الأدب والفن
"اليوم للإعلام" تقدم مستل من رسالة ماجستير محكمة..
ظاهرة الاغتراب في شعر عبدالله البردوني.. (دراسة اسلوبية)
يعد الشاعر عبد الله البردوني أبرز الذين مثلوا ظاهرة الاغتراب فقد كان ذا إحساس مرهف في تحمّل قضايا واغترابات أمته وهمومه، فاغترابه لم يكن نزوحًا عن الوطن أو مفارقة للأهل والأحباب والسكن، إنما كان اغترابه داخل وطنه وبين أهله ومجتمعه، وكذلك لم يكن اغترابه فرديًّا فحسب، بل كان اغترابًا جمعيَّا وطنيًّا وقوميًّا، فقد ترعرع في مجتمع يعيش تحت وطأة الاستلاب في الحرية والتفكير، وعانى التناقض القيمي بينه وبين مجتمعه الذي يعيش فيه، وتجرّع أقسى أنواع الاغتراب، إذ كان يعطي الأحداث والأشياء التي تحيط به فكرًا وسلوكًا تقييميًّا، لكن غيره ممن ينتمي إلى المرجعية الفكرية نفسها لم يكن كذلك بل ذهب يعمل ضد الذات الباحثة عن مشاعل الحرية والأمل والانعتاق. كل هذه البواعث عمقت الهوة الاغترابية، وأحدثت التنافر بينه وبين الآخر، ونشأ عن ذلك الشعور باللامعيارية والشعور بالعدمية والانسحاق.
إن النص الاغترابي في شعر البردوني تميّز بين النصوص الاغترابية الأخرى بخصوصية التجربة واختلاف الوجهة والرؤية والأسلوب، فقد تجسد الواقع الاغترابي مع التجربة الإبداعية، واستطاع من خلال لغته الشعرية أن يعبر عن مضمون التجربة الاغترابية، فأصبحت اللغة اغترابًا والاغتراب لغة، واتخذ أنماطًا متعددة اجتماعية وعاطفية وسياسية ومكانية وزمنية وثقافية ونفسية، نذكر منها الآتي:
تنويه| يمنع نقل او اعادة نشر هذا المادة دون اذن مسبق من مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات والمؤلف د. صبري عفيف
1- الاغتراب الاجتماعي
هو شعور الفرد بعدم انتمائه إلى المحيط الاجتماعي التي ينتمي إليه، وغالبا ما تبرز هذه العزلة الاجتماعية عندما تكثر الصراعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية داخل المجتمع، فيرتد الفرد إلى ذاته ويكف عن التطابق والتعايش والتكيف مع الآخرين أو مع البنية الاجتماعية التي يعيش فيها ويسعى إلى أن تتطابق ذاته مع شخصيته وسماته هو، فيشعر بفقدان الهوية في الوقت الماضي والحاضر، وما يمكن أن يصير إليه في المستقبل([1]).
ففي قصيدة (أنا الغريب) في ديوان (من أرض بلقيس) صُرِّح بلفظة الغريب المسندة إلى ضمير المتكلم (أنا)، وجَعْلُها عنوانًا للنص يمثل علامة دالة تلخِّص مضمون الفكرة التي يريد الشاعر التحدث عنها، وتعبر عن حال اليأس والحيرة المطبقة على الذات الشاعرة، بعد أن تغلفت بوجومها وغابت في صمتها المتواري وراء الهموم. يقول البردوني:
وأنا وحديَ الغريبُ وأهلي عن يميني وإخوتي عن يَساري
وأنا في دمي أسيرٌ، وفي أر ضـي شريـدٌ مقيَّـدُ الأفكـارِ
وجريحُ الإبـا قتيلُ الأماني وغريـبٌ فـي أمَّتي وديـاري([2])
إذا أنعمنا النظر في هذا النصِّ فسنجد أنه اشتمل على جميع أنواع الاغتراب: الاجتماعي والسياسي والفكري والنفسي والمكاني, فسيطر هذا الاغتراب على الذات سيطرة كاملة.
إن غياب المخاطب في هذا النصِّ يحرِّك المشاعر الإنسانيَّة عند المتلقي, ويصبح حضور المتكلم هو جوهر الخطاب وعلَّته الأساسية (أنا وحدي الغريب)، وقد مثّلت هذه الجملة الاسمية المصدَّرة بضمير المتكلم بؤرةَ الاغتراب الاجتماعي الذي تعاني منه الذات داخل المحيط الذي تعيش فيه، وعمَّق هذا الشعورَ الحادَّ بالاغتراب إلصاقُ لفظةِ (وحدي) بلفظة (الغريب) للإخبار عن الضمير (أنا)، وبذا شخَّصت الذاتُ اغترابَها ونفيَها في موقف تضادِّي يفرض على القارئ متابعته عن طريق تأمل التقابل بين مأساة الذات المتكلمة (أنا وحدي الغريب) والمجتمع الذي يحيط بها (أهلي وإخوتي).
وجملة (أنا وحدي الغريب) ثرية الدلالة على حال الاغتراب وثبوتها على مستوى الوطن بشكل عام، وهذه قمة المأساة التي تعاني منها الذات في الوطن وفي المجتمع، ابتداء من الأسرة وانتهاء بالأمة.
وجملة (كلُّ شيء حولي) توحي بشدّة الإحساس الاغترابي الذي يحيط بالذات من كل الاتجاهات, وعلى مستوى الجملة يقف ملفوظ النفي (غير) حاجزًا لغويًّا يمنع التواصل الوظيفي بين طرفي شبه الجملة الجار والمجرور (على – ثأر), وهو ما يلفت انتباه المتلقي إلى وضعها المأساوي في علاقتها بالجماعة التي تعاقبه على جناية لم يرتكبها، و"قد يصل الفرد إلى مرحلة يكون فيها محاطًا بالآخرين، ولكن يتملكه في الوقت نفسه شعور بأنه بعيد عنهم نفسيًّا واجتماعيًّا، وذلك لأنه يشعر بأن التواصل الاجتماعي ضعيف أو أنه مبني على أسس نفعية"([3]).
ويربط البردوني لفظة الغريب ربطًا نفسيًّا عميقًا بحال الاغتراب الاقتصادي (الفقر) الذي يعانيه الإنسان اليمني داخل وطنه، راصدًا رصدًا خاطفًا قسوة البشر والمجتمع على هذا المواطن الذي تقطعت به السبل، ووقف على قارعة الطريق يستجدي الناس، لعلهم يجودون عليه مما في أيديهم من النعم. ففي قصيدته (سائل)([4]) يقول:
مررتُ بشيخٍ أصفرِ العقـلِ واليـدِ يدبُّ على ظهرِ الطريقِ ويجتدي
ثقيلِ الخطا يمشي الهوينا بجوعِه وأحزانِه مشيَ الضريرِ المقيَّـدِ
ويُزْجي إلى الأسماعِ صوتًا مجرَّحًا كئيبًا كأحزانِ الغريبِ المشـرَّدِ
جاءت كلمة العنوان (سائل) - وهي عتبة النص - اسم فاعل نكرة تدل على العموم، وهذا التنكير دل على الاغتراب الاقتصادي والاجتماعي داخل المجتمع الذي يعيش فيه ذلك السائل، وجاءت لفظة الغريب مصاحبة للفظة المشرد في آخر المقطوعة، وهذه المصاحبة جعلت الصورة أكثر وضوحًا وأدق دلالة, وجاءت الألفاظ الأخرى داخل النص (مررت, يدب, الطريق, الخطا, المشي, الأحزان, المقيد, الجراح, الكآبة) لتؤدي وظيفة توضيحية مسبقة لمفردة الغريب المشرد التي اختتم بها المقطع.
وفي قصيدة (من أغنَي)([5]) يقول البردوني:
هاهُنا في المنزلِ العاري الجديبْ أحتسي الدَّمـعَ وأقتـاتُ النحيبْ
هاهنُـا أشكـو إلى الليلِ وكـم أشتكي والليلُ في الصمتِ الرهيبْ
وأبـثُّ الشـعـرَ آلام الهـوى وأنادي الليلَ والصمـتُ يجيـبْ
فإلى مـن أنفـثُ الشكوى؟ إلى أيِّ سمعٍ أبعثُ اللحـنَ الكئيـبْ؟
وإلـى مـن أشتكـي الحبَّ إلى من إلى من ؟ إنني وحدي غريبْ!
عتبة النص (من أُغني؟) جملة استفهامية مركبة من أداة الاستفهام والفعل المضارع المصدَّر بالهمزة الدالة على الذات (أُغني)، ودلالة الاستفهام هنا مجازية وهي إظهار الحيرة والاستغراب والاستبعاد, فلمن يغني الشاعر؟ وتتوالى تلك التساؤلات في النص التي وصلت إلى حد الاستحالة, ولم يكن أمام الشاعر في النهاية إلا أن يصرح بأنه وحده الغريب ولا أحد غريب سواه (إنني وحدي غريب). وتكرار الصيغة الفعلية المضارعة (أفعل) في النص بشكل لافت كان بمثابة النقطة المحورية التي تحرك الأبيات وتحرك الدلالة الكلية للنص, لا سيما أن هذه الصيغة جاءت عتبة نصية ومن ثم تكررت في ثنايا النص الشعري (أحتسي، أقتات، أشكو، أشتكي، أبث، أنادي، أنفث، أبعث). كل هذا كثَّف التعبير عن معاناة الاغتراب والإحساس بها، ومثلت تلك الصرخات والنداءات المتكررة التي أصدرها الشاعر من أقصى جوفه وفؤاده – عبر أصوات الحلق – صخبًا إيقاعيًّا يعبر عن شدة وطأة الاغتراب عليه.
ومثَّلت الألفاظ الآتية (أغني، الدمع، النحيب، الشكوى، آلام الهوى، الليل، الصمت، الرهيب، البث، الشعر، اللحن، الكئيب، الحب، وحدي، غريب، الجوى، النفث، اللهيب), حقلا دلاليا للاغتراب، سواء أكانت مصاحبة له أم مظهرًا من مظاهره، بحيث بلغت هذه الألفاظ (35) كلمة من (37), فضلاً عن تكرار ألفاظ الشكوى (4) مرات, والليل (4) مرات, وظرف المكان "هاهنا" (3) مرات، والصمت (مرتين), ووحدي (مرتين)؛ وأمام هذا الواقع الاغترابي أكد الفعل المضارع المصدَّر بالهمزة (أفعل) حضور الذات المغتربة وتوهُّجها في كل حدث يعبر عن زمنها الحاضر.
وهذه الصيغة قريبة من الذات المغتربة؛ لأنها تحمل بوحه وصوته الغنائي الخاص الذي يحمل همومه وأحزانه وشكواه, وفي نهاية البيت الأخير نصادف الجملة الاسمية (إنني وحدي غريب) مصدَّرة بأداة التوكيد (إنّ)، تدل على الثبوت، وجاء خبرها لفظة (غريب) صفة مشبهة بالفعل على وزن (فعيل), والإخبار بالمشتقات يدل على الاستمرارية والملازمة. وبروز هذه الجملة الاسمية في النص الذي تكررت فيه الجمل الفعلية بكثافة مثَّل ملمحًا أسلوبيًّا التُفت فيه من الجمل الفعلية إلى الجملة الاسمية، مؤدِّيًا وظيفة دلالية رسَّخت معنى الاغتراب لدى الذات الشاعرة.
إن الفعل في اللغة العربية يعبر عن زمن وقوع الحدث ويرتبط بنوع من الحركة، فهو المعبر الأول عن الزمن في اللغة وعن الزمن في الواقع, وفي مجال الشعر فإن استثمار الفعل ينطوي على بعدين هما: الحدث والزمن, وبارتباطه بالنسق السياقي الأفقي يصبح حضوره دالا عليهما, ويصبح حضوره أكثر دلالة حين تتوالد عنه العلاقات الأخرى الغائبة المحذوفة وجوبًا أو جوازًا([6]).
وفي النص الاغترابي في شعر البردوني برزت الجملة الفعلية في شكل واضح يتجلى في دخولها الدائرة البلاغية, وأبرزها دائرة الاستعارة التشخيصية والتجسيمية, ويعد الفعل المضارع المسبوق بهمزة المضارعة (أفعل) أكثر الأفعال تردُّدًا, وقد تواتر بشكل بارز وحمل هذا التكرار طائفة متعددة من الأبعاد الدلالية والإيقاعية. فتكرار هذا الفعل بهذه الصيغة إنما يؤكد أن الذات الشاعرة في حال توهج مستمر، ويعلي شأن الذات المتكلمة الواعية بواقعها الاغترابي، ويكثّف حضورها؛ فصوت الهمزة بداية الفعل المضارع يعدُّ المرتكز الأساسي الذي ينبثق منه حضور الذات المتكلمة (أنا)، وتكرار هذا الفعل يؤكد أن الذات المغتربة حاضرة بذاتها الفردية. وإلى جانب هذه الدلالة يمنح الفعل المضارع المسبوق بهمزة المضارعة النص نوعًا من الإيقاعية المتولدة من التكرار.
ومن يتأمل حياة البردونييرى أنها معقدة أشد تعقيد، عانى فيها الحرمان والقسوة والعزلة والوحدة والاغتراب منذ أن وطئت قدماه هذا الأرض، فهو لم يشعر يومًا بدفء الحنان، ولا رأى الكون والجمال، ولم يهنأ بزينة الحياة الدنيا بما فيها من مال وبنين، ولا قرأ في وجوه أصدقائه وخلانه ما في دواخلهم، وتجربة الاغتراب عنده تجربة مشبعة بالحزن واليأس والمرارة والألم.
وإذا علمنا أن فقدان البصر بذاته يعد اغترابًا أزليًّا ممتدًّا على مدار الحياة، فهو المأساة الأولى التي أعاقت حياة الشاعر، فقد وصف نفسه قائلا: "إنّي أحمل المأساة منذ الخامسة، ولهذا عانيت طفولة شقية، وشبابًا شقيًّا، وكهولة أكثر شقاء، ورغم أن هناك من يرى أنني وجدت بديلا عن العينين؛ لكنني مازلت أحس مأساة غيابهما ... فلو لم تخمد هاتان العينان لأمكن أن يكون تفكيري أوفر"([7])، ومثّل الفقر والحرمان المأساة الثانية في حياة الشاعر، فقد ترعرع في أحضان الفقر والحرمان وكانت البيئة الاجتماعية التي تحيط به أكثر بؤسًا وحرمانًا، لذا انحاز للفقراء من أبناء أمته، ولم يكتف بذلك الانحياز بل أعلن أنه جزء منهم، إذًا فهو الحامل الوحيد لهمومهم وعذاباتهم وآلامهم، يسير على الدروب الشائكة، لا رديف له ولا داعم لصبره، لقد أيقن أن الشعر الذي لا يحمل رسالة ولا يخدم هدفًا اجتماعيًّا "يصبح نوعًا من الأصوات المجردة التي قد تكون جميلة وربما مفيدة في الظروف السوية والمجتمعات المتقدمة, ولكنها مهما يكن جمالها غير مفيدة ولا جميلة لدى المجتمعات التي تعاني التخلف والظلم السياسي والاجتماعي([8])، ففي قصيدته (لا تسألي)([9]) يقول:
وتهــاديـت كـأنـي أمــل يـرتمي فـوق بسـاط الـعدمِ
وأراني - آه - مهزوم المـنى وأنـا أحـنو عـلى الـمنهزمِ
أرحـمُ الـمحروم إحـساساً ولم تـدرِ كـفي كيـفَ شكل الدرهمِ
وأنـا أحـنو على الحاني وبـي حـسرة العانـي وجـوع العدمِ
إن النسيج الاجتماعي في المجتمع الذي يحيط بالذات الشاعرة تقطعت أوصاله، وأصبح الإنسان المعدم لا يُلتفت إليه، وهو ما عبر عنه البردوني في قصيدته (ليالي الجائعين)([10]):
وأنـوح للمـستضعـفين وإنني أشـقى مـن الأيـام والضعفاءِ
وأحسهم في سد روحي في دمي في نبض أعصابي وفي أعضائي
فكـأن جيـراني جـراح يحتسي ريّ الأسى من أدمعي ودمـائي
ناموا على البلوى وأغفى عنهم عطف القريب ورحمة الـرحماءِ
ما كان أشـقاهم وأشـقاني بهم وأحـسهم بـشقائهم وشـقائي
ولم تتوقف الأقدار في مرورها بأرض البردوني عند فقدان البصر والفقر والشقاء والحرمان، فتوالت عليه المصائب والأحزان بوفاة أمه وزوجه وضياع أرضه وطنه, فأصبح أسيرًا للحزن والجراح والألم، واحتمل من الهم والحزن ما لا يطاق. يقول في قصيدة(أمي)([11]):
آه يـا(أمي) وأشواك الأسى تُلهـبُ الأوجاع في قلبي المُذابِ
فيـكِ ودّعتُ شبابي والصّبا وانطوت خلفي حلاواتُ التصابي
كيـف أنساك وذكراكِ على سِفر أيـامي كتـابٌ في كـتابِ
إنّ ذكـراكِ ورائـي وعلى وجهـتي حيـث مجيئي وذهابي
ولم تكن مآسيه وحدها هي التي شكلت اغترابه الاجتماعي، بل كانت الأوضاع الاجتماعية بكل أشكالها هي البؤرة الأولى التي عمقت معاناة الاغتراب، مشكِّلة سلسلة متواصلة الحلقات من الفقدان والحرمان والإقصاء والتهميش.
2- الاغتراب العاطفي:
الحب حالة عاطفية مركبة تشمل كيان الإنسان جسدًا وعقلا وروحًا، وتقوم على أساس التوحد والثبات والاستقرار في الآخر، وتمتزج فيه عوامل عديدة مثل اندفاع الشهوة والانفعال العاطفي والهوى والعطف والتجاوب والمودة والنزوع نحو التضحية في سبيل مصلحة المحبوب وهنائه وسعادته. والإنسان الذي يفقد أحبابه تمزّقه الغربة؛ لأن فقدان الأحبة اغتراب، والبردوني عانى اغترابًا عاطفيًّا مركبًا منذ طفولته حتى وفاته، وفُرِض عليه الجوع العاطفي فرضًا، فقد كانت مشاعره نحو المرأة مضطربة، فهو لا يقف عند امرأة بعينها؛ بسبب المواقف والانفعالات النفسية المختلفة لديه.
وتركز أكثر من نصف القصائد المتصلة بالمرأة في مجموعته الأولى، ثم خبت هذه الثورة المتأججة نحو المرأة المحبوبة وتضاءلت مع تقدّم العمر وتراكم الأحزان، وقد آثر الشاعر الاستسلام والابتعاد عن هذا الكائن اللطيف، وهو العاجز عن استمالته أو إرضائه، فإذا رضي عنها جعلها ملهمة يستوحي منها الفن والشعر والجمال فيحلق بحبها؛ ليحتضن الكون ويغني للخلد.
وقد بلغ عدد النصوص التي يمكن إرجاعها إلى علاقة الشاعر بالمرأة أربعًا وخمسين قصيدة، احتوت الدواوين الثلاثة الأولى منها على معظم هذه القصائد، فقد بلغت ثماني وأربعين قصيدة، وغلب عليها الموضوعات الآتية: التغني بمحاسن المرأة، والتواجد الحزين، والمناجاة الرومانسية المتحدة مع الطبيعة والشكوى من الوحدة والوحشة والحرمان والفراق، ثم الفقدان والضياع والتيه، واليأس من الحب، والشعور بالفراغ، والإبعاد عن الحبيب، واسترجاع الزمن الماضي، والبكاء على المحبوبة الغائبة، والمناداة الضائعة، وزيارة بيت الحبيبة المهجور([12]).
وكان الشاعر حينما يشعر بالاغتراب العاطفي شعورًا عميقًا يلجأ إلى الحبِّ ليوقف ذلك الشعور الحاد بالاغتراب محاولا اقتحام الجدران التي تفصله عن أحبابه؛ "لأن الحب التقاء وجداني ومادي، والغربة افتراق وجداني ومادي، والحب معادل موضوعي لاستمرار الحياة وخصوبتها، والغربة معادل لتوقف هذا الاستمرار، ومن هنا كان للحب قيمته العاطفية والمادية في نظر العربي"([13])، كما أن بمقدور الحب أيضا أن يخلص الإنسان من اغترابه وفقده وفقره، كما يرى هيجل، سواء أكان حبًّا إنسانيًّا أم صوفيًّا، ففي الأول تتواصل الذات مع ذات أخرى تؤنس وحشتها وغربتها، وفي الثاني تسمو الذات إلى مستوى أعلى فتكتسب خصوبة مع احتفاظها بتفردها([14]). ويستمر الشاعر قائلا في قصيدة (لقيتها)([15]):
لا،لا تقل لي: سمِّها، فجمالُها فوقَ الكنايةِ فوقَ كلِّ أسامي
إنِّـي أعيشُ لها وفيها إنَّهـا حبّـي وسرُّ بدايتي وختامي
وأُحبُّـها روحًا نقيًّا كالسّنـا وأُحبُّـها جسمًا مـن الآثامِ
وأُحبُّها نورًا وحَيـرةَ مُلـحدٍ وأُحبـُّها صحوًا وكأسَ مُدامِ
دَعني أغرِّد باسمِها مادام في قدحي ثمالات مـن الأنغـامِ
لقد دلت ّهذه الأبيات َعلى أن الحبَّ ولحظات اللقاء هي المحور الأساسي الذي تدور حوله القصيدة، فالحب الذي اعتمدت عليه الذات المغتربة للخروج من عزلتها واغترابها، تحول من أداة إيجابية تسهم في قهر الاغتراب إلى أداة سلبية تعمل ضد الذات وتزيد من وطأة الاغتراب، وتلك الإخفاقات في الحب تؤدي إلى اغتراب عاطفي يضاف إلى اغتراباته الأخرى.
فعندما نتناول كلمة الحب فإننا نقصد بها تجربة الحب العاطفي، سواء أكان حبًّا لامرأة أم حبًّا للوطن. وعلاقة الحب بين الشاعر الكفيف والمرأة لم تكن علاقة قوية, بل كانت علاقة مؤقتة رافقت سن المراهقة، وهو الوقت الذي نظم فيه البردوني قصائد الحب والشوق والحنين بنفس رومانسي ممزوج بملامح صوفية, ففي قصيدته (منبت الحبِّ)([16]) يقول:
هاهنا لاح لنا الحبُّ وغابا وتشظَّى في يدِ الأمسِ وذابا
نبت الحبُّ هنا كيف غـدا في ترابِ المنبتِ الذاكي ترابا
هذه البقعةُ ناغـت حبَّنـا فصبا الحبُّ عليها وتصابى
وسقتنا الحبَّ صفوًا وهَنا ثمَّ أَسْقتناه ذكرى وانتحابـا
قصَّة تائهـة نقـرؤهـا من فمِ الذكرى فصولاً وكتابا
في هذا المقطع احتلت كلمة الحب الصدارة ابتداء من العنوان، ومرورا بالمتن، فقد تكررت كلمة الحب (5) مرات, والضمائر العائدة عليها (5) مرات, وهذا التكرار يدل على تشبث الذات بالموضوع الذي تتحدث عنه, بدءا من السطر الأول بظرف المكان (هنا) المتضمن معنى الإشارة والمصدَّر بحرف التنبيه (ها) للفت الانتباه إلى المكان الذي انطلقت منه تجربة الحب, وتكرار الظرف في البيت الثاني (نبت الحب هنا) تأكيد لأهمية ذلك المكان بالنسبة للذات.
وإذا تتبعنا حركة الأفعال في البيتين الأولين فإنها حركة تضادية سريعة، طرفاها (لاح) من جهة و(غابا/ تشظى/ ذابا) من الجهة الأخرى. وهذا التضاد غير المتكافئ دل على غلبة لحظات الاغتراب على لحظة الاقتراب، وبدا الشاعر وكأنه يتحسر ويتندم على سرعة انقضاء لحظة المسرة والوصال.
وفي البيت الثالث جاء اسم الإشارة (هذه) ليخصص ويحدد المكان المشار إليه (البقعة) وليزيل الإبهام والغموض عنه, وتبدو (هذه) أشد دلالة على القرب من (هنا)، كما أن لحوق البدل المعرفة باسم الإشارة زاده تعريفا.
وحركة الأفعال في هذه الأبيات جاءت متفرقة تدل على فترات زمنية متباعدة، ابتداء من أيام الطفولة، ومرورًا بأيام الصبا، ووصولا إلى عمر الشباب (ناغـت، صـبا، تصـابى، سـقت) لتوحي برغبة الذات الشاعرة وتلذذها بتذكر تلك اللقاءات واللحظات الجميلة لعلها تستأنس بذكرها وتقهر بها الشعور الحاد بالاغتراب.
وفي عجز البيت الرابع (ثم أسقتناه ذكرى وانتحابا) عطف الجملة الفعلية (أسقتناه ذكرى وانتحابا) بحرف العطف (ثـم) ليدل على التحول المأساوي غير المتوقع للحب الذي يصير ذكرى وانتحابا.
3- الاغتراب السياسي:
لقد أفرز الواقع الذي ترعرع فيه البردوني نوعًا من الاغتراب السياسي تحولت به الذات الشاعرة من اغترابها الاجتماعي والعاطفي إلى الهم الجمعي الوطني والقومي الذي اتسع امتداده ليشمل الوطن العربي، ففي منتصف القرن الماضي كان اليمن الشمالي يعيش تحت وطأة الأنظمة الملكية واليمن الجنوبي تحت سيطرة الاحتلال البريطاني، حيث عانيا الفقر والجهل والظلم والاستبداد والاضطهاد، وفي ذلك الوقت بدأت حركات التحرر العربية تبشر بالحرية والاستقلال والحلم بمستقل زاهر ومستقر، وقد عاش البردوني في ظل هذه الأوضاع السياسية المضطربة، فأعلن تمرده وصدع بأعلى صوته معلنًا الانحياز إلى جانب الشعب وثورته، ففي قصيدة (رحلة التيه)([17]) يقول:
هدَّني السجنُ وأدمى القيدُ ساقي فتعايـيتُ بجرحـي ووثـاقـي
وأضعتُ الخطوَ في شوك الدجى والعمى والقيدُ والجرحُ رفاقـي
ومـلـلتُ الجـرحَ حتى ملّني جرحي الدامي ومُكثي وانطلاقي
في سـبيل الفجر ما لاقيت في رحلة التـيه ومـا سوف أُلاقي
فبعد أن انتصرت أرادة الشعب وتحققت تنبأت الذات الشاعرة بفجر الحرية والاستقلال، نصف قرن من الزمن حوّل هذا الحلم إلى كابوس يؤرق الشاعر البردوني، وأصبحت الأنظمة الحاكمة أكثر قسوة واستبدادًا وجبروتًا من نظامي الإمامة والاستعمار، وضاقت أسباب العيش وتدنت الحرية والعدل والمساواة، وأصبح الإنسان اليمني يعرض نفسه للقتل والسجن والتشريد والموت الرخيص.
ولا شك في أن البردوني امتزج بالوطن امتزاجًا كليًّا، وصار جزءًا لا يتجزأ منه، فكلاهما - الوطن والشاعر - عانيا تجربة اغتراب قاسية موحشة (اغتراب في الكلمة، اغتراب في الوطن، اغتراب في المكان، اغتراب في الكون)، وكانت تزيدها غربة الأسر والخيانة والغدر قسوةً، فضلا عما عانياه من آلام الجراح الجسدية والنفسية.
وهذا النفي السياسي وصفه الشاعر بقصيدتين, صرح بكلمة النفي في عنوانيهما, وهما: (من منفى إلى منفى)([18]) و(بلاد في المنفى)([19]). قصيدته الأولى (من منفى إلى منفى) هي إحدى قصائد مجموعته (لعيني أم بلقيس) الصادرة سنة 1974م، وهي القصيدة الثالثة في الديوان، وإذا أردنا وضعها في إطارها الزمني فإنها قيلت في نوفمبر 1971م؛ أي بعد تسعة أعوام من قيام الجمهورية في شمال اليمن.
وهذا العنوان (من منفى إلى منفى) يفاجئ القارئ بشكله الدائري الذي أسسه الشاعر على حرفي الجر ليصور حلقة مغلقة تتشابه فيها البداية والنهاية؛ لتصوير واقع الوطن تصويرًا يوحي بمعنى الاختناق، ويعمق المأساة التي يعيشها الوطن، وهي مأساة تحاصره من كل جانب، وفي هذه الصورة يختزل العنوان بتركيبته الدائرية تاريخًا كاملاً معزولاً عن الصيرورة الديناميكية للتاريخ الوجودي والحضاري([20]).
بلادي مـن يدي طاغٍ إلى أطغى إلى أجفى
ومن سجنٍ إلى سجنٍ ومن منفى إلى منفى
ومـن مستعمـرٍ بادٍ إلى مستعمــرٍ أخفى
ومن وحشٍ إلى وحشـ ينِ, وهي الناقة العجفا
..بلادي في ديار الغيـ ـرِ أو في دارها لَهْفى
وحتَّى في أراضيهـا تُقاسي غربـةَ المنفى
يأخذ أسلوب التوازي في النص عمقه الشعري بتفجير اللغة وشحنها بشحنة ثورية تشدّ السامع وتنفذ إلى وجدانه عن طريق الحروف والكلمات المكررة: من (5 مرات)، إلى (5 مرات)، بلادي (مرتين)، سجن (مرتين)، منفى (مرتين)، مستعمر (مرتين). وهذا التكرار المنظم يوحي بمدى التفجع والمعاناة التي تعانيها الذات والوطن، ويكثِّف دلالة النفي.
وكذلك أسلوب المعادلة بين كلمات شطري الأبيات حقق معادلة بين الشكل والمضمون, وهكذا تحرك العنوان الرئيسي (من منفى/ إلى منفى)، فالتعادل اللفظي يوازي تعادلا في المعنى؛ فالمنفى الأول يعادل المنفى الثاني، ولا يفيد اختلاف حرفي الجر في تغيير هذا الواقع.
وتبدو دوال الاغتراب في هذا المقطع بأنها اختيرت اختيارا منظما من حيث ألفاظها وتكرارها: (الطاغي، سجن، منفى، مستعمر، ديار الغير، غربة المنفى)؛ فهذه الدوال تصب في المحصلة الدلالية الأخيرة في لفظة (النفي)؛ وهذا ما يكشف عن مفتاحيتها.
وفي البيت الأخير تعمقت دلالة النفي, بأمرين هما: حرف العطف (الواو), الذي دل على تعدد واختلاف أنواع النفي الذي يعانيه الوطن, والحرف (حتى) الذي يدل هنا على التقليل والتهوين، وإضافة لفظة (الغربة) إلى (المنفى) زادت من دلالة النفي والاغتراب وضاعفته.
وعبر البردوني عن الاغتراب داخل الوطن، وما تعانيه الذات المغتربة داخل وطنها من قهر وأستلاب في الإرادة والحرية والتفكير، مجسدا هذا الواقع المأساوي الذي يعيشه المواطن اليمني في أرضه وبين أهله في قصيدة (الغزو من الداخل)([21])؛ حيث يقول:
يمانيُّون في المَنفى ومَنفيُّون في اليمنِ
جنوبيُّون في(صنعا) شماليُّون في (عدنِ)
خُطَا أكتوبرَ انقلبت حزيرانيَّـةَ الكفـنِ
تَرَقَّى العار من بيع إلى بيع بلا ثمـنِ
ومن مستعمرٍ غازٍ إلى مستعمرٍ وطني
لماذا نحن يا مَربى ويا منفى بلا سكنِ
بلا حلمٍ بلا ذكرى بلا سلوى بلا حـزنِ؟
يمانيُّون يا (أروى) ويا(سيف بن ذي يزن)
ولكنا بـرغـمكما بلا يُمْـنٍ بلا يَمَـنِ
بلا ماضٍ بلا آتٍ بلا سـرٍّ بلا عَلَـنِ
أول ما يلفت انتباهنا في هذا المقطع هو أسلوب المعادلة التقابلية[22] بين شطري الأبيات، فمن الناحية الدلالية ية الدلالية الدلالة ,بحث منشور في مجلة آداب المسستنصرية ,العددالعاشرله.كما انها سمة دلالية من سمات االعمقت هذه المعادلة في الشكل المفارقة والتضاد في المضمون: (يمانيون/ منفيون), (في المنفى/ في اليمن), (جنوبيون/ شماليون), (في صنعاء/ في عدن), (بلا حلم / بلا ذكرى), (بلا سـلوى / بلاحـزن), (بلامـاض/ بلا آت), (بلا سر/ بلا علن).
والتكثيف التتابعي واختفاء الروابط بين التراكيب دل دلالة واضحة على التمزق والتشتت والاغتراب في الواقع اليمني, وتردد أداة النفي (8) مرات متتابعة عمقت تجربة النفي في الزمان الماضي والحاضر والمستقبل, وفي المكان (فقد الانتماء للوطن).
ويكشف البردوني عن ضياع الوطن والهوية الوطنية بسبب ضياع الإنسان اليمني في أرضه وبين أهله، وكذلك ضياع الوطن بحيث أصبح أجيرا بأيدي الآخرين، وضياع حلم الوحدة الوطنية واليمنية والعربية أرضاً وإنساناً، وهو ما أدى إلى عدم الاستقرار في الوطن لإحساسه بالغربة والاغتراب والتمزق والضياع بين جنوبه وشماله على الرغم من وحدة الانتماء في المنفى واغتراب الاغتراب في الوطن.
وكانت الألفاظ الآتية أكثر دوال النفي ترددا في معجم البردوني الشعري، وهي: النفي، التشريد، السجن، الكهوف، الظلم، الحرمان، القهر، الظلم، الفرار، الهروب، اللجوء، الجدار، الغياب، الهجر، الفقد، الاختفاء). فكل هذه الدوال تحمل معنى النفي والاغتراب، ولكنه ليس نفي الذات واغترابها وإنما نفي المكان (الوطن) الذي أصبح منفيًّا خارج الإطار التاريخي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وعندما يحدثنا عن أحوال اليمنيين المنفيين والمشردين في بقاع الأرض المختلفة يقول في قصيدته (يمني في بلاد الآخرين)([23]):
من أين أنا ؟ مـن يدري أوَلَيْسـت لي جنسيـَّةْ؟
فلمـاذا تستـغـربُنـي هذي الزمـرُ الخشبيـَّةْ
عربـيٌّ لا تعـرفُنـي حتَّى الدنيـا العربيـَّةْ
وغـرابـات لا تـروى وغـرابـات مـرويَّـةْ
... يا ريحُ؛ بلادي خلفي ومعـي مثلي منسيَّـةْ
حتَّى أرضي يـا أرضي كأهـاليـهـا منفيَّـةْ!
جاء عنوان النص (يمني في بلاد الآخرين) مصدَّرًا باسم نكرة (يمنيٌّ)، وهذا الاسم يحمل مفارقة تتمثل في أنه صيغ في قالب (النكرة) على الرغم من أنه يتضمن معنى العلمية من جهتين: الأولى من لفظة (يمن)، والثانية من (ياء النسبة).
وكان للتنكير دلالته التي توحي بمعنى الغربة والغموض والإبهام لكل إنسان يمني, فخلو الاسم من (ال) التعريف دل على غربة الاسم ومدلوله، وتعريف النكرة (بلاد) بإضافتها إلى (الآخرين) دل على الألفة والقرابة والوضوح, والمقابلة بين النكرة (يمني) والتعريف (بلاد الآخرين) حقق التضاد التنافري بينهما، فالآخرون مألوفون في تلك البلاد؛ إلا كل يمني.
وكثافة دوال الاغتراب في هذا النص (تستغربني، لا تعرفني، غرابات لا ترى، غربات مروية، منفية) كثفت دلالة النفي الذي يعد النواة الأساسية التي انطلقت منه فكرة النص, وتكرار (حتى) أفاد معنى التقليل والتهوين.
4- الاغتراب المكاني:
إن للمكان دورًا مهمًّا وحاسمًا - منذ القدم - في تكوين حياة البشر، وترسيخ كيانهم وتثبيت هويتهم وتأطير طبائعهم، ومن ثمّ تحديد تصرفاتهم وتوجهاتهم، وإدراكهم الأشياء التي تحيط بهم. فقد اتخذ الشعراء العرب مواقف متنوعة من المكان تراوحت بين الرفض والقبول والتعاطف والألفة، كل بحسب الظروف التي نشأ فيها، وأشكال الاغتراب التي عانى منها، ولذلك نرى أن للشاعر أحيانًا أكثر من موقف تمليه عليه نظرته إلى المجتمع، فالموقف من المكان يكاد يكون صدى للموقف من المجتمع الذي ينتمي إليه([24]).
والاغتراب المكاني هو إحساس يشعر به الإنسان في بعده عن وطنه أو مكان إقامته، وهذا النوع من الاغتراب أكثر ما نراه ماثلا عند الشعراء الذين ابتعدوا عن أوطانهم وديارهم وانتقلوا إلى أرض أخرى لم يألفوها، فعاشوا فيها غرباء يعانون آلام الفراق والشوق والحنين إلى أوطانهم التي لا تفارق صورتها خيالهم([25]).
وفي تجربة البردوني الاغترابية نجد أن إحساسه بالغربة المكانية ليس قويًّا؛ لأنه لم يرتبط بمكان واحد ولم يغادر وطنه. وغالبًا ما اقترن الاغتراب المكاني بالاغتراب الزماني، مشكِّلَيْنِ بنية ثنائية تعمل ضد الذات المغتربة وتضاعف مأساتها، فالاغتراب الزماني هو" تلك الحالة النفسية التي تصيب الإنسان داخل وطنه في مرحلة زمنية مواتية تجعله يشعر بالغربة بين أهله وذويه، يحس بها تملأ عليه أقطاب نفسه مع أنه يعيش في مجتمع قد نشأ فيه"([26]).
ولا يملُّ الشاعر عبد الله البَردوني من تكرار تصورات الغربة والاغتراب في شعره، فكأنه يريد أن يمسك اليقين بكلتا يديه، وكلما زاد غربة زاد إحساسه بالناس وتعاطفه معهم؛ ففي قصيدته (إلا أنا وبلادي)([27]) يقول:
إنَّ داري كغربتي في المنافي واحتراقي كذكريـاتِ رمادي
يا بلادي التي يقولون عنها منك ناري ولي دخان اتِّقادي
هذه كلُّهـا بلادي وفيهـا كلُّ شيءٍ إلا أنـا وبـلادي
اختيار الجملة الاستثنائية (إلا أنا وبلادي) عنوانًا للنص وخاتمة له شكَّل ملمحًا أسلوبيا برز بوضوح داخل النص, فالجملة التي سبقت هذا الاستثناء في البيت الأخير (هذه كلها بلادي وفيها كل شيء) كلام تام مثبت يدل على التعميم بتكرار لفظ (كل), وجاءت الجملة الاستثنائية (إلا أنا وبلادي) لتغير السياق العام للنص فيخيب انتظار المتلقي بهذا الانتقال المفاجئ, ما يدل على عمق الاغتراب الذي تعاني منه الذات الشاعرة, وهذا السياق الاستثنائي أصبح غريبا داخل النص الذي وجد فيه، وهو يجسد نصيًّا حال الاغتراب.
وفي ظل الصراع السياسي والاجتماعي داخل المجتمع اليمني افتقد الشاعر الاستقرار المكاني والزماني، وأصبحت علاقة الذات الشاعرة بالمكان (الوطن والديار والمدينة والسجن والبيت والجدار) علاقة ذات طبيعة توتّرية، فتصبح تلك الأماكن وعاء حسيًّا يصب فيه الشاعر شحناته الانفعالية، فإن الشعور الأكثر بروزًا هنا هو الإحباط والانفصال، والإحساس بالعجز والتحجم وحقارة الذات؛ نتيجة لتلك المادية المفرطة التي يتميز بها هذا المكان، والتي تصدم حواسه في كل آن، وتشعره بالثقل وتكبيل الإرادة، وعرقلة الانطلاق نحو العالم الرحب.
لذا ظل الشاعر يحلم بمدينة الغد الفاضلة التي ستحقق له حلمه وتداوي جراحه، لكن سرعان ما تبددت أحلامه وتلاشت آماله حين تجلت له مدينته المنشودة ذات يوم، فإذا هي مدينة بلا وجه، وزمان بلا نوعية، من هنا اتخذ مواقف الرفض والتهكم والسخرية وعدم القبول بتلك المدينة التي اشتاق إلى لقائها يومًا ما؛ ففي قصيدة (ليلة خائف)([28]) يقول:
كانـت قناديل المدينـة كالشــرايين النـوازف
والجو يلهث كالمداخن فوق أكتاف العـواصف
وهنـاك مذعور بـلا حان على الأشواك عاكف
كالطائر المجروح فـي عش بأيدي الريح واجف
فكل محتويات المكان وضرورياته، ترعب الشاعر، وتضاعف من هواجس الخوف لديه؛ لأن معاينة الشاعر للمكان هي معاينة حدسية، فوق شعورية، تتجاوز الإدراك الخارجي لتتلون بحقيقة الذات, فالمدينة هنا تعد عنصرًا ضاغطًا على الذات لإخراج ما في داخلها، وإسقاطه على واقعية المكان، كما أنه يحرك في الشاعر كوامن هذه الذات ويبِين عما يراودها تجاهه من مخاوف سياسية وإنسانية ووجودية.
هذا، وقد وردت كلمة الضياع عتبة نصية في ثلاث قصائد، هي: (بعد الضياع([29])، ضائع في المدينة([30]), بين ضياعين([31])). فالعنوان الأول عنوان خادع لأنه يوهم المتلقي بتجاوز الضياع من خلال إضافة الظرف الزماني (بعد) إلى (الضياع)، لكن من البيت الأول من القصيدة يظهر لدينا ضياع يبدو أنه نوع آخر من الضياع:
إلى من أسير أهاض المسيرْ قواي وأدمى جناحي الكسيرْ
وكيف المسيرُ ودربي طويلٌ طويلٌ وجهدي قصيرٌ قصيرْ؟!
فكنت كفرخٍ أضاع الجنـاحَ وتدعـوه أشواقُه أن يطيـرْ
وهذه الضياع ولد اغترابا نفسيا، يتأكد في العنوان الثاني (ضائع في المدينة) حيث تشعر باغترابها داخل المكان الذي ينبغي أن يوفر أكبر قدر من الألفة والتفاعل الإنساني، وهنا تتجلى المفارقة في العنوان:
هل هنا أو هناك غيـرُ جذوعٍ غيرُ طينٍ يضجُّ ، يعـدو ويُقْعِي
لو عبرتُ الطريقَ عريانَ أبكي وأنادي، مـن ذا يعي أو يوعِّي؟
يافتى يارجالُ!يا...يا...وأنسى في دويِّ الفراغ صوتي وسمعي
وهذا موصول بضياع آخر مكثف، تدل على كثافته صيغةُ المثنى (ضياعين)، وظرف المكان (بين) الدال على التوسط ينشئ في أذهاننا صورة للذات وهي واقعة بين ضياع وضياع، وهو ما يعني وجود تكرار ذهني، ينتج دلالة كثافة الضياع وانحصار الذات بين طرفي الضياع:
كلُّ مـا عندَنـا يَزِيـدُ ضياعا والذي نرتجيـه ينـأى امتناعا
نشتهيـه غدًا ، يزيـد ابتعادًا نرجع الأمس، لا يُطيق ارتجاعا
بينَ يـومٍ مضى ويومٍ سيأتي نـزرعُ الريـحَ نبتنيهـا قلاعا
والذي سـوف نبتنيـه يولِّي هاربـًا والـذي بنينـا تداعى
نمتطي موجةً إلى غيرِ مَرْسى إنْ وجدنـا ريحًا فقدنا الشراعا
تصدرت لفظة (كل) القصيدة لتدل على العموم والشمولية، وإضافتها إلى الاسم الموصول (ما) كثَّف الدلالة الكلية، ويرى الدكتور شكري عياد أن الاسم الموصول "عجيب الشأن بين أنواع المعرفة , فهو معرفة غير محدودة"([32]), ويعد أكثر شمولا من بقية الأسماء الموصولة لدلالته على العاقل وغير العاقل. وتقديم موضوع (الضياع) في الصياغة اللغوية دل على استجابة الذات له، ويأتي الكلام بعده ناتجا عنه ومرتبطا به.
وقد جاء الفعل (يزيد) ليؤكد كثافة الضياع المتجلية من قبلُ في العنوان، وتركيبة الجملة (كل ما عندنا يزيد) تقدم دلالة إيجابية يتوقع معها المتلقي قدوم عنصر لغوي إيجابي، ولكن جاءت كلمة (ضياعا) السلبية لتخيب ظن المتلقي، لما فيها من عنصر المفاجأة، ولتحتل نقطة ارتكاز أساسية في صدر البيت نصيا ودلاليا.
ومن جهة أخرى كان للفعل المضارع حضور كثيف (نرتجيه، نشتهي، نرجع، نزرع، نبتني، نمتطي)، ودل على محاولات الذات المتكررة للخروج من واقع الضياع، لكن الأفعال الصادرة من الموضوع (يزيد، ينأى، لا يطيق، يولي، تداعى) دلت على استمرارية الضياع في الماضي والحاضر والمستقبل، وحالت دون أن تحقق الذات ما تصبو إليه.
5- الاغتراب النفسي:
الاغتراب النفسي هو الحالة التي يشعر فيها الشاعر المغترب بأن الأشياء التي تحيط به فقدت ماهيتها وتبدلت مفاهيمها، فيسيطر الذعر والخوف على الذات، فلا تكاد تميز بين الحقيقي والمزيف. ويرى محمد راضي جعفر أن هذا النوع من الاغتراب "هو نتاج تراكم عدة أنواع اغترابية كالاجتماعي والعاطفي وسواهما؛ إذ إن تعاقب الإخفاقات والإحباطات تؤدي بالإنسان إلى اعتزال واقعه اعتزالا كليًّا أو شبه كلي، وسعيه إلى بلوغ واقع آخر لا وجود له إلا في تصوره"([33]). ففي قصيدة (بين ليل وفجر)([34]) يقول:
في هجعةِ اللّيلِ المخيفِ الشـاتي والـجوّ يحـلمُ بالصباحِ الآتـي
والريحُ كالمحمومِ تهذي والدجى في الأفق أشْـباحٌ من الإنصـاتِ
والشُّـهبُ أحـلامٌ معلّـَقةُ على أهـدابِ تمثـالٍ مـن الظلمـاتِ
والطيفُ يخبطُ في السكينةِ مثلما تـتخبّطُ الأوهامُ فـي الشُّبهـاتِ
والظُّلمةُ الخرسـا تَلَعْثَمُ بالرؤى كـتلعـثمِ المخـنوقِ بالكلمـاتِ
في ذلكَ الليلِ المخيفِ مضى فتىً قلـقُ الثـيابِ مروَّعُ الخـطواتِ
لقد تجرع البردوني مرارات الاغتراب المركبة، الاجتماعية والعاطفية والسياسية والمكانية، وهذه الأنماط الاغترابية استحكمت حلقاتها على الذات الشاعرة وشكلت ثقلا تراجيديًّا يضغط على الذات المغتربة نفسيًّا، فتخرج تصورات مخيفة ومرعبة على شكل أشباح وقصص خرافية وتوهمات وأطياف ليلية مصدرها اللاشعور أو العقل الباطن، حتى تتساوى تلك التصورات مع الاغتراب النفسي المركب، فتحفظ الذات المغتربة توازنها، ويحول بينها وبين الانهيار التام.
وفي هذه المرحلةتبدو فيها الذات تائهة تبحث عن ركن متين لتضمن حضورا متماسكًا، وهذا يتجسد نصيًّا في حضور شبه الجملة الظرفية التي لا تقوم دلالتها إلا بتعلُّقها بمسند، وكأنها هي الأخرى في بحث مستمر عن ركنها المتين. والشعور بالتيه والعدمية والانسحاق يكون نتيجة لعدم التوازن بين الذات والواقع الذي تعيش فيه، وكلما حاولت الذات أن تبحث عن ذلك العالم المثالي الذي رسمته في عالمها الخيالي؛ لا تجده في ذلك الواقع الذي يحيط بها؛ لهذا يظل التوازن بين الداخل والخارج مختلا، وحينئذ تشعر الذات بهذا التيه الذي لا انقطاع له، ففي قصيدة (تائه)([35]) يقول البردوني:
تـائــهٌ كالجنـونْ خلـفَ مـا لا يكونْ
تـائــهٌ كالـرَّجـا في زوايـا السجونْ
كخيــال اللِّـقــا حولَ وهـمِ الجفونْ
كريـاحِ الضُّـحـى في صخورِ الحُزُونْ
كأنـيــنِ الشِّـتـا فوقَ صمتِ الغصونْ
كطيـوفِ المَســا في متـاهِ العيـونْ
يمثل عنوان النص (تائه) عنصرا أساسيا تدور حوله مجموعة من الألفاظ تجمعها علاقة دلالية واحدة هي دلالة التيه، وهذه الألفاظ هي: الجنون، الرجاء، الخيال، الوهم، الرياح، طيوف، متاه، طيف، الرؤى.
وقد جاء العنوان بصيغة الاسم للدلالة على رسوخ هذه الصفة في الذات المغتربة، وتكرارُها في صدر القصيدة وصدر البيتين الأول والثاني كثَّف هذه الدلالة وأكَّدها. وحذفُ المبتدأ الضمير العائد على الذات (أنا) جسَّد دلالة التيه.
وبالنظر إلى النص نجد أنه قائم على شبه الجملة، فقد سيطرت شبه الجملة على شطرتي البيت، فتموضع شبه الجملة من الجار والمجرور في صدور الأبيات، بينما تموضع شبه الجملة الظرفية في أعجاز الأبيات. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن شبه الجملة هو تجسيد نصي لحال التيه.
- أن مفردة التيه حمِّلت دلالات نفسية، كالخوف والقلق والرعب والهلع، ولذلك كانت حاضرة بقوة في مرحلة الاغتراب النفسي (1978-1994م) التي برزت فيها مظاهر الاغتراب النفسية والزمانية والثقافية والفكرية والروحية والاجتماعية والوجودية في دواوينه الأخيرة (وجوه دخانية في مرايا الليل، وزمان بلا نوعية، وترجمة رملية لأعراس الغبار، ورواغ المصابيح، وكائنات الشوق الآخر، ورجعة الحكيم ابن زايد). وفي هذه المرحلة برزت مفردة الغرابة وسرديات الخوف والظلام (الأشباح، الطيف، الخيال، الوهم، مخاطبة الموتى، المقابر، السجون، الظلام، الغابات)، وقد شكلت هذه الدوال عناصر سردية اتكأ عليها الشاعر ليصور انفعالاته المضطربة والخائفة من الماضي والحاضر والقادم المجهول. وقد كان هناك أكثر من قصيدة تضمن حضورا كثيفا لدوال الخوف والقلق النفسي والوجودي؛ نحو: وجوه دخانية في مرايا الليل، صراع الأشباح، مدينة بلا وجه، رواغ المصابيح، رسالة إلى صديق في قبره، فارس الآمال، كائنات الشوق الآخر، زمان بلا نوعية.
ففي مجموعة (وجوه دخانية في مرايا الليل) يصف الشاعر الوجوه بوصف غير مألوف في اللغة "فقد تكون الوجوه حزينة أو فرحة .. أما أن تكون دخانية فهذا انحراف عن الأصل المتعارف, والانحراف يحتاج إلى دليل في غير الشعر, أي على مستوى العقل والمنطق, اما على مستوى الإبداع فإن سبل التعرف والإبداع في الاستعمال يسمح بذلك, بل يطلبه. فلو استبدلنا بكلمة (دخانية) وصفًا آخر كـ(حزينة) لفقدت الجملة شعريتها ولأصبحت مألوفة جدا, فإذا ما انتقلنا إلى الجزء الثاني من العنوان وهو (في مرايا الليل) لحظنا أنه يجعل لليل مرايا, فكيف يسوغ ذلك؟ لعله أراد أن يوحي بحالة نفسية تستشعر الحزن والتمزق والانسحاق والضياع وعبثية الأشياء"([36]).
وفي مجموعة (زمان بلا نوعية) نجد أن إطلاق صفة النوعية على الزمن يمثل انزياحا في اللغة؛ لأن الزمن ليس له نوع, ونفي هذه الصفة عن الزمن هي نفي الشئ المنفي أصلا؛ وتركيبة العنوان (زمان - أداة نفي - نوعية) مفاجئة في التركيب النعتي وتوحي بشدة القلق الوجودي والنفسي الذي يتحكم في الذات.
وكذلك الحال في بقية العنوانات الأخرى، ومن ثم طغت على دوال هذه المرحلة الألفاظ الآتية: (التيه، الضياع، الخوف، القلق، العدم، الذل، الانسحاق، الهزيمة، الانطواء، الرعب، الاكتئاب، الإحباط، اليأس، العجز، الهذيان، الرياح، الرمال، الفيافي، السراب، الأشباح، الموتى، الدماء، الذعر، ...). يقول البردوني في قصيدة (صراع الأشباح)([37]):
وحدي ومقبـرةٌ جواري والوهمُ والأشباحُ داري
والأفقُ يَشْرَقُ بالدُّجـى ويلوك حشرجةَ الدَّراري
والريحُ تزحـفُ كالجَنا ئزِ في حشودٍ من غبارِ
والنجمُ محمـرُّ الشُّعـا عِ كأنَّـه أحـلامُ ثـارِ
وكـأنَّ عينيـه تَشَهِّي جـارةٍ وحنيـنُ جـارِ
وأنـا أَتِيــهُ كنجمـةٍ حَيْرَى تفتِّش عـن مَدَارِ
يمثل العنوان بعدًا دلاليا للخوف والفزع، فقد ارتبطت الأشباح بالدلالة على الكائنات الليلية المخيفة التي ترتاد الأماكن المهجورة، غير أنها في النص الاغترابي حملت مدلولا جديدا يتصل بالخوف المصحوب بالقلق من الجهول.
وقد برزت في مطلع هذا النص دوال التيه (مقبرة، الوهم، الأشباح) في تتابع أفقي، متصلة بالذات المغتربة (ياء المتكلم: وحدي، جواري، داري). وعلى المستوى الرأسي برزت أربعة دوال (الأفق، الريح، النجم) متصدرة الأبيات التالية للمطلع. ومثل كلُّ دال عنصرا دالا على التيه غير المتناهي، وهو ما تم تجسيده نصيا من خلال التتابع الرأسي الذي يعبر عن عمق في الدلالة، في حين أن الدوال في مطلع القصيدة تتابعت أفقيا للدلالة على قربها المكاني من الذات.
وقد تواترت هذه الدوال في دلالتها غير الصريحة على التيه في البيت الأخير الذي ظهرت فيه الذات ظهورا بارزا (أنا)، والتيه مسند إليها مصرح به في صورة الفعل المضارع المسند إلى المتكلم. وبهذا التتابع غدت الذات جزءًا من هذا الكون العريض تتيه فيه كما تتيه بقية الأجزاء.
ولم تعان الذات من رتابة الخارج الثقافي وزيفه وادعائه فقط، بل إنها تعاني كذلك تراجع الداخل الثقافي الخاص وانهزامه أمام الخارج السياسي؛ ففي قصيدته (أمام مفترق الاخير)([38]) يقول البردوني:
يا شعرُ يا تاريخُ يا فلسفة من أين يأتي قلق المعرفةْ
مـن أين يأتي كل يوم له غرابة … رائحة مرجفةْ
نألفه شيئا … فيبدو لنـا غير الذي نعتاد كي نالفهْ
لكنْ لـه في كلِّ يوم فـم ثان … يد ثالثة مرهفةْ
يبدأ النص بأسلوبي الإنشاء النداء والاستفهام, ويتكرر النداء في البيت الأول ثلاث مرات وكأنه صراخ أطلقه الشاعر في وجه العناصر الثقافية الجامدة والرتيبة (الشعر والتاريخ والفلسفة), ليسمعوا السؤال في عجز البيت: من أين يأتي هذا القلق المعرفي الغرائبي المتلون المتغير من يوم إلى آخر؟
وكل هذه التساؤلات والنداءات توحي بالحيرة والتيه والضياع الذي وصلت إليه الذات الشاعرة أمام الواقع المعرفي والثقافي والسياسي الملبد بالغيوم التي لا يكاد الشاعر يعرف مصدرها التي جاءت منه.
وفي هذه المرحلة الاغترابية المركبة تسرب القلق الوجودي إلى الذات الشاعرة, وأصبح عنصرا الزمان والمكان من أكثر العناصر قمعا للذات العاجزة عن التكيف مع المحيط الذي تعيش فيه, ففي قصيدته (زمكية)([39]) يقول:
المـكان الآن , والآن المكان والذي كان غدا بالأمـس كان
والـذي يـأتي أتى مستقبلا قبل أن يزَّوَّج السـوق الأوان
ألـغت الأفـعال فعـلياتـها شكلت أسماءها عنهـا لجان
الزمان انحلَّ أبحـارًا دمًـا البيوت استوطنت ريح الزمان
جاء العنوان (زمكية), اسم منحوتا من كلمتين هما )زمانية – مكانية), وفي هذا النص برز تقليب التراكيب (التبديل), ويعني أن تعكس الكلام في جملة سابقة وتجعله في الجزء الأخير من جملة لاحقة([40]), وقلب التركيب في البيت الأول أنتج مقابلة تضادية داخل السياق.
المكان الآن (و) الآن المكان
(والذي) كـان غدًا بالأمس كــان
غير أن ما يغدو أكثر إثارة ما يتمثل فيما يسميه كمال أبو ديب (الإقحام) , الذي ينشأ من وضع مكونات غير متجانسة في بنية لغوية متجانسة, وذلك في صدر البيت وعجزه، فكلمتا (المكان وكان) مثلتا مفتتحا للتركيب ومختتما, وهذا التطويق للزمان: ما مضى وما سوف يأتي؛ يكثف الإحساس بالعدم والعبث، فكل شئ انتهى: الماضي والحاضر والمستقبل([41]).
وعندما تصل الذات الشاعرة إلى قمة الاغتراب النفسي الزمكاني؛ أي ثنائية المكان والزمان (Time-sbace) تفقد الاتزان الوجودي, ففي قصيدته (وراء الرياح)[42] يقول الشاعر:
تقولين لي: أين بيتي مُزاحْ؟ من النار زاد رمادي جـراحْ
تقولين أين؟ وبيتي صـدى من الريح جدرانـه من نواحْ
وتيه وراء ضياع الضيـاعِ وخلف الدّجى, ووراء الرياحْ
عنوان النص (وراء الرياح) شبه جملة ظرفية مكانية متعلقة بمحذوف هو كلمة (تيه) العائدة على بيت الشاعر, وإضافة ظرف المكان (وراء) إلى (الرياح) أفضى إلى تحديد المكان, والانزياح في بنية الجملة أوقع المتلقي في خيبة التوقع عندما أضيف الظرف (وراء) إلى شيء لا وراء له، وهو (الرياح), إذًا هذا العدم الذي تشكل في التركيب اتفق مع ضياع الذات وعدمها، فمن خلال العنوان تبدو دلالة التيه والضياع أكثر وضوحًا.
وتبدو دوال التيه والضياع في النص واضحة (بيتي صدى، القبر، الجدران، النواح، تيه، وراء ضياع الضياع، خلف الدجى، وراء الرياح)، وإن ملفوظ (بيت) يوحي للسامع بالدفء والأمان, فهو الملاذ الآمن, لكن النص يفاجئ المتلقي بالصدمة حين يتجرد البيت من وظيفته تلك ليغدو صدى من أصداء القبر, صدى يضج به الصمت والخوف والحزن والموت؛ والمفارقة هي أن البيت صار مأوى للأشباح, وإذا كانت الحواس تستأنس بلفظة الجدران فإن استئناسها ينتهي عندما تنوح تلك الجدران. وعندما تستدعي الذات ظرف المكان (وراء) في (تيه وراء ضياع الضياع) إنما تجعل المكان في حكم العدم, وكذلك ملفوظ (خلف الدجى) يوحي بأن المكان يتجسد في عدميته وهي عدمية وجود الذات في سياق الزمان والمكان([43]).
وسائل قهر الاغتراب في شعر البردوني:
أمام هذا الواقع الاغترابي لم يقف البردوني مسلوب الإرادة والتفكير، بل استخدم وسائل تعويضية عدة اتكأ عليها في قهر اغترابه، فتارة يتَّخذ الشعر والحبَّ والذكرى والأحلام والامتزاج بالطبيعة متنفسًا، وتارة أخرى يجعل البكاء والشكوى والنداء والسخرية والتمرد وسائل للتخفيف من وطأة الاغتراب النفسي والوجودي. وعلى الرغم من هذا الجهد الذي يبذله الشاعر لقهر عوالمه الاغترابية؛ لم يظفر ولو بالشيء اليسير, ومن ثمَّ أعلن سفره ورحلته الطويلة للبحث عن ضالته المنشودة ووطنه الضائع في صحراء التيه الكبير.
وإلى جانب تلك الوسائل الموضوعية اتَّخذ البردوني تقنيات نصيّة لقهر الاغتراب، تمثلت في: استلهام التراث([44]) والتناص([45]) والبنية الدرامية([46]) وأسلوب التهكم والسخرية([47])؛ هربًا من حاضر قاسٍ فرض عليه الوحدة والاغتراب في مجتمعه حينًا وعن ذاته حينًا آخر، إلى عالم مثالي يرسمه في خياله ووعيه، قد يجد فيه ما يخفف آلامه واغترابه, ويلطف من قساوة الحاضر مهما يكن عسف الماضي وحجم عذابه([48]).
وفي النص الاغترابي في شعر البردوني تنوعت الأدوات التي اتخذها البردوني وسائل يقهر بها اغتراباته النفسية والمكانية والسياسية والعاطفية والاجتماعية، بحسب تنوع الأنماط الاغترابية عنده، ففي مرحلة اغترابه الاجتماعي كان الحب والشعر والشكوى والبكاء أبرز الأدوات التي استند إليها للتخفيف من وحدته ووحشته واغترابه، فبعد أن تحول (الحب) من وظيفته الإيجابية (أداة لقهر الاغتراب) إلى وظيفة سلبية تعمل ضد الذات وتزيد من عذابها واغترابها؛ اتخذ الذكرى واللقاء والوصال أدوات تخفف من اغترابه العاطفي.
وحين أصبح وطن الشاعر منفيًّا وضائعًا وأسيرًا؛ تمرد الشاعر على كل ما يحيط به، وسخر من واقعه الذي يعيش فيه، وتحت وطأة هذا الواقع المأساوي والأليم لم يكن أمام الشاعر إلا أن يعلن سفره ورحلته ورحيله للبحث عن وطنه الضائع والمسلوب في الإرادة والحرية والتفكير.
ومعظم هذه الوسائل التي اعتمدت عليها الذات المغتربة في قهر اغترابها ووحدتها ووحشتها سرعان ما تعطلت أمام طوفان الاغتراب المتعدد والمترامي الأطراف (الكلمة والوطن والمكان والكون)، وشكل هذا التمدد الاغترابي عمق التجربة الاغترابية.
ويعدُّ الاغتراب في (الكلمة) أشدَّ أنواع الاغتراب تمزيقًا للذاتِ المغتربة، فحينما تتعطل لغة الكلام ويسود الصمت والوحشة والفراغ والموت والعدم عالم الذات الشاعرة وتتلاشى علاقة الحب بين الشاعر ومحبوبته؛ يأخذ الاغتراب أبعادًا مختلفة، بحيث يصبح الشاعر غريبًا في هذا الكون، فكل من حوله تركوه وحيدًا مستوحشًا في غربته واغترابه، فيلجأ الشاعر إلى وسيلة الشعر والفن الذي يحس أنه قدره الوحيد الذي يحيا معه وينشده أغاني الخلد والحياة. ولذا أصبحت التجربة الإبداعية الوسيلة المثلى لمواجهة الاغتراب، فقد أحس البردوني أنها أفضل أداة تعويضية([49]).
ويرى الدكتور سالم السلفي أن الشعر أو الإبداع يعد أهم أداة يقهر بها الشاعر المغترب غربته، ولذلك قدمه على بقية الوسائل التي أشهرَها الشعراء في وجه غربتهم خلاصًا منها أو تخفيفًا([50]). ففي قصيدة (أنا والشعر)([51]) يقول البردوني:
هاتي التآويه يا قيثـارتي هـاتي وردِّدي مـن وراءِ اللّـيل آهـاتي
وترجمي صوت حبـّي للجمالِ ففي نجواكِ يـا حلوةَ النجوى صباباتي
قيثارتي صوت أعماقي عصرت بها روحي وأفرغت فـي أوتارها ذاتي
قيثـارتي أنـتِ أمُّ الشِّعرِ لم تلدي إلا غِنـا الـخلد أو لحن البطولاتِ
أودعت نجواك آيـات النبوغِ فـيا قيـثارتي لقـّني التاريخ آيـاتي
وغرّدي بخيالاتـي العِـذاب فما حقيقة السحر إلاّ مـن خيـالاتي
اشتمل عنوان النص (أنا والشعر) على رابط نحوي (الواو) ليدل على المصاحبة والملازمة بين الذات الشاعرة والشعر. ومن خلال هذه المصاحبة تقهر الذات اغترابها إذ تجد في الشعرِ الآخرَ الذي تتفاعل معه وتشاركه مشاعره المختلفة؛ لأن الشعر هو العنصر الذي يضمن للشاعر تواصله المستمر مع الإنسانية حتى بعد موته، وهو بذلك يضمن الخلود والبقاء المطلق. ولم يقتصر الشعر على قهر اغتراب الشاعر فحسب، بل تجاوز ذلك إلى قهر اغترابات وطنه ومجتمعه؛ لإخراجه من اغترابه السياسي والثقافي والاقتصادي والفكري فقد كانت تجربة البردوني الشعرية والإبداعية قنديل هداية وسفينة نجاة يهتدي بها السائرون و"وطنا يؤلفه الكلام"([52]).
وبعد أن عجزت الذات المغتربة عن تحقيق رغباتها والتخفيف من عذاباتها وآلامها وتلبية طموحها وآمالها لم يكن أمامها أي سبيل للخروج من واقعها الاغترابي الذي تعيش فيه إلا أن تولي وجهها شطر الاتجاه الرومانسي الذي مثل الملجأ الوحيد الذي يهرب إليه الشعراء للتخفيف من شدة وطأة الاغتراب، لعل هذا الاتجاه يلبي حاجات الإنسان إلى الحلم بواقع جديد غير الواقع الذي يعيش فيه، واقع مثالي متجدد، ومن هنا فقد اقتفى البردوني أثر معاصريه من الشعراء، ولا سيما في تجاربهم الشعرية الأولى. وعندما يفتقد كل ما يحيط به يهرب إلى عالم الأحلام والطيف والخيال، ففي قصيدة (ليلة الذكريات)([53]) يقول:
دعـيني أنمْ لحظةً يا همومُ فقـد أوشك الفجرُ أن يطلعا
وكـاد الصباحُ يشقُّ الدجى ولـم يأذنِ الفجرُ أن أهجعا
دعيـني دعيـني أنمْ غفوةً عسـى أجـدُ الحلمَ الممتعا
دعيـني، أَطَلَّ عليَّ الصباحُ ومـا زلت في أرقي موجعا
في هذا النص يخاطب الشاعر ليلة الذكريات ويترجاها أن تتركه ولو لحظة واحدة لعلّه يجد فيها حلمًا يحقق له ما يتمناه، وهذا التودد والترجي والاستعطاف يشير إلى حقيقة المعاناة التي تعاني منها الذات المغتربة ومحاولة الخروج منها ولو عن طريق الحلم والخيال. وهكذا استمر الشاعر في مواجهة الاغتراب، فكلما تقهقرت وسيلته الدفاعية استند إلى وسيلة أخرى.
واحتلت مفردتا (الذكرى واللقاء) المرتبة الأولى إحصائيًّا في قهر الانفصال والحرمان العاطفي، ويعود ذلك إلى أن لحظة اللقاء التي وقعت في الزمن الماضي تمثل محطات يقف عليها الشاعر المغترب يستعيد فيها المواقف الجميلة التي عاشها، معللاً بها نفسه أو معبرًا عن حزنه وآلامه وعذابه. ومن تصريحاته بذكريات الحب الأولى وحنينه إلى تلك الأماكن التي التقى فيها بالمحبوب، ما قاله في قصيدته (كيف أنسى)([54]) التي قيلت على قبر حبيبة الطفولة عندما طاف به الشاعر:
هيهاتَ أن أَنسـى هـواك، كلَّمـا حاولتُ أن أنسى ذكرتُك مغرمـا
يا للشجونِ وكيـف أنسى والأسى يقتاتُ أوصالي وينتـزفُ الدمـا
يا أخـتَ روحي، وابتسامَ طفولتي وبُكا شبابي – آهِ – ما أَلْقى وما
ومن تصريحاته بمسرات اللقاء والوصال بينه وبين حبيبته قوله في قصيدة (لقيتها)([55]):
أين اختفت في أيِّ أفـقٍ سامـي؟ أيـن اختـفت عنِّي وعن تَهْيامي؟
عبثًا أُناديـهـا وهـل ضيَّعتُـهـا في الليـلِ أم فـي زحمةِ الأيّـَامِ؟
أم في رحابِ الجوِّ ضاعت؟ لا، فكم بثَّيـت أنسـامَ الأصيـلِ غرامـي
ولقيتها يا شوقُ – أين لقيتهـا – عنـدي هنـا فـي الحـبِّ والآلامِ
استخدم الشاعر الضمير الغائب للتعبير عن الموضوع ابتداء من العنوان وانتهاء بالنص، وجاء التنكير والإضمار ليدل على تجسيد الضياع والاغتراب داخل النص الشعري، وكذلك تكرار دوال الضياع (اختفت، أفق، عبثا، ضيعتها، الليل، رحاب الجو، ضاعت، زحمة الأيام) التي شكلت حقيقة الاغتراب والضياع، وعلى الرغم من كل هذا فما زال الشاعر متشبثا بالذكرى واللقاء والشوق والوصال؛ لأنها البديل التعويضي عما تعانيه الذات المغتربة.
ويمثل السفر والجوب والرحيل في خط الغربة نقطة البداية، كما يمثل الجانب الحركي فيها، جاء في المعجم الوسيط: "رحل عن المكان رحلا ورحيلا وترحالا ورحلة: سار ومضى ... ارتحل: رحل"، ومن هنا اقترن الرحيل بالتعب، كما اقترنت الرحلة في الشعر منذ أن أسس لذلك الشاعر الجاهلي في وصف رحلته وانتقاله من مكان لآخر. "وعلى الرغم من أن الاستخدام المعاصر لمفردة الرحلة قد نقلها من الترويع إلى الترويح؛ فإن شعر الغربة ظل يتعامل مع الرحلة بمدلولها التراثي المشحون بالتعب والوجع والخوف والحزن"([56]). والعلاقة بين الغربة والاغتراب ومرادفاتهما تقوم على مبدأ الحركة، حركة الانتقال من الوطن إلى الغربة أو العكس، وفي هذه الحركة يظهر لنا طرفان متباعدان ينتقل فيها عنصر من الطرف الأول إلى الطرف الثاني([57]).
والمتتبع للمراحل الاغترابية التي مر بها البردوني منذ نشأته حتى وفاته يدرك أنه كان يعي واقعه وعيًا حقيقيًّا منذ أن أصيب بالعمى في الخامسة من عمره الذي أيقظ لديه وعيًا حادًّا بذاته، غير مستسلم لهذا الواقع الذي يعيشه، فقد اختار طريق الرفض والتمرد سلوكًا ومنهجًا في الحياة، تمرد على بؤس القرية التي لم تتسع لأحلامه وطموحه، وتجاوز عاهة العمى فسلك سبيل العلم والمعرفة متنقلاً من مدرسة إلى أخرى([58])، وحط رحاله في مدينة صنعاء، ومن هناك ابتدأت رحلته الكبرى، الرحلة النفسية والوجودية والروحية التي ابتدأها من أرض بلقيس، وأنهاها برجعة الحكيم ابن زايد.
لقد رحل البردوني، وسافر من مكان إلى آخر وهو يحمل وطنه معه في غربته وتشريده وضياعه، هكذا كان يعيش تجربة الاغتراب سفرًا ورحيلاً من دون وداع أو شوق إلى الرجوع، فهو لم ينفصل عن وطنه وأرضه، بل تقمص محنة وطنه وشعبه، وذهب يحكي للعالم مأساته ووحدته واغترابه، إنه منغرس في رحم الأرض متوحد فيها. فقد اقتنص الشاعر من مجريات التاريخ اللحظات المشرقة التي عززت لديه التفاؤل والأمل بواقع جديد، وكان في تعامله مع التاريخ ينطلق من وعي كامل به، فأحب أن ينقل رؤاه وأفكاره التي استشفها من التاريخ ليعكسها على واقعه، فيزود نفسه وكل من يحيطون به من الدعاة والسياسيين والمصلحين بعوامل تزيد من قوتهم وصمودهم وتشحذ هممهم، لمواصلة السير في طريق الفجر، والسفر إلى الأيام الخضر؛ للوصول إلى مدينة الغد. ففي قصيدة (كلنا في انتظار ميلاد فجر)([59]) يقول البردوني:
يا رفاق السّرى إلى أين نسري؟ وإلى أين نـحن نجري ونجري؟
دربُـنا غائـمٌ يغـطيه لــيلٌ فكأنّا نـسير في جـوف قـبرِ
دربُـنا وحشـةٌ وشوكٌ ووحلٌ وسباعٌ حيرى, وحيَّـاتُ قفـرِ
ومـتاهٌ تحـيَّر الصـمتُ فيه حيرةَ الشك في ظنون (المعرّي)
في هذه الأبيات جاءت الدوال المكانية تكثف دلالة التيه والضياع والاغتراب. وعلى الرغم من ضياعه وضياع مدينته فما كفَّ عن البحث عن ملامح صنعاء الحقيقية وسط الركام الثابت والمتحول من أيامها، فهو لم يفقد الأمل في جديد آت. فقد كان يتطلع دائما إلى الغد الأفضل والزمن الجديد الذي ظل ينشده طوال رحلته المضنية، معللا نفسه بمدينة الغد واستعادة ذلك الحلم المُهْدَر، الذي تغنى له دهرًا طويلا، ومن هنا برزت ألفاظ البشرى والتفاؤل والسرور في شعره, واستخدامها أداة لقهر اغترابه الوجودي. وتركزت مفردات الحلم والأمل في ديواني (السفر إلى الأيام الخضر) و(مدينة الغد) التي انعكست دلالتها الإيحائية والشعرية في البياض والنور، ويشير عنوان مجموعته (في طريق الفجر) إلى تمحور هذه المفردة في ثنايا معجمه، فاختيار لفظة (الفجر) ينم عن وعي دقيق بمعنى النور، وقد طور البردوني من دلالة الفجر وحمَّله دلالات جديدة حين جعله رمزًا للحرية والاستقلال والثورة والحضارة والانعتاق من الجهل والفقر والظلم والتخلف والرق والعبودية والاستبداد، ففي قصيدته (كلنا في انتظار ميلاد فجر)([60]) يقول:
كلُـنا في السرى حيارى ولكن كلنـا فـي انتظار مـيلاد فجــرِ
كلُـنا في انتظار فجـرٍ حبيبٍ وانتظارُ الحبيـب يُصبي ويُـغري
يـا رفاقي لنا مع الفجر وعد ليت شعري متى يفي؟ ليت شعري!
هكذا عاش الشاعر عبد الله البردوني غريبًا ومات غريبًا تاركًا وراء ظهره تراثًا أدبيًّا وإنسانيًّا ضخمًا يعاني مرارات الإقصاء والتهميش والإخفاء والغربة والاغتراب ذاتها التي عانى منها صاحبها أثناء حياته، ورغم كل هذا فقد استمر يقاوم آلام الغربة والوحدة والاغتراب بالوسائل المتاحة له كافة، فهو لم يستسلم لواقعه الاغترابي ولم يطأطئ رأسه لصروف الزمن ونكباته على الرغم من تعدد محابسه (الفقر والجرح والسجن والعمى).
الهوامش
([1]) ينظر: الاغتراب: ريتشارد شاخت، ص117؛ الاغتراب والإبداع الفني: محمد عباس يوسف، ص52.
([2]) ديوان البردوني: ص158.
( [3]) الغربة والاغتراب (دراسة في شعر ابن درّاج الأندلسي): محمد شوابكة, مجلة مؤتة للبحوث والدراسات, جامعة مؤتة, الأردن, مج4, ع2, 1989م, ص160.
( ([4]ديوان البردوني: ص96.
([5]) المصدر نفسه:141.
([6]) ينظر: من خصائص الأسلوب في شعر السبعينيات في مصر: عبدالله السمطي, مجلة نزوى، عُمان، ع28، أكتوبر 2001م, ص89.
([7]) الصورة الشعرية عند عبد الله البردوني: وليد مشوح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1996م، ص142.
([8]) ينظر:الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن: عبد العزيز المقالح، دار العودة، بيروت، ط2، 1986م، ص83.
([9]) ديوان البردوني: ص222.
([10]) ديوان عبد الله البردوني (الأعمال الشعرية الكاملة): إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004م، ص89. ولكثرة تردد هذا المصدر سنتخصره في المرات التالية إلى (ديوان البردوني) مع إثبات الصفحة فقط.
([11]) ديوان البردوني: ص108.
([12]) ينظر: الشاعر الكفيف والمرأة (الشاعر عبد الله البردوني أنموذجًا): شوقي بغدادي, مجلة الكويت، العدد 227، سبتمبر 2002م, ص47.
([13]) الحنين والغربة في الشعر العربي الحديث: ماهر حسن فهمي، ص233.
([14]) ينظر: الاغتراب في الشعر التركي والشعر العربي في كل من مصر والشام والعراق: عبد الرزاق محمد حسن بركات، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة عين شمس، 1986م، ص255.
([15]) ديوان البردوني: ص294.
([16]) المصدر نفسه: ص120.
([17]) ديوان البردوني: ص363.
([18]) ديوان البردوني: ص558.
([19]) المصدر نفسه: ص564.
([20]) قراءة في قصيدة (من منفى إلى منفى): ريم العيساوي, صحيفة الحرة, ع5, 1 سبتمبر 2010, ص11.
([21]) ديوان البردوني: ص650.
([22]) يظهر أن التقابل "سمة من سمات الأشياء المادية والمعنوية, المحسوسة وغير المحسوسة. وهي ظاهرة كامنة في حقيقة الأشياء, وبارزة على سطوحها, وهذه الظاهرة من سمات الكون والحياة والانسان: نفسه وجسمه وعقله. كما أنها سمة دلالية من سمات اللغة المتصلة بالفكر الانساني - ظاهرة التقابل في علم الدلالة: أحمد نصيف الجنابي، مجلة آداب المسستنصرية, العراق، ع10, 1984م.
([23]) ديوان البردوني: ص181.
([24]) ينظر: الاغتراب في الشعر العراقي: محمد راضي جعفر، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999م، ص32.
([25]) ينظر: الغربة في شعر المتنبي: عبد الرحمن محمد الهويدي، مجلة الكوفة، مج5، ع1، 2001م، ص18.
([26]) المرجع نفسه: ص19.
([27]) ديوان البردوني: ص560.
([28]) ديوان البردوني: ص324.
([29]) ديوان البردوني: ص315.
([30]) المصدر نفسه: ص518.
([31]) المصدر نفسه: ص681.
([32]) مبادئ علم الأسلوب العربي: شكري محمد عياد، أنترناشيونال، القاهرة، ط1، 1988م، ص135.
([33]) الاغتراب في الشعر العراقي المعاصر: محمد راضي جعفر، ص43.
([34]) ديوان البردوني: ص298 .
([35]) ديوان البردوني: 191.
([36]) مظاهر من الانزياح الأسلوبي في مجموعة عبد الله البردوني (وجوه دخانية في مرايا الليل): بسام قطوس, مجلة الحكمة, ع121, 1989م, ص28.
([37]) ديوان البردوني: ص212.
([38]) ديوان البردوني: ص117.
([39]) الامصدر نفسه: ص1041.
([40]) ينظر: كتاب الصناعتين: أبو هلال العسكري, حققه وضبط نصه: مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1984م، ص371.
([41]) ينظر: شعر البردوني (قراءة أسلوبية): سعيد الجريري, ص79.
([42]) ديوان البردوني: ص469.
([43]) ينظر: التناص في شعر البردوني: محمد مسعد العودي, أطروحة دكتوراه، جامعة صنعاء، 2007م، ص45؛ التناص في الشعر الرومانسي في اليمن (دراسة سيميولوجية): علي أحمد صالح الأحمدي, رسالة ماجستير، جامعة عدن، 2009م، ص123.
([44]) للتوسع في هذا الموضوع ينظر: أثر التراث في شعر البردوني: فاطمة عبد الله العمري.
([45]) للتوسع في هذا الموضوع ينظر: التناص في شعر البردوني: محمد مسعد العودي.
([46]) للتوسع في هذا الموضوع ينظر: البعد السردي في شعر البردوني: محمد ردمان علي.
([47]) للتوسع في هذا الموضوع ينظر: السخرية في شعر البردوني: مساعد بن سعد بن ضحيان الذبيابي.
([48]) الاغتراب في الشعر العراقي المعاصر: محمد راضي جعفر، ص56.
([49]) لقد سئل البردوني ذات يوم: أيهما تختار البصر أم الشعر؟ فأجاب قائلا: "أنا لا أفضل شعري على البصر، ولكنني قد ألفت العمى، حتى أصبحت أخاف الإبصار، ولا أظن أني أعاني العمى؛ لأني أحس التعويض بـ(الشعر) - ينظر: الصورة الشعرية عند البردوني: وليد مشوح، ص129.
([50]) ينظر: الغربة في الشعر اليمني الحديث والمعاصر (دراسة أسلوبية): سالم عبد الرب السلفي، ص133.
([51]) ديوان البردوني: ص100.
([52]) وطن يؤلفه الكلام (دراسات في فكر البردوني وشعره): هشام علي، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، ط1، 2012م، ص90.
([53]) ديوان البردوني: ص183.
([54]) ديوان البردوني: ص166.
([55]) ديوان البردوني: ص291.
([56]) الغربة في الشعر اليمني الحديث والمعاصر (دراسة أسلوبية): سالم السلفي، ص122.
([57]) ينظر: الغربة في الشعر اليمني الحديث والمعاصر، السلفي: ص48.
([58]) ينظر: مقدمة ديوان البردوني: عبد العزيز المقالح، ص34.
([59]) ديوان البردوني: ص241.
([60]) ديوان البردوني: ص242.