الأدب والفن
أدوار سياسية بثوب ثقافي..
تركيا الإسلاموية.. الترويج لفكرة الخلافة العثمانية المشوّهة في المشرق العربي
في مفهوم "القوة الناعمة"
كان جوزيف س. ناي، أوّل من قام بصك مصطلح القوة الناعمة (Soft Power)؛ حيث عرّفها باعتبارها "أن تجلب الآخرين إلى النتائج التي تودّ وصولهم إليها"، وذلك عن طريق الإقناع والنفاذ إلى معتقداتهم وأفكارهم بالجذب، لا بالعنف والإرغام، إنّ مفهوم القوة الناعمة يتشكل عبر الجذب والتشارك، إذاً، وليس عبر الإرغام.
في كتابه "القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية"؛ يتحدث ناي عن أثر الموارد (مثل: الثقافة والمؤسسات والقوانين، …إلخ)، وتحويلها إلى قوة متحققة عن طريق إستراتيجيات تتبعها الدول لتحويل نفوذها السياسي (المضمر) إلى إنجاز واقعي، بثوب ناعم، قائم على تغيير الأفكار والمعتقدات والتصورات، سواء عن القوة المتنفذة، أو عن الوعي محلّ التغيير.
والحال؛ أنّ هذه الموارد التي تمتلكها دولة ما، هي، في واقع الحال، سهلة النفوذ والوصول والتأثير إلى أيّ مكان، عن طريق الطرق الناعمة، مثل: السياحة والتبادلات الثقافية وغيرها، ومع عصرنا المعولم إلى حدّ كبير، فإنّ تأثير القوة الناعمة يتضاعف بشكل مذهل.
إنّ القوة الناعمة ليست بفرض ثقافة أو رأي؛ بل هي بجذب قد يكون بالترويح لنموذج سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي معين، عن طريق شبكات إعلامية، أو عن طريق توافد، أو تبادل، وتستخدم أيضاً في الثقافة الدبلوماسية والخطب والبيانات السياسية فيما يخص البلدان الأخرى.
ركائز القوة الناعمة لتركيا في المشرق
عند التفكير في تركيا؛ فعادة ما يرتبط هذا التفكير، في كثير منه، بموقع "الإسلام"، و"الإسلام السياسي" المتجذر، ممثلاً في حزب العدالة والتنمية الحاكم، وموقع تركيا الجيوسياسي الحساس، وأيضاً باعتبارها الماضي السحيق والعريق للخلافة العثمانية التي انتهت في الربع الأول من القرن العشرين.
إنّ التفكير في تركيا، إذاً، هو تفكير في أدوارها فيما يتعلق بماضيها الإمبراطوري، وحاضرها الذي تسعى فيه تركيا إلى لعب دور إمبراطوري مع جوارها (سيما العراق وسوريا)، لكن، في هذا المقال، سأركّز على الدور التركي، وبالتحديد الإسلاموي (للحزب الحاكم)، في علاقته بالمشرق، عبر ترويج لنموذج "الإسلام الديمقراطي"، برافعة ثقافية وحضارية محشوة بالقومية التركية والمجد القديم.
بداية؛ يمكن لنا أن نتكلم، في ضوء التعريف الذي اعتمدناه في بداية المقال لمفهوم "القوة الناعمة"، عمّا تحوزه تركيا من مرتكزات للقوة الناعمة، ونرى من خلال ذلك كيف استخدمت تركيا هذه المرتكزات في المشرق عبر الترويج لنموذج الإسلام الديمقراطي.
في العموم؛ في وسعنا أن نحدد مرتكزات القوة الناعمة لدى تركيا بثلاث ركائز أساسية وعامة: أولاً: الماضي الحضاري الإسلامي، ثانياً: النموذج الأتاتوركي الدولتي، ثالثاً: السياسة الخارجية المتعلقة بالأزمات المشرقية.
تمثّل الركيزة الأولى؛ أي الماضي الحضاري الإسلامي، دعامة أساسية في التعامل التركي مع الجوار المشرقي؛ حيث كانت الخلافة العثمانية تهيمن على معظم ما نسميه اليوم "العالم العربي" كولايات لها، من هذا الامتداد التاريخي، والذي يمثل أساساً في المخيال السياسي للإسلاموية التركية الحاكمة، يتم التعامل مع المشرق باعتباره "الحظيرة الضائعة" لتركيا "الجديدة"؛ التي تمكن استعادتها عبر مشروع جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، بتصدير نسخة من الإسلاموية الديمقراطية، بإجماع غير مدروس وأيديولوجي على أنّ سكان هذه المنطقة لا بدّ من أن يحكموا بالدين، وبالتالي لا بدّ من دعم تيار ديني له رافعة سياسية ممثلاً في مشروع جماعة الإخوان المسلمين.
أما الركيزة الثالثة؛ أي النموذج الأتاتوركي الدولتي، فهو في الحقيقة الدمج بين فكرة الإسلاموية والقومية والتي درسها كثير من الباحثين، عند النظر إلى الإسلاموية التركية؛ فإنّنا نلمس هذا المزج بين الديني والقومي، وبالتالي يأخذ شكل العداء لـ "الأكراد" مثلاً بعداً دينياً، وتُجيّش الخطب الدينية في المساجد والصحف السيّارة بخطاب ديني وقومي وعرقي تجاه الأكراد، حينما غزت القوات التركية عفرين، هلّل الخطاب السياسي والديني بهذا "الفتح المبين" ضدّ الأكراد، باعتبار أنّ الموقف التركي مما يحصل في سوريا يتعلق بالمسألة القومية التركية.
البعد الأخير؛ أي السياسة الخارجية، يتعلق بالمسألة الفلسطينية والنزاع مع إسرائيل؛ فقد قدم أردوغان نفسه وحزبه باعتباره مناصراً لفلسطين وغزة، وبعيداً عن النوايا، فكما يعلمنا كارل شيمت لا نوايا في السياسة، فإنّ الدعم التركي من الحزب الحاكم للقضية الفلسطينية، ومن بعدها المسألة السورية، وما نجم عنها من توافد عدد كبير من السوريين إلى الأراضي التركية، كان نوعاً من الاستثمار الحاسم للقوة الناعمة في المشرق العربي، ورغم أنّ خيارات الإسلاموية في الدعم كانت منصبّة على المشروع الإسلاموي، كما هو الحال بعد ثورة ٢٠١١ بمصر، إلا أنّ الخطاب التركي حاول تقديم نفسه باعتباره "صديقاً" للعرب. وعوداً إلى مسألة فلسطين، فقلّما يتم ذكر العلاقات بين النظام التركي ودولة الاحتلال، الأمر الذي بلغ إلى كونها أعلى دولة شرق أوسطية في تعاملها وتحالفها مع إسرائيل.
الرافعة التركية وغياب مشروع عربي
والحال؛ أنّ الاستثمار الإسلاموي التركي في المشرق لا يقتصر على أبعاده السياسية والاقتصادية؛ بل يمكن القول إنّ للأمر، كما بينت في الركيزة الأولى، بعداً ثقافياً يتم من خلاله تمرير السياسي، ليس الثقافي، بما هو أداة قوة ناعمة، مفصولاً عن السياسي، فقد حاولت الإسلاموية التركية تقديم نفسها للإسلاموية المشرقية، التي هي في حالتنا هذه بالتحديد جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها "إسلاماً ديمقراطياً"، يمكن المضي على إثره، واقتفاء نموذجه في البلدان العربية كمصر وتونس والمغرب.
صحيح أنّ للإسلاموية المشرقية سمات تختلف بالطبع عن الإسلاموية التركية؛ بيد أننا يمكننا الحديث عن ولع إسلاموي مشرقي بالنموذج التركي، لا يقتصر الأمر على ما حصل في الربيع العربي بعد ٢٠١١؛ حيث زار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مصر حينها، مقدماً المشورة للمصريين ولحلفائه من الإخوان المسلمين بخصوص كيف يتعاملون مع مسائل مثل الشريعة والدولة وعلاقة الديمقراطية بالدين.
حاول النموذج الإسلاموي الأردوغاني دمج الإرث الأتاتوركي العلماني الذي قامت عليه القومية التركية الحديثة مع النموذج الإسلامي الديمقراطي المستحدث؛ مما سبب إغراء بالنسبة إلى الحركات الإسلامية في المشرق، رغم أنّ دول الأخيرة لم تمرّ بالتجربة التاريخية والسيرورات العلمانية نفسها؛ إذ إنّ دراسة معمقة لمصر مثلاً، ما بعد الاستعمار، لتكشف كيف استخدم الدين في الحكم، وكيف تعاملت الدولة مع الدين كمكون في الاجتماع.
لقد سعت تركيا الإسلاموية، وتسعى دائماً، إلى الترويج لفكرة الخلافة العثمانية "المشوّهة" صورتها عربياً، عبر قنوات ومراكز أبحاث وإستراتيجيات سياسية ونفوذ في العالم العربي، بالطبع؛ لاقى هذا التوجه قدراً كبيراً من الترحيب من الباحثين المحسوبين على الإسلاموية، الذين وظفوا، بوعي أو دون وعي، للترويج للإستراتيجية العثمانية الجديدة باعتبارها إصلاحاً لصورة قديمة قاتمة.
اليوم؛ نجد تركيا تكسب، شيئاً فشيئاً، هذا الرهان، لكنّه كسب محدود، فمقاومو الإمبراطورية العثمانية كثر منذ القرن الثامن والتاسع عشر حتى يومنا هذا، ومحاولة التتريك، وتصدير النسخة الأردوغانية للعمل السياسي والتصور الإسلاموي قوبل بكثير من المجابهة، وكشفت أجنداته، سواء في الخطابات اليومية أو العلمية.
لكن، ما نجده اليوم؛ هو مراكز مشرقية ممولة تركياً، تلعب الدور نفسه بطريقة "علمية"، الحقيقة التي لا أجد غضاضة في الإفصاح عنها، هي أنّ تركيا تستثمر في الوجود العربي بالترويج للماضي العثماني "المجيد"، لاعبة على أوتار نوستالجيا إسلاموية للخلافة، التي تصور أنها كانت خلافة العدل والعلم.
والغريب؛ أنّه ليس هناك موقف "عربي" واضح من هذه العثمنة على المستوى النظري؛ فالأمر ليس صراع قوى؛ بل هو أيضاً صراع معرفة، وصراع تاريخ، ومن يقصه ومن يكتبه، تحويل الساحة العربية، والوجود العربي نفسه، إلى مختبر للعثمنة والتتريك، وتوظيف عرب فاعلين لمشاريع معرفية فيما يخص الخلافة العثمانية، وتصدير أردوغان كرئيس إسلامي "ديمقراطي"، وتكريس موظفي معرفة ضدّ الكُرد والأرمن، وغيرهم، أمر لا يمكن إغفاله، أو السكوت عنه.