الأدب والفن
قصة قصيرة..
لقد دُعيت – (3)
صادَفَ أن سبقني سَكَنًا في البنايةِ،
رجُلانِ محترمانِ من الأردن،
تعرفتُ عليهما، فكانا على مستوىً عالٍ من الأخلاق،
تبيّن بعدها، أنهما مختاران ووجهان في مناطقهما.
كان أحدُهما لا يأكل إلّا أن يأتي إلى غرفتي،
ويدعوني للأكل معه، حيث كان قد جَلَبَ من الاردن
مأكولاتٍ طيبةً،
من زيتونٍ، وجبنٍ، وزعترَ، وخالص زيتِ الزيتونٍ.
صدقًا شعرتُ بأن اللهَ راضٍ عني لما صادفت،
وإني لَأرجوه.
كنتُ اذهبُ الى الصلاةِ في المسجد* كلَّ وقتٍ،
فلم يكن ليبعدَ عني غيرَ أمتار.
وكنت اجلس وقتًا طويلًا في حَرَمِه،
تعرفتُ فيه على اناسٍ كثيرين من أماكنَ مختلفة.
الاخُ المؤجِّرُ خالدٌ، أَحاطني برعايةٍ خاصةٍ هو الاخرُ،
حيث كان يتفقدني، وأحيانًا كان يطرقُ البابَ،
يسألُني اذا كنت محتاجًا لشيئٍ،
لقد نفَّذَ الرَّجلُ جميع ما اقترحت.
في يوم من الأيام قال لي:
(انا أدعوك للغداء، فاِن زوجتي قد طبخت،
وما عليك إلّا ان تخبرَني متى اجلبه لك).
يا الله، تسخِّرُ لي من يخدمني دون أن استحق؟!!
انه الامتحان لا شك!
مرَّ وقتٌ ليسَ بالطويل،
وحين رجعت من المسجد،
إذا به يأْتي باۤنيةٍ من الأكلِ على الطريقة المصرية.
أحببتُ ما قدَّم فقد كان شهيًّا،
ولأني أخشى الأكلَ في المطاعم،
قلت له اني سأترُكُ ما تبقّى من الأكل في الثلاجة لأوقات أخرى،
ولتقُلْ عني زوجتُك ما تقول،
وفعلًا كان هذا، وكنت لهما من الشاكرين.
سبعةُ أيامٍ ويحينُ يومُ الترويةِ، فنذهب إلى منى.
قضيتُ وقتي الذي كنت قد خططتُ أن أبيت خلالهُ،
جوارَ قبرِ الحبيب المصطفى،
بين محلِّ إقامتي في العزيزية الشمالية، والمسجدِ،
وبعضِ مناطقِ مكَّةَ المحيطة.
شاءَ اللهُ لي أن اكون تارةً تلميذًا،
يتعلمُ مما يرى حالًا ومقالًا،
وتارةً اخرى، انبري معلمًا مجيبًا
بما امتلكُ من قدرٍ متواضعٍ من المعرفةِ،
على أسئلةِ اۤخرين.
رأيتُ سلوكياتٍ حمدتُ الله أَني امتلكُ نفسًا تأنفُ أن تسلكَها،
وسلوكياتٍ غَبَطْتُ أصحابَها عليها.
وأزعم أني تركت أثرًا فيمن التقيتُ،
حيثُ لمستُ ذلك التأثيرَ يظهرُ في تفاعلهم معي،
عندما كنت اتحدث إليهم،
كما احسست في القليلِ مما تبوحُ به سرائرُهم ،
أو هكذا أتصور؛ أصبتُ ام أخطأت.
كان ممن التقيتُ، شابٌّ من يدوِ سيناءَ بمصر،
التصقَ بي، تكرر لقاؤنا، فاِن لم نستطعِ اللقاءَ تهاتَفْنا.
أذكرُ أنَّه صَحِبَني الى محل سُكناه،
واقْترحَ ان أترُكَ سكني،
واؤجرَ في العمارةِ التي يسكنُها،
لكي نكون قريبين من بعضنا،
لكني فضلت ان أبقى في مكاني
الذي استأجرتُ، ودفعت إيجاره مقدَّمًا.
شابٌّ آخر من اليمن، يقيم في الرياض،
لكنَّه جاء مع ابْنِ عمِّه وجَدِّهِ،
للشغل في مكةَ لدى احدى الجمعيات الخيرية،
التي تقدم خدماتها مجانًا لِطَيْفٍ من الحجاج الفقراء،
ونحنُ، لا شكَّ، جميعًا فقراء، اقتنعنا ام كابرْنا.
في البداية رأيتهما فتوقعتهما من اليمن،
فتكلمتُ بلهجةٍ تعْزِيَّةٍ فهماها، واِن تبين فيما بعد،
أنهما من صنعاء.
جلست معهما على رصيفِ الشارعِ العام،
وقد انشدّا اليَّ عندما استمرَّ حديثي معهما.
كانا متحَمِّسَيْنِ أن يقدما ما يستطيعان من خدمةٍ لي،
فشكرتُهُما وغادَرْتُ لكنَّ أحدَهما اخذَ رقمَ تلفوني،
وبقي يتصل للسلام حتى مغادرتي مكة،
واستمرّ َاتِّصالُه لأكثرَ من عام!
من جدير ما اذكر اني لاحظت أنهما استمرّا
يكرران مخاطبتي بكُنيتي
دون ان يخطئ ايٌّ منهما او يتلكأ ولو لمرة،
تبين أن أحدَهما يكنّى بنفس الكنية.
كان ضمن لقاءات الصدفة، وأنا لا أُؤمنُ بالصِّدفة،
لقاءي مع شبّانٍ أربعةٍ،
في مراحلَ واختصاصاتٍ مختلفةٍ في دراستهم الجامعية.
لا اتذكرّ مالذي جعلنا نتبادلّ الحديث وكيف بدأ.
تكلمت معهم بما اقتضاه النقاش،
سرَّني انهم في نهاية الحديث، سألوني بماذا انصحهم.
حقا لمستُ منهم انهم كانوا مُمْتَنّين،
وكنت أيضا كذلك لأَني أستعملتُ وقتي
في إفادة من يتطلع الى الأِستفادة.
لم تخلُ نقاشاتي مع آخرين من ندمٍ،
حين اكتشفُ العُقمَ والضحالةَ في تفكيرِ البعض،
لأَخرُجَ شاكرًا اللهَ أن جنَّبَني لوثةَ العقلِ وسوادَ السريرة.
لا أريدُ أن أعرِّج إلى أمثلةٍ تثيرني وتثير القارئ.
بقي أن أقول أني شعرتُ حقًّا قد دُعيتُ،
والحمد لله إذ دعاني فاسْتَجَبْت.