الأدب والفن
قصة قصيرة..
لقد دُعيت – (5)
في اليومِ التاسعِ من ذي الحجة عام 1439،
ركبْنا الحافلاتِ وذهبنا إلى عرفات.
كان يومًا مشهودًا قضيناهُ بالصلاةِ،
والقرآنِ،
والدعاء.
من مفارقات هذا اليوم،
أني خرجْت من الخيمة التي أُعِدَّت لنا،
أحْمِلُ كوبي وكيسًا من أكياس الشاي التي جلبتها معي،
أبحثُ عن ماءٍ مغليّ.
تجولْتُ بين الخيام،
فرأَيتُ شابًّا مصريًّا يبيعُ الشايَ جاهزًا مع الكوب بريالينِ.
قلتُ له اريدُ ماءً فقط، فلا كوبًا اريدُ، ولا شايا،
قال أعْطِني ثلاثةَ ريالات.
ظننتُ أنَّهُ يمازحُني، وحينَ عرفتُ انهُ يعنيها،
قلت له كيف يكونُ ذلك؟
تبيع الجملَ وما حملَ بريالين، وتطلب مني ثلاثةً للماءِ فقط!
لم أُطِلْ، اعطيْتُه ورقة بقيمة عشرة ريالاتٍ،
فإذا به يعطيني خمسةَ ريالاتٍ فقط قائلا (معنديش فكة)!!
قلت لنفسي: أنتِ في عرفات.
وأنا اِن نسيتُ فلن انسى أخا هيوستن واسْمه سلام،
كان ملازمًا لي هناك، حيث بقينا معًا في نفس الخيمةِ،
منذ حللْنا في منى، وبعدها في عرفات، ثم مزدلفة فافْترقنا عندها،
لكننا بقينا على اتصال مستمرٍّ لحد الآن.
كان الرجلُ طيب النفس، إذ كلما ارادَ ان يأكل شيئًا قاسمني ايّاه.
أذكر أنه ارادَ ان يذهب إلى جبلِ الرحمةِ مصطحبًا زوجتهُ الشاميَّةَ،
فعرضَ عليَّ ان اذهبَ معهما.
ترددتُ، فلم أُردْ أن أقحِمَ نفسي في مشيٍ ظننْتُه طويلًا،
سيما اني كنت في جبل الرحمة قبل اشهرٍ عندما جئت للعمرة،
والارضُ كلُّها عرفة.
شجَّعني مُلِحًّا فصحبتُه.
كانت زوجتُه انسانةً فاضلةً كريمةً، راحت تتقدمنا،
فقطعنا مشيًا ما يقربُ من ميلين حتى وصلْنا جبلَ الرحمة.
جلستُ ودعوتُ اللهَ في ذلك الصعيد الطيب مستذكرًا حضرةَ النبي،
في اخر خطبةٍ له اسفلَ هذا الجبل.
كانت ساعات تأمُّلٍ حُفرتْ في الذاكرة،
لا أظن أنها ستُمحى طالما حييت.
عدنا بعد جبل الرحمة الى خيامنا.
وهكذا في وقفتنا ومكوثنا عند عرفة،
نكون قد انهيْنا الركنَ الاساسَ للحج،
اذ لا حجَّ دون عرفة.
في الليل تهيأْنا للنفيرِ من عرفات إلى مزدلفة.
وصلناها ثم صلينا المغربَ والعشاءَ جمعًا وقصرًا.
بعدها توزعنا مجاميعَ صغيرة.
منا من اسْتلقى على الارض،
ومنا من انْشغلَ بجمع حُصَيّاتٍ لتُرمى في منى.
كانت عندي قنينةٌ فارغةٌ، ملأْتُها بسبعين حُصَيّةً،
ووضعتها في حقيبتي.
بعد ان ارْتحْنا في فضاء مزدلفة قليلًا،
تكلم الأخ المصري الذي رافقنا من مكةَ ثم مِنى،
عن وقت المغادرة المسنون.
ومن طريف ما اذكرُ، أنّه كان يعتقدُ أني أصغرُ سنًّا مما انا عليه،
وحين أبلغتُه بعمري، قال بأسلوبه المرحِ:
ان العلماء لهم الرخصةُ أن يفيضوا مبكرًا، قبل صلاةِ الفجر وهو يبتسمُ،
وكأَنه يقول لي اذا أردتُ ان أفيضَ مبكِّرًا، فلي ذلك ولا تثريب.
على أيةِ حالٍ فضّل البعضُ ان يمشيَ من مزدلفة الى منى،
اما انا وأغلبُ الحجيج فقد اۤثرْنا ركوبَ الحافلاتِ،
لسهولتها، ولكي نتفادى مخاطر الازدحام.
تمكنت من أن اركب في أحدى الحافلاتِ،
وكان معي الاخ العراقي من الامارات وزوجته.
بعد وقت وصلنا مِنى حيث الخيمةُ التي كنا فيها،
قبل أن نغادرَ إلى عرفات.
كنت انوي البقاءَ في الخيمة،
تركت حقيبتي فيها على أن أعودَ بعد رمي الجمرة الكبرى،
إلّا أن الاخ العراقي وزوجته،
بالإضافة إلى شاب عراقي من السويد رأيتُه في طريقي،
أَقنعوني بأخذ الحقيبة معي، والمشي إلى الجمرات،
فالغالبيةُ سوف تغادرُ الخيامَ دون العودة الى منى،
فرجعتُ واخذتُ الحقيبة.
كان العراقي وزوجتُه في انتظاري.
سرنا، ونحن في الطريق،
رأيتُها تتكلمُ مع شابٍّ صغيرٍ يدفع كرسيًّا متحركًا،
فقالت لي اِن كنت تتردَّدُ في المشي،
فهذا سيدفعك إلى هناك لقاءَ مبلغٍ معينٍ، ونحن نمشي معك فضحكتُ،
ومشينا نحن الثلاثة، ملبّين مكبّرين حتى وصلنا بعد نصف ساعة.
كان الازدحام على أشدِّه، ولكن اللهَ يسَّرَ،
فقطعنا المسافةَ من منى إلى الجمرات دون عناء.
رميتُ جمرةَ العقبةِ الكبرى، لكني لم أرَهُما بعد ذلك.
كنت مبتئسًا أننا لم نتبادلْ ارقامَ التلفونات،
فأضعْنا فرصةَ التواصلِ،
بعد صُحبةِ المشاعر الثلاثة، التي كانت رائعةً جدًّا.
فرغت الآن من رمي الجمرة الكبرى،
وبدأتُ ابحثُ بعد أن خرجتُ من مواضعِ الرميِ،
عن مكتبٍ يتولّى ذبحِ الهَدْي المطلوب نيابة،
واخيرًا وجدتُ مكتبًا يتولّى ذلك، فدفعتُ مبلغَ الهدي،
وغادرتُ مشيًا إلى البيت الذي اسكنه في العزيزية.
في الطريق حلقت رأسي، وعندها كنت مهيَّئًا لخلعِ الاحرام.
وصلتُ البيت واغتسلتُ وارتحتُ،
فحمدتُ اللهَ أني أنجزتُ الجزءَ الكبيرَ من أركان الحج.