الأدب والفن

الفجيرة تختتم "صيفنا فن 2025"..

التجربة الفنية في الفجيرة.. برنامج صيفي يعزز الهوية الثقافية ويفتح آفاق الانفتاح على العالم

منصة إبداعية تعكس رؤية إمارة الفجيرة 730 مشاركاً ينهون برنامج "صيفنا فن" بتجربة تعليمية–جمالية متكاملة

الفجيرة

اختتمت أكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة برنامجها الصيفي "صيفنا فن" للعام 2025، لتفتح الباب واسعاً أمام أسئلة الثقافة والفن في مجتمع تتسارع فيه التحولات، وتزداد فيه الحاجة إلى فضاءات تحتضن الطاقات الشابة وتوجهها نحو الإبداع. لم يكن الحفل الختامي مجرد نهاية لأسابيع من التدريب والورش، بل كان بمثابة إعلانٍ رمزي عن حضور الفنون في قلب المشروع الثقافي لإمارة الفجيرة، الذي يقوده سمو الشيخ محمد بن حمد بن محمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة، رئيس مجلس أمناء الأكاديمية، بوصفه رؤية استراتيجية ترى أن بناء الإنسان لا يكتمل من دون فنون تفتح له آفاق الخيال والابتكار.

برنامج "صيفنا فن" الذي شارك فيه 730 طالباً وطالبة من مختلف الفئات العمرية، مثّل مساحة تجريبية ثرية تلاقت فيها أنماط متعددة من الفنون، من البصرية إلى المسرحية، عبر ورشٍ صُمّمت بعناية لتلائم مستويات المشاركين وتطلعاتهم. في تفاصيل هذه الورش، يجد المتابع أن الأكاديمية لم تكتفِ بتقديم تعليم تقني للفن، بل جعلت من التجربة التفاعلية وسيلة لتوليد الثقة بالنفس وصقل القدرات الذهنية، بحيث يصبح العمل الفني وسيلة للتعبير عن الذات، لا مجرد مهارة مكتسبة. لقد كان المشهد الختامي للبرنامج مليئاً باللوحات، بالعروض المسرحية القصيرة، وبالابتسامات التي تعكس عمق التجربة.

إنّ ما يميز أكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة أنها استطاعت، منذ تأسيسها، أن تتحول إلى مرجع مؤسسي في المشهد الثقافي الإماراتي والعربي. فقد انطلقت برؤية محلية تراعي الخصوصية الثقافية للفجيرة، لكنها، مع مرور السنوات، فتحت نوافذها على العالم عبر تبني مناهج تعليمية متجددة، واستقطاب خبرات دولية، وإقامة شراكات مع مؤسسات ثقافية عربية وغربية. وتكفي الإشارة إلى أن الأكاديمية خرّجت على مدى أعوامها الماضية مئات من المبدعين الذين أصبح بعضهم اليوم أسماء معروفة في حقول الرسم، النحت، التصوير الفوتوغرافي، والمسرح. هذا التاريخ يجعل من أي نشاط تنظمه الأكاديمية حدثاً ذا قيمة تتجاوز نطاقه المباشر.

في البرنامج الأخير، استقدمت الأكاديمية نخبة من الخبراء والمدربين، إلى جانب كوادرها التعليمية، ليقدموا للطلبة تجربة عملية متكاملة تجمع بين المعرفة النظرية والممارسة الإبداعية. هذا المزج بين التعلم والإنتاج الفني هو ما أعطى الورش طابعها الخاص، إذ لم يكن الطالب متلقياً سلبياً، بل فاعلاً مشاركاً في صناعة المحتوى الفني. وهنا يتجلى جوهر فلسفة الأكاديمية: إشراك الطالب في العملية الفنية باعتباره شريكاً كاملاً، لا متدرباً محدود الدور.

المدير العام للأكاديمية، سعادة علي عبيد الحفيتي، لخص هذه الرؤية في كلمته أثناء الحفل الختامي حين أشار إلى أن البرنامج "يمثل منصة إبداعية غنية أسهمت في صقل مواهب الطلبة وتنمية شغفهم بالفنون البصرية والمسرحية". هذه العبارة تفتح باباً للتأمل في موقع الفنون في مشروع التنمية الثقافية والاجتماعية لدولة الإمارات، حيث أصبحت الفنون لا تُعامل على أنها نشاط ترفيهي ثانوي، بل كجزء من استراتيجية لصناعة الإنسان المتوازن، القادر على التفكير النقدي والتعبير الجمالي.

وإذا كان من المهم الحديث عن البرنامج بوصفه نشاطاً صيفياً، فإن الأهم النظر إليه باعتباره انعكاساً لنهجٍ مؤسسي تتبعه الأكاديمية في السنوات الأخيرة. فقد نظمت الأكاديمية على مدار العام برامج متنوعة تشمل المعارض التشكيلية، الملتقيات المسرحية، ورش الخط العربي، المحاضرات النقدية، والعروض الموسيقية. هذه الأنشطة لا تعكس فقط اتساع مجالات عملها، وإنما تكشف عن إدراكها لأهمية التكامل بين الفنون المختلفة في صياغة مشهد ثقافي متوازن. فالفنان الذي يشارك في ورشة مسرحية، يجد نفسه قريباً من قاعات الرسم ومعارض التصوير، ما يخلق حالة تلاقٍ بين الفنون تسهم في إثراء التجربة الفردية والجماعية.

الفجيرة، كإمارة، تقدم نموذجاً فريداً في الاستثمار الثقافي. فبين جبالها وسواحلها، نشأت حركة ثقافية حيوية تسعى إلى استثمار الموقع الجغرافي المتميز والعمق التاريخي للإمارة في صناعة هوية معاصرة. وقد لعبت الأكاديمية دوراً محورياً في هذا المسعى، عبر ربط الأجيال الشابة بتاريخهم الثقافي من جهة، وتعريفهم بالتقنيات والأساليب الحديثة من جهة أخرى. بهذا المعنى، فإن "صيفنا فن" لا ينفصل عن سياق أوسع من العمل الثقافي المستدام، بل يأتي كحلقة من حلقاته المتعددة.

 

حضور أولياء الأمور والجهات الداعمة في الحفل الختامي ليس تفصيلاً بروتوكولياً، بل دليل على أن المجتمع المحلي يتبنى المشروع الثقافي ويرى فيه انعكاساً لاهتماماته. فالأسرة، حين ترى أبناءها على خشبة المسرح أو أمام لوحة تشكيلية، تدرك أن الفن ليس ترفاً بل وسيلة لتربية الحس الإنساني وتعزيز الثقة بالنفس. والداعمون، من جهاتهم، يعون أن استثمارهم في الفنون ليس محض رعاية رمزية، بل مساهمة في مشروع تنموي طويل الأمد.

ولعل أهم ما يمكن الوقوف عنده في تجربة الأكاديمية هو قدرتها على الجمع بين المحلي والعالمي. فهي تركز على خصوصية الهوية الإماراتية، لكنها في الوقت نفسه تدفع الطلبة إلى الاطلاع على مدارس الفن العالمية، من الكلاسيكية إلى المعاصرة، ما يتيح لهم بناء شخصية فنية متوازنة قادرة على الحوار مع العالم. هذا البعد العالمي ينسجم مع موقع الإمارات كدولة جعلت من الانفتاح الثقافي أحد أعمدة قوتها الناعمة.

البرنامج الصيفي أيضاً كان مناسبة لإبراز أهمية الفنون المسرحية، إذ لم تقتصر الأنشطة على الرسم والتصوير، بل شملت تدريبات على التمثيل والإخراج المسرحي. المسرح هنا ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل مختبر اجتماعي يتيح للطلبة اختبار قدراتهم في التعبير، الوقوف أمام الجمهور، العمل الجماعي، وحل المشكلات. إن المسرح، كما تشير خبرات الأكاديمية، يربي في المشاركين مهارات حياتية لا تقل أهمية عن المهارات الفنية.

في نهاية البرنامج، تم تكريم الطلبة المتميزين إلى جانب الكادر التعليمي والجهات الراعية. هذا التكريم، في أبعاده الرمزية، يشير إلى أن العمل الفني لا يقوم على الموهبة الفردية فقط، بل يحتاج إلى منظومة متكاملة من الداعمين والمدربين والمؤسسات. بهذا المعنى، فإن كل لوحة أو عرض مسرحي قُدم خلال البرنامج هو نتاج شبكة من العلاقات التربوية والثقافية التي نسجتها الأكاديمية.

لا يمكن الحديث عن أكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة من دون الإشارة إلى موقعها في الخارطة الثقافية لدولة الإمارات. فهي ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل فضاء مفتوح يعكس التوجهات العامة للدولة في رعاية الفنون. ولعل سر تميزها يكمن في أنها تمزج بين التعليم الأكاديمي والبعد المجتمعي، حيث تفتح أبوابها أمام الجمهور في مناسبات عدة، وتشارك في الفعاليات الوطنية، وتقدم برامج مخصصة للأطفال واليافعين، لتؤكد أن الثقافة ليست حِكراً على النخبة بل حق مشاع للجميع.

على مدى السنوات الماضية، نظمت الأكاديمية مهرجانات ومعارض تجاوزت نطاق الفجيرة إلى الحضور في محافل إقليمية ودولية. وقد شارك طلبتها في معارض خارجية عرضوا فيها أعمالاً لاقت اهتماماً وإشادة، ما يعكس جودة التدريب والتمكين الذي يتلقونه داخل الأكاديمية. هذه المشاركات تعكس رؤية استراتيجية ترمي إلى جعل الفجيرة مركزاً فنياً قادراً على المنافسة إقليمياً ودولياً.

من زاوية أخرى، فإن "صيفنا فن" يعكس وعياً بأهمية الاستفادة من العطلة الصيفية في تقديم بدائل تربوية وثقافية للشباب. ففي زمن يزداد فيه تعلق الأجيال الجديدة بالتكنولوجيا والفضاءات الافتراضية، تقدم الأكاديمية نموذجاً مختلفاً يقوم على التفاعل الحي بين المعلم والطالب، بين اللوحة والريشة، بين الممثل والجمهور. إنها عودة إلى الجوهر الإنساني للفن، بوصفه لقاءً وجدانياً لا يُختزل في شاشة أو جهاز.

هكذا، لم يكن ختام برنامج "صيفنا فن 2025" نهاية حدث، بقدر ما كان إعلاناً عن مسار طويل ما زال في بدايته. الأكاديمية، بما تملكه من إمكانات ورؤية، تبدو عازمة على مواصلة هذا المسار، واضعة نصب أعينها هدفاً واضحاً: صناعة أجيال ترى في الفن ليس مجرد نشاط ثانوي، بل جزءاً أصيلاً من هويتها ووعيها. وفي مجتمع تتسارع فيه التحديات، يصبح للفن دورٌ مضاعف، فهو ملاذ ووسيلة مقاومة، وهو أيضاً جسرٌ نحو المستقبل.

إن تجربة أكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة، في بعدها المؤسسي والمجتمعي، تمثل درساً في كيفية الاستثمار بالإنسان عبر الثقافة. وإذا كان ثمة خلاصة يمكن الخروج بها من "صيفنا فن"، فهي أن الفن، حين يجد الرعاية والدعم، يتحول إلى قوة حقيقية قادرة على إحداث فارق في وعي الأجيال، وصياغة مستقبل أكثر إشراقاً.

ريادة الإمارات في دعم اليمن بمشاريع الطاقة النظيفة.. محطات عدن وشبوة والمخا نموذجًا


هل اغتالت إسرائيل أبو عبيدة؟ روايات متضاربة وتكتم من حماس


من الإعدامات إلى الابتزاز النووي: لماذا يطالب القادة بوقف استرضاء طهران؟


منصات عربية تُعيد إنتاج الاحتلال بلغة ناعمة: المثقف بين التفكيك والتواطؤ