الأدب والفن
الشاعر اليمني وحرب صيف 94م..
عبدالله البردوني.. هكذا كانت محطتي الأولى مع شاعر اليمن في رحلة دراستي الجامعية
في البدءِ نترحمُ على الشاعرِ الكبير عبدالله البردوني، الذي غادرَ هذه الدنيا في شهرِ أغسطس من عامِ 1999م، وبعد مرورِ 22 عامًا يبعثُ البردوني من جديدِ ولا غرابةَ في ذلك فهو المتجددُ في كلّ زمانِ ومكان، وما زالت قراءتهُ للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لبلده تتجلّى في ثنايا نصه الشعري.
وفي صباح 10 أغسطس من عام 2022م وقع في يدي ديوانا البردوني ( ابن من شاب قرانها ) ، و( العشق في مرافئ القمر ) اللذان ظلا مفقودين لعقدين من الزمن.
لقد غمرتني الفرحة برؤية هاذين الديوانين، لما لي من ارتباطٍ فكريٍّ وعاطفيٍّ بتجربةِ البردوني الشّعرية حيث أنني شديد الإعجاب بهذا الشاعر العملاق الذي لو كان في بلدٍ غير بلده لوُضع له عيدًا وطنيًا واحتفاءً عربيًّا بل وإقليميًّا..ولكونهِ من اليمن ظلّ غريبًا ومغتربًا ويعاني الغربة والاغتراب حيّْا وميتًا .
كانت محطتي الأولى مع البردوني في رحلة دراستي الجامعية، حين غامرتُ في الخوض في تجربة هذا الأديب والناقد والمفكر والشاعر ، وظللتُ سنةً كاملةً أجمعُ أعمالَه الشعرية والأدبيّة والنثريّة والنقديّة لعلّي أجدُ وميضًا من النورِ للولوجِ في تجربتهِ الشعرية وبفضلِ الله تعالى ومن ثم جهود أستاذي الكريم وقدوتي الحسنة أ. د سالم السّلفي، حفظَه اللهُ ورعاهُ ، الذي شجّعَني على خوضِ مسالكِ البحثِ العلمي لاسيما النّقد وفق المنهج الأسلوبي، حينها أتخذتُ القرار في اختيارِ أعمال البردوني الشعريّة الكاملة التي تضمُّ 12 ديوانًا شعريًا، لكن القرار الأصعب هو من أين تبدأ أمام هذا الكنز الأدبي العظيم؟
لم يكن أمامي إلا أن أسيرَ وفق المنهج المحدد سلفا ،فاخترتُ دراسة الظاهرة الأدبية الأكثر تردّدا وشيوعًا في تجربتهِ الشعريةِ فكانت النتيجة أن "الاغتراب" هو الموضوع البارز الذي تجلّى بوضوح فكان عنوانُ الرسالةِ الاغترابُ في شعرِ البردوني ،دراسةً أسلوبيةً، وحينَ وقفتُ على إنتاجِ البردوني الشّعري وجدتُهُ يُعاني تجربة الغُربة والاغتراب نفسها التي يُعاني منها الشّاعر ووطنُه وشعبُه، لقد غابَ ديوانا البردوني ( ابن من شاب قرانها )و ( العشق على مرافئ القمر ) اللذان كانا الخاتمة المسك لتجربةِ الشَاعر العظيم، أمّا بالنسبة لي كباحثٍ في تجربةِ البردوني فقد كنتُ في شوقٍ كبيرٍ للوصول إليهما، لكنّ السبل تقطعت بي لكونهما معتقلين في دهاليز السياسة وحماقة الورثة الذين يجهلون قيمةَ هذا الكنز المفقود..
وبفضل الله تعالى ثم الشرفاءِ من زملاء ورفقاء الفقيد الراحل عبدالله البردوني..عاد هذا الكنز المفقود .
ومن هنا قررتُ استكمالَ الرحلة الاغترابية مع عوالمِ البردوني الاغترابية التي تجسدت في كلّ ما يحيطُ ويتعلقُ بالشاعر .
وفي هذه المناسبة اخترتُ أول قصيدةٍ في ديوان ( ابن من شاب قرانها ) .. والمعنونةُ بصيفِ 94م يقولُ في بعضِ أبياتِها:
ترى عدنًا يا شيخَ عثمانَ طلقةً
تروع المنايا زاحفاتٍ وحوّما
أشاهدُها تُرمى وترمي وما انحنت.
ولا هادنَ الغازي ،أصرّت وصمما.
وكانت تُحامي عن ثراها وأهلِها.
وكان يحمّي الصيفَ كي يطبخَ الحمى .
تساقي وتستسقي وترتدُّ مثلها .
تعودُ الروابي في الدمِ المرّ عوّما.
أنالت جنودَ الشمرِ نصفَ غديرها
فلما تولّى عسكرُ الشطّ أسهما
تناجت أهنس اليوم عادَ
معرّبا
قياسًا بصنعا كان أرقى
وأنظما
فما ابتزّ أسواقًا ولا ناشَ منزلا
ولا غالَ مخمارا ولا أجتثَّ مطعما
ولا استلّ عقدَ البنت أو مرقمَ الفتى
ولا استنزفَ السماك تسعينَ درهما
وأمّا أخونا انصبَّ كالسيلِ كيفما
أرادَ به الإعصار أدمى وحطما
تعاوت كأسرابِ الدخانِ جيوشُه
كما تدفعُ الأمواجُ موجًا مضرّما
أجئتم تحيلون الديارَ خرائبا
أأتدر لماذا تهدمون المهدّما
وتلك البيوت الغبر ما كان ذنبُها؟
على حلقِنا استعصت لحومًا وأعظما
وما ذنبُ دُوْرِ الكتبِ قالوا أرتهمُ
سوى ما نراهُ ثقفت من تعلّما
فبولوا على تلك الكراريسِ كُلكُم
وسمّوا رفيقَ الحبرِ وغدًا ومجرما
صفوه شيوعيًّا ولو كانَ
حاكرا
ونادوه بوذيًا وإن كانَ
مسلمًا
فمن ذا سوى الأنقاضِ يتلُو الحصى دما
ويستوقدُ الأشباحَ جمرًا تفحّما
فلا جولدمور اليومَ يحضنُ شاطئًا
ولا مرقص النادي ولا دار سينما
ولا زامر الحيين يستزفُ الذُّرى
ويحدو الى سعد العشيرة جُرْهُمَا
ولا صاقلَ الأعراقِ لا حاضرَ الهدى
إذا استطعمَ الأخدودُ في النار مريما
فيا راكًبا أما عرضتَ فبلغن
نداماي ما في الكأس شيءٌ سوى الدِما
وحيّ البريقةَ والحسيني وشبوةً
ويا حاديَ الحُجَاجِ خبّر يلملما
وقل أوشكَ المأمونُ يرمي دماءهُ
فقالَ الذي يحيى ستربُو من الدّما
لأنّ الذي ما كانَ يحسبُ نبتةً
رقى من مناميهِ حصادًا معمّمَا
ومن إبطِ ذا الوادي أطلت
ثلاثة
كمااستنشد الإرعادُ صحوًا توسما