تحليلات
"تحالف غير متوقع أم مناورة مرحلية"..
التحول الاستراتيجي لإيران.. من تصدير الثورة إلى التحالف مع الإخوان المسلمين
أسرار الثقافات الناشئة بين الإخوان وتمويل الإرهاب وخلافة خامنئي - أرشيف
مقدمة
منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، تبنّت إيران سياسة تصدير الثورة الخمينية كمبدأ أساسي في سياستها الخارجية. كرّست ذلك دستوريًا بالتشديد على دعم الحركات الإسلامية وتحرير المستضعفين في أنحاء العالم .
خلال الثمانينيات سعت طهران إلى إشعال ثورات مماثلة في دول الجوار عبر دعم الجماعات الموالية لها، مستهدفة نشر نموذج ولاية الفقيه خارج حدودها. لكن بمرور العقود تضاءلت جدوى مشروع “تصدير الثورة” التقليدي؛ فالتوترات المذهبية حدّت من انتشاره في البيئات السنية، وواجهت إيران عزلة إقليمية نتيجة مخاوف دول الجوار من تدخلاتها. لهذا بدأت إيران تحوّلاً استراتيجيًا نحو نهج أكثر براغماتية يقوم على بناء تحالفات عابرة للمذهب – أبرزها مع جماعة الإخوان المسلمين السنية – لتحقيق نفوذها الإقليمي. يرى محللون أن العلاقة مع الإخوان مثّلت استثمارًا منخفض الكلفة بالنسبة لطهران ويمكن أن يوسّع دائرة نفوذها.
وقد برز هذا التحول جليًا بعد عام 2011، إذ اعتبرت طهران صعود الإسلاميين السنة فرصة استراتيجية؛ فخلال الربيع العربي وصف الجنرال قاسم سليماني ثورات المنطقة بأنها امتداد لـ“الثورة الإسلامية” الإيرانية، داعيًا إلى تمكين الإخوان المسلمين في مصر كطريق لـتغلغل إيران في العالم السني.
حتى أنه أشار في اجتماع لقادة الحرس الثوري إلى المكانة الخاصة لمؤسسي الإخوان لدى النظام الإيراني، مؤكدًا أن أحد شوارع طهران الرئيسية يحمل اسم حسن البنا وأن سيد قطب يُعدُّ من أكثر الشخصيات احترامًا بين علماء الدين في إيران. هذا التطور يعكس انتقال إيران من تصدير الثورة الخالص إلى تصدير النفوذ عبر تحالفات مرنة تضم حركات سنية ذات توجه إسلامي، بهدف اختراق المجتمعات السنية من داخلها بدلًا من مواجهتها. وقد تجسّد ذلك أيضًا في انفتاح غير مسبوق على حكومة الإخوان في مصر إبان حكم الرئيس محمد مرسي عام 2012-2013، حين زار محمود أحمدي نجاد القاهرة عارضًا تعزيز التعاون الاقتصادي والسياحي وتزويد مصر بالنفط.
ورغم عقبات أيديولوجية وعملية عديدة حالت دون تعمّق هذا التقارب، فإن التوجه الإيراني الجديد بات واضحًا: توظيف الروابط الإسلاموية السنية – كالإخوان وحلفائهم – كورقة نفوذ إقليمية رديفة لمحور المقاومة التقليدي ذي الصبغة الشيعية.
ملامح المشروع الإيراني الجديد ودعم الحركات السنية
ترتكز ملامح الاستراتيجية الإيرانية الجديدة على توسيع شبكة نفوذها لتشمل حركات إسلامية سنية، مستغلة الأرضية الفكرية المشتركة في معاداة الغرب وإسرائيل وتحدي الأنظمة القائمة. فعلى الرغم من التباين المذهبي، ترى طهران إمكانية بناء شراكات نفعية مع جماعات كالإخوان المسلمين لتحقيق أهدافها. وتصف دراسات هذا التحالف بأنه “غريب ولكن عملي” بين ideologies متنافسة؛ فبالنسبة لإيران هو تحالف منخفض التكلفة يوسّع نفوذها، وبالنسبة للإخوان يوفر ظهيرًا إقليميًا قويًا يخدم طموحاتهم السياسية.
وقد تجلى ذلك الدعم الإيراني للحركات السنية في عدة ساحات: ففي فلسطين، تربط إيران علاقات وثيقة بحركة حماس (المنبثقة عن الإخوان) وتمدها بالمال والسلاح ضمن محور “المقاومة” ضد إسرائيل. وفي مصر ما بعد الثورة، حاولت إيران التقارب مع نظام الإخوان عبر عروض اقتصادية سخية – مثل زيادة السياحة الإيرانية وتوريد النفط – أملت أن تساعد الإخوان في ترسيخ حكمهم. كما كشفت وثائق إيرانية أن قاسم سليماني وضع منذ 2011 خطة للتغلغل في مصر بالتحالف مع الإخوان، معتبرًا وصولهم للحكم فرصة تاريخية لمد النفوذ الإيراني إلى أكبر دولة عربية..
وقد أشار سليماني إلى الاحترام الذي تكنّه الثورة الإيرانية لشخصيات الإخوان مثل حسن البنا وسيد قطب، حتى أن طهران أطلقت اسميهما على شارع ومكتبة، لتأكيد التقارب الفكري.
كذلك في اليمن، ورغم دعم إيران للحوثيين (الحركة الشيعية)، تواصلت أذرعها مع بعض مكونات حزب الإصلاح ذي الخلفية الإخوانية عندما تلاقت المصالح ضد التحالف الذي تقوده السعودية – وهو مثال آخر على استعداد إيران للتعاون عبر الاصطفافات المذهبية متى كان ذلك يخدم أهدافها. وبشكل عام، تعمل طهران على اختراق المعادلة السنية مستغلة شعارات الوحدة الإسلامية ومناهضة الهيمنة الغربية لكسب تعاطف قواعد إسلامية سنية. هذا التوجه البراغماتي يهدف إلى تشكيل طوق نفوذ إقليمي مزدوج: جناح شيعي تقليدي (كحزب الله وفصائل العراق والحوثيين)، وجناح “سني إسلامي” رديف من حركات كالإخوان وحماس وأمثالها. ورغم أن هذه التحالفات السنية-الشيعية هشة بطبيعتها نظراً للخلاف العقائدي العميق، إلا أن إيران تعتبرها أداة تكتيكية فعّالة لتطويق خصومها الإقليميين وإبراز نفسها كزعيمة العالم الإسلامي بأسره وليس الشيعي فقط.
الجدير بالذكر أن براغماتية الإخوان أنفسهم أسهمت في هذا التقارب، حيث أبقى قادة الإخوان خطوط الاتصال مفتوحة مع طهران حتى خلال تفاوضهم مع قوى إقليمية أخرى. وهكذا، فإن المشروع الإيراني الجديد يتمحور حول دعم وتوظيف الحركات الإسلامية السنية – رغم الاختلاف المذهبي – كمحصلة لاستنتاج طهران أن النفوذ الإقليمي يتحقق بالتحالفات المرنة أكثر منه بتصدير الثورة العقائدية المباشرة.
التمويل السري والعمليات المشبوهة: تمويل داعش وتهريب المخدرات
في سياق توسع نفوذها الإقليمي، اتُّهم فيلق القدس التابع للحرس الثوري بانخراطه في عمليات تمويل سرية وأنشطة مشبوهة تثير جدلًا واسعًا. من أخطر هذه الاتهامات ما كشفه الشيخ جابر رجبي نفسه، إذ يزعم أن الحرس الثوري موّل تنظيم داعش سراً على الرغم من العداء المعلن بين الطرفين. وفق رواية رجبي، سعت طهران إلى استغلال ظهور داعش لخلط الأوراق إقليميًا وتبرير تدخلها العسكري في العراق وسوريا، فلم تتورع بعض قيادات فيلق القدس عن تغذية هذا التنظيم سرًا بالأموال لضمان استمرار الفوضى التي تعزز حاجة المنطقة إلى الدور الإيراني. وبينما لا توجد وثائق معلنة تؤكد هذا الادعاء الخطير، هناك سوابق تشير إلى استفادة غير مباشرة مشتركة بين إيران وداعش في بعض الظروف. على سبيل المثال، خلال الحرب في سوريا أبرم نظام الأسد (حليف إيران الوثيق) صفقات نفطية مع تنظيم داعش عبر شركات وسيطة مثل شركة القاطرجي سنة 2016.
عمليًا، كان داعش يبيع النفط للنظام السوري للحصول على تمويل، ما يعني أن أموالًا حكومية (بحماية إيرانية) تدفقت إلى خزائن التنظيم. مثل هذه الترتيبات تؤكد وجود تشابكات مالية غير مباشرة بين أطراف يفترض أنها متحاربة، وتلمّح إلى دور إيراني ضمني في تمويل داعش عبر حلفائها في دمشق – وهو ما يتقاطع مع مزاعم رجبي حول اللعبة المزدوجة للحرس الثوري.
في موازاة ذلك، برز دور خطير للحرس الثوري في تجارة المخدرات وعمليات التهريب كإحدى أدوات التمويل السرّي لأنشطته. تشير تقارير أمنية إلى أن الميليشيات المرتبطة بإيران نشطت لسنوات في تسهيل تهريب المخدرات بالمنطقة لتحقيق أرباح طائلة.
فقد تحوّلت المناطق الحدودية لإيران إلى ممرّات رئيسية لتدفق الهيروين والأفيون والكريستال ميث وحتى حبوب الكبتاغون نحو الأسواق المجاورة. وأفادت تحقيقات حديثة بأن الحرس الثوري يوجّه ويدعم شبكات التهريب عبر الميليشيات الحليفة، وتستخدم العائدات الضخمة في شراء أسلحة وتمويل أنشطة هذه الميليشيات. على سبيل المثال، شهد شهر مايو 2023 ضبط شحنات مخدرات ضخمة قادمة من ميناء تشابهار الإيراني باتجاه الخليج، قُدرت قيمتها بأكثر من $100 مليون خلال أيام – وهو مؤشر على حجم التجارة غير المشروعة المرتبطة بإيران. كذلك كشفت السلطات العراقية شبكات لتهريب الكبتاغون والكريستال ميث عبر الحدود مع إيران يديرها عملاء على صلة بجهات إيرانية. هذه المعطيات دفعت مراقبين لاتهام الحرس الثوري باتباع سياسة خطيرة مزدوجة الهدف: إغراق دول المنطقة بالمخدرات لإضعاف مجتمعاتها، وتمويل مشروعه الإقليمي بأموال الجريمة المنظمة . ويزعم رجبي أنه أثناء عمله في فيلق القدس، اطلع على أدلة تثبت تورط قياداته العليا في رعاية شبكات تهريب المخدرات بين إيران والعراق، بل وتسخير جزء من أرباحها لدعم جماعات متطرفة مثل داعش. وعلى الرغم من أن إيران دأبت رسميًا على محاربة تهريب المخدرات (باعتبارها تعاني نفسها من تفشيها محليًا)، فإن يد الحرس الثوري الخفية – وفق مصادر عدة – حاضرة بقوة في هذا النشاط الإجرامي المربح. تجمع هذه العمليات المشبوهة بين تمويل الإرهاب والجريمة المنظمة، لتشكل وجهًا مظلمًا للسياسة الإيرانية الموازية بعيدًا عن الشعارات الثورية المعلنة.
قصة التحول والانشقاق: لماذا انشقّ جابر رجبي؟
يقدّم الشيخ جابر رجبي سردًا دراماتيكيًا لتحوّله من داخل منظومة الحكم الإيرانية إلى معارض ومنشق يكشف خباياها. رجبي الذي شغل مواقع حساسة – فقد كان مستشارًا في مكتب الرئيس الأسبق أحمدي نجاد، كما اضطلع بدور منسّق بين فيلق القدس والميليشيات العراقية (منها عصائب أهل الحق وحركة النجباء) – عاش تدريجيًا حالة صدام مع نهج النظام من الداخل. يقول رجبي إنه مع مرور الوقت تكشّفت له حقائق صادمة حول ممارسات “الدولة العميقة” في إيران، أبرزها تورط الحرس الثوري في تجارة المخدرات وتمويل جماعات إرهابية كالقاعدة وداعش، إضافة إلى استشراء الفساد المالي تحت غطاء الشعارات الثورية. وجد رجبي نفسه أمام تناقض صارخ بين شعارات الثورة الإسلامية التي آمن بها في شبابه وبين الواقع العملي لفيلق القدس الذي يمارس أنشطة غير مشروعة تتنافى مع تلك الشعارات. وصل الأمر إلى احتدام الخلاف بينه وبين رؤسائه في الحرس الثوري، حيث حاول دفعهم للتخلي عن هذه الممارسات حفاظًا على نقاء “مشروع المقاومة”، لكن دعواته قوبلت بالرفض بل وبالاستهداف. كما اصطدم رجبي بأجنحة متشددة في النظام بسبب رؤيته السياسية المختلفة؛ فبحكم خلفيته الدينية (كان معمّمًا قبل أن يخلع العمامة) انتقد بعض توجهات الحوزة العلمية في قم ورفض الاستغلال السياسي للدين . ونتيجة لمواقفه، تعرض لضغوط واعتقالات متكررة داخل إيران، حتى بات بقاؤه خطرًا على حياته. ويروي رجبي أنه عندما جمع أدلة تدين قيادات نافذة بعمليات فساد وتهريب، قرروا التخلص منه. فتم استدراجه وتسميمه بمادة الزرنيخ في 2022 في محاولة لاغتياله .
نجا رجبي بأعجوبة من محاولة الاغتيال تلك، لكنها كانت القشة التي قصمت ظهره ودفعته لاتخاذ قرار الانشقاق والهروب من إيران. خرج سرًا في أواخر عام 2022 حاملًا معه ما استطاع من وثائق وأسرار، بعد مسيرة طويلة بدأت بولاء مطلق للنظام وانتهت بصدام مرير مع رموزه. ويُرجع أسباب انشقاقه إلى “خيانة” الحرس الثوري لمبادئ الثورة – على حد وصفه – عبر الانخراط في تحالفات وتمويلات مريبة تضر بالمسلمين (السنة والشيعة على السواء) وتخدم أجندة السلطة وبقائها. باختصار، مثّلت صحوة رجبي الضميرية أمام الواقع الفاسد دافعًا له لكسر قيود الصمت، مخاطِرًا بحياته لكشف ما أسماه “أسرار الدولة العميقة في إيران”.
الخلافات الداخلية في إيران: مواجهة مع سليماني ومحاولة اغتيال
كشف جابر رجبي أن خلافاته لم تقتصر على الجوانب الفكرية فحسب، بل أخذت طابع صراع داخلي محتدم على مستوى قيادات الحرس الثوري. فبحكم موقعه في فيلق القدس، احتكّ رجبي مباشرة بالجنرال قاسم سليماني (القائد السابق للفيلق) وقيادات أخرى، ويصف رجبي تلك الفترة بأنها كانت مواجهة خطرة خلف الكواليس. في إحدى المحطات، واجه رجبي سليماني بوقائع حول تهريب المخدرات واستغلال عوائدها لتمويل عمليات سرية، معتقدًا أنه يكاشفه، حفاظًا على مصلحة النظام.
لكن ردة فعل سليماني – حسب رواية رجبي – كانت غاضبة، إذ اعتبر إفشاء هذه الأسرار تجاوزًا للخطوط الحمراء. منذ تلك اللحظة، بات رجبي في مرمى استهداف جناح سليماني داخل الحرس. ورغم أن اغتيال سليماني نفسه في مطلع 2020 على يد الأمريكيين أخرج خصمه الأكبر من المعادلة، إلا أن ذلك لم يوقف محاولة إسكات رجبي. فالأسرار التي بحوزته كانت كفيلة بإدانة كثيرين، لذا جاءته رسائل تهديد مبطنة وصريحة بضرورة صمته. بلغ الترهيب ذروته عبر محاولة اغتياله بتسميمه بالزرنيخ عام 2022 – وهي طريقة اغتيال خفية تشير أصابع الاتهام فيها نحو أجهزة أمنية إيرانية، خاصة وأن رجبي ذكر أنه كان تحت مراقبة مكثفة قبيل الحادث. ويؤكد رجبي أن استهدافه جاء أيضًا بسبب حصوله على معلومات استخباراتية حساسة خلال عمله، بينها أدلة على اختراقات إسرائيلية داخل إيران. فبحسب ما أسرّ به لاحقًا، تمكن من توثيق صلات بين بعض عناصر الحرس الثوري وجهات استخباراتية معادية، وربما أبلغ بها جهات عليا. هذه التحركات جعلته في نظر المتشددين “خائنًا” أو مواليًا للعدو، ما عجّل بقرار التخلص منه. ولم يكن رجبي الضحية الوحيدة للصراعات الداخلية؛ فهو يكشف مثلًا عن صراع بين الحرس الثوري وأجهزة أمنية أخرى على تقاسم عائدات النفط والغاز التي ينهبها الحوثيون في البحر الأحمر لصالح طهران – وهو صراع أدى إلى إقصاء وتصفيات في صفوف كبار القادة . ويزعم أيضًا أن القائد الحالي لفيلق القدس إسماعيل قآني نفسه تعرّض للاعتقال والتحقيق ووُضع قيد الإقامة الجبرية لفترة وجيزة، بعد تسريب معلومات عن اختراق إسرائيلي أدت إلى اغتيال نائبه في لبنان . وفي سياق تلك الحادثة الخطيرة، يُقال إن غارة إسرائيلية استهدفت اجتماعًا في ضاحية بيروت الجنوبية قُتل فيها حسن نصر الله زعيم حزب الله إلى جانب مسؤولين إيرانيين – رواية صادمة لو صحتّ، تفيد بأن الاختراق الأمني بلغ أعلى المستويات وأدى إلى تصفية أبرز حليف لإيران. هذه الواقعة دفعت المتشددين للتحقيق مع قآني واتهامه بالتقصير والتعاون (ربما غير العمد) مع الموساد . ورغم ندرة تأكيدات مستقلة لهكذا أحداث، فإن رجبي يؤكد وجود حرب خفية داخل أجنحة النظام، بين من يسمّيهم “الحرس القديم” المتمثل بخط خامنئي – سليماني، وبين تيار آخر داخل الحرس والأمن ربما أقل انضباطًا وأكثر استعدادًا للتسريب أو حتى التمرد من الداخل. ويستشهد بتنامي السخط بين أبناء الجيل الثاني والثالث من الحرس الثوري الذين لم يعودوا يثقون تمامًا بقيادتهم . حتى أن بعضهم – كما يقول – شاركوا في عمليات تخريب من الداخل طالت البرنامج النووي الإيراني، بدافع قناعة وطنية بضرورة كبح طموحات النظام الخطرة . هكذا رسم رجبي صورة لنظام يعتريه انقسام داخلي عميق وصراعات على النفوذ والثروة والولاءات، بلغ حد الاغتيالات والمحاولات الانقلابية الصامتة. إن مواجهة رجبي لسليماني ومن بعده لقادة آخرين، وما تعرض له من محاولة قتل، هي شواهد على أن الخلافات داخل إيران خرجت من نطاق الاختلاف الفكري إلى طور التصفيات الجسدية، مما ينذر باضطراب داخلي قد يضعف تماسك السياسات الإيرانية على المدى القريب.
الأبعاد العقائدية والإيديولوجية: خامنئي vs. مجتبى – اختلاف النهج والتأثير
تثير تجربة رجبي وما كشفه تساؤلات حول طبيعة منظومة الحكم العقائدية في إيران اليوم، لاسيما فيما يتعلّق بدور المرشد الأعلى علي خامنئي ونفوذ نجله مجتبى خامنئي. فعلي خامنئي (المرشد منذ 1989) يمثل الجيل الثوري المؤسس – رغم أنه يفتقر لكاريزما الخميني وعلو مرتبته الدينية – لكنه امتلك شرعية المنصب وتمرس في موازنة التيارات داخل النظام طوال عقود. يُعرف عن خامنئي تشدده في الثوابت (كمعاداة أمريكا وإسرائيل وتصدير الثورة) مع براعة في المناورة السياسية للحفاظ على النظام؛ فهو من جهة يروّج أيديولوجية “المقاومة” ومن جهة أخرى يضبط إيقاع الانفتاح والانكفاء وفقًا لمصلحة بقاء النظام. أما نجله مجتبى خامنئي فقد برز كـظل المرشد وحارس بوابته، لكنه شخصية غامضة تفتقر لأي منصب رسمي علني. مع ذلك، نجح مجتبى عبر موقعه العائلي وهيمنته على مكتب المرشد في اكتساب نفوذ كبير داخل الحرس الثوري وأجهزة الأمن، حتى بات يُعدّ خليفة محتملاً لوالده .
الاختلاف الجوهري بين نهج الأب والابن يعود إلى عامل الشرعية والمقاربات. فعلي خامنئي – رغم محدودية مؤهلاته الفقهية عند اختياره – استطاع مع الوقت الحصول على درجة مرجع تقليد وتعزيز مكانته الدينية نسبياً، ما أضفى على قيادته طابعًا مؤسساتيًا ضمن إطار ولاية الفقيه . في المقابل، يفتقر مجتبى (المولود 1969) إلى المكانة الدينية؛ فهو مجرد حجة إسلامية لم يبلغ مرتبة آية الله، ولم يُظهر للعلن أي إنتاج فقهي معروف. هذا يعني أن مصدر نفوذ مجتبى عملي-أمني أكثر منه ديني. بالفعل، يوصف بأنه مهندس الكثير من سياسات القمع في الداخل وترتيبات الدعم العسكري للحلفاء في الخارج، مستفيدًا من علاقاته بقيادات الحرس الثوري الذين يدينون له بالولاء. يشير مراقبون إلى أن مجتبى لعب دورًا في قمع انتفاضة 2009 الخضراء بالتنسيق مع الحرس، وعمل كحلقة وصل بين والده والجهاز الأمني لضمان استمرارية نهج التشدد. وبحسب رجبي وآخرين، فإن نهج مجتبى يميل إلى تشديد القبضة الحديدية داخليًا وتصعيد الخطاب الثوري خارجيًا لضمان استمرار إرث والده – مع فارق أنه أقل حذرًا تجاه المغامرات، إذ لا يحمل ثقل مسؤولية المنصب علنًا. على صعيد السياسة الخارجية، يتوقع خبراء أن مجتبى سيكون أكثر اندفاعًا وارتباطًا بالحرس الثوري في صنع القرار، نظرًا لارتكازه على دعمهم لتعويض نقص شرعيته الدينية.
فخامنئي الأب عُرف أحيانًا بالتردد التكتيكي – مثل قبوله الاتفاق النووي المؤقت 2015 تحت ضغط العقوبات ثم التراجع عنه تدريجيًا – أما الابن فيُرجح أن يكون أقل مرونة وأشد تصلبًا في رفض أي تسويات يعتبرها تنازلًا عن المبادئ الثورية. كذلك يُلاحظ اختلاف في الرؤية العقائدية: خامنئي يؤكد باستمرار على مركزية ولاية الفقيه وقيادة المرجعية الشيعية، بينما مجتبى (الذي لم ينل تزكية مراجع النجف وقم الكبار) قد يضطر لتركيز خطابه على شرعية “الثورة” وقوة الحرس أكثر من المرجعية الدينية لسد الفجوة. وهذا قد يعني تصعيد النهج العسكري الأمني في السياسة الخارجية – كتوسيع دعم الميليشيات وتسريع البرامج الصاروخية والنووية – لتعزيز موقعه أمام الداخل والخارج. بطبيعة الحال، هذه الاختلافات تظل في إطار التكهنات، إذ إن مجتبى يعمل من خلف ستار ولم يُفصح علنًا عن توجهاته. لكن إشارات ظهرت مؤخرًا توحي بتباينات: منها ما نقله رجبي عن تفكير دوائر في الحرس الثوري بتغيير في هرم القيادة، وصل حد طرح اسم شخصية غير إيرانية (حسن نصر الله) لقيادة الثورة الإسلامية بشكل رمزي .
ورغم أن هذا السيناريو لم يتحقق وربما ووجه برفض من مجتبى والحرس بسبب “عنصرية فارسية” ضد زعامة عربية، إلا أنه يكشف اختلافًا في التصورات: خامنئي ربما أبدى مرونة في توزيع الأدوار، بينما التيار المحسوب على مجتبى أصر على حصر الزعامة داخل الأسرة والمؤسسة الحاكمة الإيرانية. وفي المحصلة، فإن ثنائية خامنئي ومجتبى تعكس وجهي النظام: الأب كمرجع أعلى يزاوج بين الأيديولوجيا وبراغماتية البقاء، والابن كرجل الظل الذي قد يمثل استمرارية أكثر تشددًا وأقل اعتدادًا بالاعتبارات الدبلوماسية.
ومع تزايد الحديث عن خلافة المرشد وسط تقدم سن خامنئي (84 عامًا)، يترقب المراقبون كيف سيؤثر صعود مجتبى – إن حصل – على سياسة إيران الخارجية؛ فالكثيرون يرون في توليه دليل ضعف في هيكل الجمهورية الإسلامية كونه يفتقر لمكانة رجال الدين الكبار، مما قد يدفعه لتعويض ذلك عبر تبني سياسات خارجية أشد تطرفًا لإثبات زعامته.
التهديدات والمستقبل: تداعيات الانقسامات والتحالفات على الشرق الأوسط
تُشير المعطيات التي قدّمها جابر رجبي وغيرها من التحليلات إلى أن إيران تقف عند مفترق طرق خطير، حيث التصدعات الداخلية والتحالفات الجديدة ترسم ملامح مرحلة قادمة قد تغيّر وجه الشرق الأوسط. فمن جهة، تكشف الانقسامات داخل الحرس الثوري وأروقة النظام – بين أجيال مختلفة وتيارات متنافسة – عن وهن غير مسبوق في تماسك النظام الإيراني.
هذا الوهن قد ينعكس على فعالية إيران في إدارة أذرعها الإقليمية؛ فمثلاً إذا كان بعض قادة الحرس الثوري يشككون في جدوى التمدد الخارجي أو حتى يقومون بتسريب معلومات حساسة كما ذكر رجبي ، فإن ذلك يضعف قدرة طهران على التحكم المركزي بمحور المقاومة، وقد يؤدي إلى ارتباك في تحركات الميليشيات الحليفة. وقد رأينا مؤشرًا على ذلك – وفق رواية رجبي – فيما تسرّب من معلومات أفضت إلى استهداف قيادات رفيعة (مثل اغتيال نائب قآني وربما حسن نصر الله نفسه)، مما أربك حسابات النظام وأحدث صدمة في الدائرة المقرّبة.
إن استمرار هذا الاختراق الداخلي والصراع المكتوم ربما يشلّ بعض قدرات إيران الهجومية الخارجية، ويجعلها أكثر حذرًا وانكفاءً لحماية بيتها الداخلي المهدد.
في المقابل، فإن استراتيجية التحالفات الجديدة مع الإخوان والسنة تحمل هي الأخرى تداعيات بعيدة المدى على خارطة التحالفات في المنطقة. فإذا نجحت إيران في ترسيخ تقاربها مع حركات كالإخوان المسلمين، فقد ينشأ محور إقليمي جديد غير معلن يضم إيران وتركيا وقطر (الداعمة تاريخيًا للإخوان) وجماعات الإسلام السياسي في عدة دول.
مثل هذا المحور سيعيد تشكيل التوازن مقابل محور الدول العربية المحافظة (السعودية، الإمارات، مصر) التي تناصب الإخوان وإيران العداء. وقد نشهد تصاعدًا في التنافس على استقطاب الحركات السنية بين طهران والرياض؛ فالسعودية تعتبر الإخوان تهديدًا داخليًا وخارجيًا، وأي تعاون إيراني إخواني سيُنظر إليه في الرياض كتحالف موجه ضدها.
لذا قد يدفع ذلك دول الخليج إلى مزيد من التقارب مع إسرائيل وتحالفات أمنية جديدة لمواجهة ما يعتبرونه تحالف “عمائم الشيعة والسنة” الراديكالي في طهران وأنقرة. بعبارة أخرى، الاستقطاب الإقليمي مرشح للاحتدام إذا واصلت إيران مد جسور مع خصوم خصومها. ومن زاوية أخرى، يُشكك محللون في قدرة تحالف كهذا على الصمود نظرًا للتباينات الفكرية والتاريخ من انعدام الثقة.
إذ أثبتت أحداث مثل الحرب السورية أن الخلاف العقائدي (وقوف إيران مع نظام الأسد العلوي ضد معارضة سنية إسلامية) يمكن أن يطغى على شعارات الوحدة، حيث وقفت جماعة الإخوان ضد التدخل الإيراني هناك. وعليه قد تبقى هذه التحالفات ظرفية وهشّة، يتم تفعيلها وانتقادها حسب تبدّل المصالح والظروف.
على مستوى مستقبل الداخل الإيراني، تنذر الانقسامات التي تحدث عنها رجبي بأن مرحلة ما بعد خامنئي ستكون صعبة. فاحتمال توريث الحكم لمجتبى خامنئي – إذا صحّت التقارير – قد يواجه برفض داخلي حتى داخل معسكر المحافظين أنفسهم، مما قد يفجّر صراعات بين الحرس الثوري ورجال الدين التقليديين أو بين أجنحة الحرس المختلفة حول من الأجدر بالقيادة. هذا بدوره سينعكس على السياسة الخارجية: فإذا انشغلت طهران بصراع خلافة محتدم، ستتراجع قدرتها على المبادرة إقليميًا وربما يمنح ذلك فرصة لخصومها لتعزيز مواقعهم. بالمقابل، إذا نجح مجتبى أو أي خليفة متشدد في إحكام السيطرة بسرعة بدعم مطلق من الحرس، فقد نشهد تصعيدًا إيرانيًا خارجيًا كمحاولة لتصدير أزمتها وتوحيد الصف الداخلي ضد عدو خارجي. وقد يتمثل ذلك في مغامرات عسكرية أو تسريع البرنامج النووي نحو عتبة السلاح لإذكاء الشعور القومي وصرف الأنظار عن الخلافات الداخلية.
أما مصير الشرق الأوسط فيظل معلقًا بميزان هذه التطورات الإيرانية. فدخول عنصر الإخوان المسلمين في الحسابات الإيرانية يطرح سيناريوهات جديدة: مثلاً، قد تعمد إيران لاستمالة حركات سنية معارضة في دول خصمة (كالبحرين أو الأردن أو حتى داخل السعودية) بحجة دعم المستضعفين، ما يفاقم الاضطراب الإقليمي. كما قد نرى تقاربًا أكبر بين إيران وحركة طالبان في أفغانستان كجزء من استراتيجية بناء عمق سني، على الرغم من العداء التقليدي بينهما – وكل ذلك سيؤثر على أمن الجوار (وسط آسيا وباكستان). وعلى الجانب الآخر، قد يؤدي تكشف حقائق تمويل الحرس الثوري لجماعات إرهابية سنية (كداعش) إلى تفكيك سردية إيران كمدافع عن العالم الإسلامي، وبالتالي تآكل نفوذها الناعم حتى بين بعض قواعد الإسلاميين السنة الذين قد يصابون بصدمة من ازدواجية طهران. إن نشر رجبي وأمثاله لهذه المعلومات – إن لاقى صدى واسعًا – يمكن أن يضر بصورة إيران حتى لدى أنصارها، ويعمّق عزلة النظام دوليًا كجهة راعية للإرهاب والجريمة في آنٍ معًا.
في الختام، يتضح أننا أمام مشهد إقليمي معقد تصوغه أزمة الهوية والاستراتيجية الإيرانية: فإيران ما زالت تطمح لزعامة إقليمية مطلقة، لكنها ممزقة بين ولاءاتها العقائدية الشيعية ورغبتها البراغماتية في كسب الحلفاء السنّة؛ وبين خطاب الثورة “الطاهر” وممارسات الدولة العميقة “الملوَّثة” بالفساد؛ وبين مرشد عجوز يجاهد لضمان استمرار نهجه وابنٍ طموح يفتقر للبريق الروحي ويحتمي بسلاح الحرس. هذه التناقضات إذا انفجرت إلى السطح، فقد تعيد تشكيل خارطة التحالفات في الشرق الأوسط رأسًا على عقب. وقد تشهد المنطقة إما انكفاءً إيرانياً نسبيًا إن اشتدت صراعات طهران الداخلية، أو اندفاعًا أكثر خطورة إذا قرر القادة الجدد في طهران الهروب إلى الأمام. كما أن نجاح أو فشل تحالفات إيران السنية سيؤثر على توازن القوى: فإن تمكنت إيران من استقطاب طيف من الحركات الإسلامية السنية تحت جناحها، ستزداد قدرتها على المناورة ضد خصومها التقليديين. أما إذا فشلت تلك المحاولات بسبب الرفض العقائدي أو ضغوط الخصوم، فسيُضاف ذلك إلى عوامل إضعاف نفوذها. وبكل الأحوال، تؤكد تسريبات رجبي أن بيت الحكم الإيراني لم يعد ذلك الصندوق المغلق؛ فهناك تصدعات وتناقضات قد تجعل السياسة الإيرانية أقل قابلية للتنبؤ. وهذا بحد ذاته عامل عدم استقرار إقليمي، لكنه قد يتيح – من زاوية مختلفة – فرصًا لإعادة احتواء إيران عبر مخاطبة الانقسام الداخلي وتشجيع العناصر المعتدلة أو المنشقة. لقد أزاح رجبي الستار عن جانب خفي من المشهد الإيراني، وستحدد طريقة تفاعل الأطراف الإقليمية والدولية مع هذه المعطيات مدى تأثيرها في رسم مستقبل الشرق الأوسط في السنوات القادمة.
المصادر:
- جابر رجبي – مقابلة مع قناة العربية (برنامج الذاكرة السياسية)، سبتمبر 2024.
- وكالة تسنيم عبر السياسة الكويتية – تصريحات قاسم سليماني حول التحالف مع الإخوان ( سليماني خطَّط لتوغل إيران في مصر بالتحالف مع الإخوان - السياسة ) ( سليماني خطَّط لتوغل إيران في مصر بالتحالف مع الإخوان - السياسة ).
- مركز كارنيغي للشرق الأوسط – “توقعات غير متطابقة: إيران وجماعة الإخوان غداة الانتفاضات” (توقعات غير مُتطابقة: إيران وجماعة الإخوان المسلمين غداة الانتفاضات العربية | Carnegie Endowment for International Peace) (توقعات غير مُتطابقة: إيران وجماعة الإخوان المسلمين غداة الانتفاضات العربية | Carnegie Endowment for International Peace).
- المركز العربي لدراسات التطرف – “إيران والإخوان المسلمون: تحالف غريب بين إيديولوجيتين متنافستين” (إيران والإخوان المسلمون: تحالف غريب بين إيديولوجيتين متنافستين - المركز العربي لدراسات التطرف).
- موقع المشرق (ديارنا) – “استغلال الحرس الثوري لتجارة المخدرات” (IRGC and its proxies exploit drug trade at expense of regional neighbours) (IRGC and its proxies exploit drug trade at expense of regional neighbours).
- معهد واشنطن – مقالات وتقارير عن جابر رجبي وانشقاقه ودوره في العراق (Jaber Rajabi | The Washington Institute) (Jaber Rajabi | The Washington Institute).
- مجلة روز اليوسف – تقرير حول الدولة العميقة في إيران وتصريحات رجبي عن خامنئي ونصر الله (مجلة روزاليوسف | «التناخ» الإرهابى تنظيم وليس حزبًا.. الليكود دواعش اليهود) (مجلة روزاليوسف | «التناخ» الإرهابى تنظيم وليس حزبًا.. الليكود دواعش اليهود).
- MEMRI – تصريحات جابر رجبي بشأن الانقسامات داخل الحرس الثوري والبرنامج النووي (Fmr. Ahmadinejad Advisor: Nuclear Facilities Sabotage - Inside Job | MEMRI) (Fmr. Ahmadinejad Advisor: Nuclear Facilities Sabotage - Inside Job | MEMRI).
- Atlantic Council – تقرير تخيلي عن خلافة خامنئي ودور مجتبى (As the threat of conflict grows, Khamenei’s son is back in the spotlight - Atlantic Council) (As the threat of conflict grows, Khamenei’s son is back in the spotlight - Atlantic Council).
- Middle East Forum – مقال “اختيار مجتبى خامنئي خلفًا يبرز ضعف الجمهورية الإسلامية” (Choosing Mojtaba Khamenei as Successor Highlights the Islamic Republic’s Weakness - Middle East Forum) (Choosing Mojtaba Khamenei as Successor Highlights the Islamic Republic’s Weakness - Middle East Forum).