تطورات اقليمية
الحرب الروسية الاوكرانية..
خلف الأبواب المغلقة: كيف رفضت واشنطن حياد أوكرانيا وفضلت مسار الحرب؟
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي
لم تكن حرب أوكرانيا، كما قُدِّمت للرأي العام الغربي، نتيجة حتمية لمسار لا يمكن وقفه. فخلف الخطاب السياسي الصلب الذي رافق اندلاعها، كانت هناك خيارات مطروحة، ونقاشات جرت في الغرف المغلقة، انتهت إلى قرار لم يكن بالضرورة الأقل كلفة إنسانيًا، بل الأقل إرباكًا سياسيًا لصنّاع القرار في واشنطن وحلفائها.
الاعتراف الذي خرج مؤخرًا على لسان أماندا سلوت، المساعدة الخاصة السابقة للرئيس الأمريكي جو بايدن والمديرة الأولى لشؤون أوروبا في مجلس الأمن القومي، أعاد فتح ملف «الفرصة الضائعة» التي كان من شأنها تفادي واحدة من أكثر الحروب دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. اعتراف لا يهز الرواية الغربية الرسمية فحسب، بل يضع سؤال الأخلاق السياسية في صدارة النقاش: هل اختيرت الحرب لأنها الخيار الوحيد، أم لأنها بدت أقل كلفة سياسيًا من تقديم تنازل استراتيجي مبكر؟
بحسب ما أورده موقع «ريسبونسبل ستيت كرافت» الأمريكي، لطالما وُجدت حقيقتان متوازيتان في خطاب إدارة بايدن بشأن أوكرانيا. الأولى، جرى تسويقها علنًا عبر الخطب والبيانات، ومفادها أن العملية العسكرية الروسية لا علاقة لها بتوسع حلف شمال الأطلسي، وأن الحرب لم يكن بالإمكان منعها، وأن أي حديث عن مفاوضات أو تنازلات قبل أو بعد اندلاعها يُعدّ غير أخلاقي. أما الحقيقة الثانية، وهي النقيض الكامل، فقد ظلت تظهر على استحياء حين يظن بعض المسؤولين أن أحدًا لا يستمع إليهم.
هذه الحقيقة برزت بوضوح في تصريحات سلوت خلال مكالمة ظنت أنها مع مساعدين للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حين قالت صراحة إن نقاشات جرت قبل بدء الحرب حول احتمال إعلان أوكرانيا عدم الانضمام إلى الناتو مقابل منع العملية العسكرية الروسية، مضيفة أن هذا الخيار «كان قد ينجح بالفعل في ذلك الوقت». وبعد مرور ثلاث سنوات، عادت لتطرح السؤال الأكثر إيلامًا: هل كان من الأفضل فعل ذلك قبل الحرب، أو خلال محادثات إسطنبول، بما كان سيمنع الدمار وسقوط هذا العدد الهائل من الضحايا؟
تصريحات سلوت لا تكتفي بإعادة سرد الوقائع، بل تحمل دلالات ثقيلة. فهي تعني عمليًا أن إعلان حياد أوكرانيا كان من شأنه، على الأرجح، منع اندلاع الحرب، وأن هذا الخيار لم يكن مستحيلًا حتى بعد الغزو، إذ كان مطروحًا خلال محادثات إسطنبول في ربيع 2022. والأهم أنها تكشف أن إدارة بايدن درست هذا السيناريو بجدية، لكنها رفضته في النهاية.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا رُفض هذا الخيار، إذا كان سيجنب أوكرانيا حربًا مدمرة؟ تبرير سلوت كان أن الضغط على كييف للتخلي عن طموح الانضمام إلى الناتو يعني ضمنيًا منح روسيا «حق فيتو» على خيارات دولة ذات سيادة، وهو أمر لم تكن مستعدة لتقبّله. كما أوضحت أن بايدن لم يشعر بأن من حقه أن يملي على أوكرانيا ما يجب أن تفعله في هذا الشأن.
غير أن هذا التبرير، وفق محللين، يصطدم بسجل طويل من التدخلات والضغوط الأمريكية على أوكرانيا في ملفات سياسية واقتصادية وأمنية. فالولايات المتحدة، كما يشير «ريسبونسبل ستيت كرافت»، لم تتردد سابقًا في دفع كييف نحو خيارات غير شعبية، سواء في ملف الناتو خلال عهد جورج بوش الابن، أو عبر فرض إصلاحات اقتصادية موجعة في عهد أوباما، كان جو بايدن نفسه أحد أبرز مهندسي الضغط لتمريرها.
الأخطر في اعتراف سلوت هو تلميحها إلى أن الرهان الغربي في بدايات الحرب لم يكن السلام، بل «النصر العسكري» ثم التفاوض من موقع قوة. هذا الرهان، الذي دعمته واشنطن ولندن وعدد من دول أوروبا الشرقية، انهار لاحقًا على أرض الواقع، بعد أن تحولت الحرب إلى استنزاف طويل، دفع ثمنه الأوكرانيون دمًا وأرضًا واقتصادًا.
ولم تكن سلوت الأولى التي تقرّ بهذا المسار. فقد سبقتها اعترافات موثقة لكل من الأمين العام السابق للناتو ينس ستولتنبرغ، ومديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية السابقة أفريل هاينز، أكدا فيها أن مسألة توسع الناتو كانت جوهر المظلومية الروسية، وأن الحلف رفض تقديم أي تنازل في هذا الملف. المفارقة أن هذا التنازل ذاته قُدِّم لاحقًا، بعد ثلاث سنوات من الحرب، حين وافق زيلينسكي علنًا على استبعاد الانضمام إلى الناتو في إطار مساعٍ لإحياء مفاوضات السلام.
اليوم، وبعد أن أصبحت أوكرانيا بلدًا مثقلًا بالأنقاض، واقتصادًا مدمّرًا، ومجتمعًا يعاني مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين، تبدو تلك «الفرصة الضائعة» كواحدة من أكثر اللحظات كلفة في التاريخ السياسي المعاصر. فمنتقدو الحرب، الذين اتُّهموا في بداياتها بترديد «دعاية الكرملين»، يتبيّن الآن أنهم كانوا يعبّرون، دون أن يدروا، عن الأفكار نفسها التي ناقشها صناع القرار الغربيون خلف الأبواب المغلقة.
هكذا، لا تعيد هذه الاعترافات كتابة سردية الحرب فحسب، بل تكشف فجوة عميقة بين الخطاب الأخلاقي المُعلن، والقرارات الفعلية التي فُضِّلت فيها الحسابات السياسية على تجنيب شعبٍ كامل ويلات حرب كان يمكن، على الأرجح، تفاديها.