألف امرأة قتل منهن الكثير.
كان الهجوم الياباني على الأسطول الأمريكي القابع في المحيط الهادي في قاعدته البحرية في ميناء بيرل هاربر بجزر هاواي سببا بالربط بين الحرب الصينية – اليابانية والحرب بين الحلفاء والمحور في أوروبا.
دخلت الصين بين صفوف الحلفاء ، كما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب مما أضعف الموقف الياباني في جبهة المحيط الهادي وقادها إلى هزيمتها عام 1945م.
ترك الغزو الياباني وراءه ندوبا لجراح عميقة جدا في نفوس الصينيون ، ومنها مثلا ما يخص "نساء المتعة" اللواتي كن نوعا من الجواري في خدمة الجنود لرفع معنوياتهم. ولعل ما مرت به الصين من مآس وحروب جعل منها الصينيون حافزا قويا للاهتمام بالقوة العسكرية وإعطائها الأولوية كونها الحامي للجغرافيا الصينية وكل ما عليها ، ولم تعتمد الصين على دولا أو تحالفات لحمايتها ، بل طورت من قدراتها العسكرية ذاتيا بخبرائها وإمكانياتها الهائلة ؛ حتى أصبحت الصين اليوم ثالث أكبر قوة عسكرية في العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا ، وربما تتخطى هاتين الدولتين في المستقبل المنظور لتصبح القوة العسكرية الأولى في العالم.
لم يتوقف طموح الصينيون عند المجال العسكري فحسب ، بل أدركوا بأن هناك قوة لا تقل أهمية عن القوة العسكرية ألا وهي القوة الاقتصادية ، نعم القوة الاقتصادية وهي العمود الذي ترتكز عليه كافة المجالات لنمو وتطوير البلاد بما فيهم المجال العسكري ذاته. فقد أولت الحكومة الصينية اهتماما كبيرا للاقتصاد ، ففي الوقت الذي لم تجر فيه أي دولة شيوعية إصلاحات اقتصادية إلا مع بداية انهيار الشيوعية عام 1989م ، كانت الصين قد أعلنت عن البرنامج الإصلاحي الصيني عام 1978م وهو فتح الباب أمام التجارة العالمية ، وحددت عملتها اليوان كعملة لتجارتها الخارجية ، وذلك كخطوة أولى لإصلاح النظام الاقتصادي ، ثم أنشأت أربع مناطق اقتصادية لتشجيع الاستثمار الأجنبي والاستفادة من مواردها البشرية الهائلة.
وفي عام 1982م وضعت الصين خطة لست سنوات تهدف لتحقيق النمو في اقتصاد السوق ، أدخلت الصين تعديلات في بنود دستورها لحماية الأملاك الخاصة ووقعت على اتفاق تحرير الأسواق مع عشر دول في جنوب شرق آسيا ، وذلك بعد أن اعترف الحزب الشيوعي الصيني الحاكم عام 1987م بدور القطاع الخاص كمكمل ضروري جدا للقطاع العام الذي كان يعاني في بعض قطاعاته.
دخلت الصين في منظمة التجارة العالمية بعد بضعة تعثرات اجتازتها بنجاح وفتحت أسواق الأسهم للمستثمرين الأجانب وعملت على تقوية العلاقة الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
اعتمدت الصين على "التقنوقراط" أي الإداريين في حل المشاكل الصينية ودفع عجلة التطوير وتشغيل الصينيين ، وكان هؤلاء خير نخبة يعتمد عليها في حل المشاكل في الصناعة والتطوير العملي والانتقال من مجتمع زراعي بحت إلى مجتمع صناعي بامتياز.
فاستطاعت الصين بذلك انتشال أكثر من 700 مليون مواطن من الفقر من أصل أكثر من مليار و400 مليون نسمة هم تعداد سكان الصين.
بعد النجاح المبهر ، بل وبعد المعجزة الاقتصادية التي حققتها في فترة وجيزة زحفت الصين نحو القارة السمراء المليئة بالخيرات والموارد الطبيعية ، لكن ليس بجيوشها ، كما فعل الغرب ، بل زحفت حاملة معها منتجاتها وتكنولوجيتها ، وعقدت اتفاقيات مع عدة دول أفريقية للقيام بمشاريع ، مثل بناء محطات الكهرباء واستصلاح الأراضي الزراعية وبناء السدود والبنى التحتية لعدة دول في القارة. فعلت الصين ذلك بهدوء خارج حدودها ، كما فعلته داخل جغرافيتها.
لم يهدأ التنين حتى أصبح اسم الصين اليوم في كل بيت تقريبا على كوكب الأرض من خلال منتجاتها التي غزت العالم وهي منتجات متعددة الجودة أي تتناسب مع كل فئات وطبقات المجتمعات في العالم بما فيهم المجتمع الأمريكي ، وحتى المجتمعات الأوروبية التي بات سياسيوها متخوفون من "رقصة التنين" التي جذبت إليها سكان كوكب الأرض ، كما تجذب رائحة الأزهار النحل إليها.
تبنت الصين سياسة فريدة من نوعها ، خطوط عريضة للشيوعية في الواجهة لكنها مزيج من الرأسمالية والاشتراكية في التفاصيل ، وخصوصا في المجال الاقتصادي تحت قيادة ورقابة صارمة من المركز وهو الحزب الشيوعي الصيني الحاكم ، فلا مجال لأخطاء المسؤولين الصينيين من رئيس الدولة إلى أصغر موظف في التراب الصيني. فالقانون في الصين يضرب بيد من حديد لكل من تسول له نفسه المساس بممتلكات ومكاسب الدولة ، لذا فإن الصين هي الدولة الأقل فسادا في العالم في إدارة الدولة من حيث الرشوة أو المحسوبية أو التلاعب بالمال العام مثلا أو غيرها من المخالفات.
تحولت الصين إلى مصنع ضخم على كوكب الأرض وشددت على العلاقات التجارية مع دول العالم مع الحفاظ على سياسة خارجية منخفضة وأقل أيديولوجية ، واكتسبت الصين ثقة الكثير من دول العالم من خلال سياستها المتوازنة في علاقتها مع الجميع دون أن تحيد إلى طرف على حساب طرف آخر ، وذلك إيمانا منها بأن مسار الانفتاح على الآخر والدفع بعملية التنمية والتعليم والتعاون المشترك بين دول العالم هو السبيل الأمثل للوصول لعالم أكثر تقدما وأمنا وسلاما.
بلدا ضاربة حضارته في أعماق التاريخ وهي الحضارة الأقدم في العالم ، وقد أبدع أصحابها في شتى مجالات الحياة ، وها هم الأحفاد ينهضون من تحت ركام الحرب العالمية الثانية ليرسموا طريقا جديدا للعالم لعله الطريق الأمثل كما قالوا. ولم لا وهم يرددون في كل صباح ضمن نشيدهم الوطني قائلين "من دمنا .. من لحمنا .. نبني لنا سورا عظيما جديدا" وها هو سور الصين العظيم الجديد يبنى ، لكن سور الصين العظيم الجديد لن يقتصر على الجغرافيا الصينية ، بل سيمتد شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا على سطح كوكب الأرض لحماية المصالح الصينية.
لم تنصب الصين نفسها "شرطيا للعالم" ولم تتدخل قط في شئون الدول ، وبالمقابل ترفض جملة وتفصيلا التدخل في شئونها ، لقد استحقت وبجدارة الاحترام من كل دول العالم وتستحق وبجدارة أن ترفع لها القبعات عند ذكر اسمها إنها «جمهورية الصين الشعبية».