أنشطة وقضايا
"الصدمة ليست النهاية"..
النساء والصدمات النفسية واضطراب ما بعدها.. كيف نفهم الأعراض ونبدأ رحلة التعافي؟
مواجهة الخوف والذكريات أدوات نفسية لتخطي الصدمات - اليوم الثامن
تتعدد أشكال الصدمات النفسية والعاطفية التي قد يواجهها الإنسان في حياته، فقد تكون فقدان شخص عزيز، أو التعرض لحادث مروع، أو الوقوع ضحية اعتداء، أو حتى تلقي تشخيص بمرض خطير. ورغم تنوع هذه التجارب واختلاف تأثيرها من شخص لآخر، فإن الطب النفسي يؤكد أن التعافي من هذه الصدمات ليس مستحيلاً، بل يمكن تحقيقه من خلال برامج علاجية متخصصة ودعم نفسي مناسب. في هذا الإطار، قدمت الدكتورة حميدة سليمان علي، الخبيرة في مجال الصحة النفسية والناشطة في فعاليات مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات، محاضرة قيمة استهدفت النساء لتسليط الضوء على الصدمات النفسية وكيفية التعامل معها، وذلك ضمن جهود المؤسسة لتعزيز الوعي النفسي في المجتمع.
أرفقت المؤسسة هذه المحاضرة باستطلاع رأي شمل 102 مشاركين، من بينهم 54 امرأة، بهدف استكشاف مفهوم الصدمة النفسية ومدى تأثيرها، خاصة على النساء اللواتي غالبًا ما يواجهن ظروفًا تجعلهن أكثر عرضة لهذه التجارب. وخلال هذا المقال، نستعرض معكم أعراض الصدمات النفسية، وأفضل الطرق للتعامل معها سواء من الشخص نفسه أو من المحيطين به، بالإضافة إلى توضيح اللحظات التي تستدعي طلب استشارة نفسية متخصصة لضمان التعافي ومنع تفاقم الحالة.
تتفاوت أعراض الصدمات النفسية في شدتها ومدتها باختلاف الأفراد والتجارب، لكنها تشترك في بعض المظاهر الشائعة التي يمكن ملاحظتها بوضوح. فالقلق والتوتر والخوف من أبرز العلامات التي تظهر بعد التعرض لحدث صادم، وغالبًا ما يصاحبها اضطراب في النوم يتمثل في الأرق أو صعوبة الاستغراق في النوم العميق. كما يعاني البعض من قلة التركيز التي تعيق قدرتهم على أداء المهام اليومية، إلى جانب استرجاع الذكريات المؤلمة بشكل متكرر، سواء في اليقظة أو من خلال الكوابيس. وقد يصل الأمر إلى فقدان الرغبة في إتمام الأعمال الروتينية أو التفاعل مع الآخرين، مما يعزز شعور العزلة والانفصال العاطفي.
لكن متى يصبح من الضروري اللجوء إلى طبيب نفسي مختص؟ في العادة، قد تستمر هذه الأعراض لأيام أو أسابيع بعد الحدث الصادم وتبدأ في التلاشي تدريجيًا مع الوقت، لكن إذا استمرت لأشهر دون تحسن ملحوظ، فهذا مؤشر واضح على أن الصدمة قد تركت أثرًا عميقًا يتطلب تدخلاً مهنيًا. ومن بين الحالات التي تستدعي طلب المساعدة الفورية: المعاناة من خوف شديد أو قلق مستمر أو اكتئاب يعيق الحياة اليومية، أو وجود هواجس وذكريات مرعبة تمنع الشخص من التأقلم مع بيئته سواء في المنزل أو العمل. كذلك، إذا لاحظ الشخص ميلاً للعزلة الاجتماعية حتى عن الأشخاص غير المرتبطين بالحدث، أو اضطر للاعتماد على الكحول أو المخدرات للتخفيف من آلامه، فهذه إشارات حمراء تستلزم استشارة متخصص دون تأخير.
أما عن التعافي من الصدمات النفسية، فهو عملية تحتاج إلى وقت وجهد، حيث تتراوح مدة الأعراض بين أيام قليلة وبضعة أشهر، وتقل شدتها تدريجيًا مع التعامل مع الحدث والتأقلم مع تداعياته. لكن قد تظل بعض الذكريات أو المشاعر المؤلمة عالقة، خاصة إذا تعرض الشخص لمحفزات مثل مكان الحدث أو شخص مرتبط به. وفي حالات أكثر تعقيدًا، قد يتطور الأمر إلى ما يُعرف باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، حيث يبقى الجهاز العصبي في حالة تأهب دائمة، عاجزًا عن استيعاب الحدث أو التعامل مع المشاعر الناتجة عنه، مما يجعل التدخل العلاجي ضرورة ملحة.
لكن هناك خطوات يمكن للشخص اتباعها لتسريع عملية التعافي وتخفيف وطأة الصدمة. أولاً، يجب تجنب العزلة قدر الإمكان، فالوحدة تفتح الباب لتفاقم الذكريات المؤلمة وتعزز الشعور بالضعف، بينما يوفر التفاعل مع الأصدقاء والأقارب دعمًا نفسيًا يعيد الإحساس بالأمان والاستقرار. فالمحيط الاجتماعي الداعم يلعب دورًا كبيرًا في تقليل وقع الصدمة من خلال توفير شعور بالانتماء والطمأنينة. ثانيًا، لا عيب في طلب الدعم من شخص موثوق، سواء كان صديقًا أو قريبًا أو حتى متخصصًا نفسيًا، لأن التعبير عن المشاعر والمخاوف أمام من يستمع بصدق ودون حكم يساعد في تخفيف العبء النفسي.
ثالثًا، الإقرار بالمشاعر خطوة حاسمة في التعافي. فبدلاً من تجاهل الألم أو محاولة دفنه، ينصح بالتحدث عنه عند الحاجة، لأن الاعتراف بوجود المشاعر السلبية هو البداية الحقيقية للتغلب عليها. ومع ذلك، إذا شعر الشخص برغبة في الصمت لفترة، فهذا أمر طبيعي ومقبول طالما لا يتحول إلى عزلة دائمة. رابعًا، التمسك بالأمل يبقى عنصرًا أساسيًا في هذه الرحلة، فالإيمان بإمكانية التجاوز والعودة إلى حياة أفضل، مع التذكير بالمحن السابقة التي تم تخطيها، يعزز الصمود النفسي ويمنح دافعًا للمضي قدمًا.
وفي الحالات التي تستدعي تدخلاً علاجيًا، تقدم البرامج المتخصصة تقنيات فعالة للتعامل مع اضطراب ما بعد الصدمة. فالعلاج السلوكي المعرفي، على سبيل المثال، يركز على مواجهة الحدث الصادم من خلال مناقشته والتعبير عن المشاعر المرتبطة به، مما يساعد في تقليل الحساسية تجاهه وتهدئة الأعراض بمرور الوقت. أما العلاج النفسي فيشكل الركيزة الأساسية لمساعدة المريض على اجتياز المرحلة، حيث يعمل الطبيب على تحديد محفزات الأعراض وتدريب الشخص على مواجهة مخاوفه تدريجيًا حتى يستعيد السيطرة على حياته. وفي بعض الحالات، قد يوصي الطبيب بالعلاجات الدوائية مثل مضادات الاكتئاب أو الأدوية المضادة للقلق لتوفير الراحة والاسترخاء، خاصة في المراحل الأولى، على أن تظل التقنيات النفسية هي الأكثر استدامة على المدى الطويل.
وأظهر استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة اليوم الثامن نتائج لافتة تعكس واقع الصدمات النفسية في المجتمع. فقد أشار 75% من المشاركين إلى أنهم مروا بتجارب صادمة، مما يبرز الحاجة الملحة للتوعية بهذا الموضوع. كما أكد 65% أن أعراض الصدمة قد تظهر فور الحدث أو بعد فترة طويلة، مما يستدعي متابعة مستمرة للحالة النفسية. وكانت تقلبات المزاج وصعوبة التركيز والأرق من أكثر الأعراض شيوعًا بين المشاركين، مما يعكس تأثير الصدمات على الحياة اليومية. وبشكل خاص، أظهرت النتائج أن النساء أكثر عرضة لهذه التجارب، حيث أقرت غالبيتهن بمواجهة أحداث مؤلمة، مما يعزز أهمية توجيه الدعم النفسي لهذه الفئة.
وفي الختام، تؤكد مؤسسة اليوم الثامن من خلال هذه الفعاليات والدراسات على أهمية الدعم النفسي كجزء أساسي من حياة الأفراد الذين يمرون بتجارب صادمة. فالصدمات النفسية ليست نهاية الطريق، بل محطة يمكن تجاوزها بالوعي والمساندة والتدخل المناسب. وتدعو المؤسسة الجميع إلى عدم التردد في طلب المساعدة المتخصصة عند الحاجة، لأن التعافي ليس مجرد أمل، بل حقيقة يمكن تحقيقها بالخطوات الصحيحة والدعم اللازم.