تطورات اقليمية

المخدرات تختبر الدولة اللبنانية من جديد..

من أزمة التهريب إلى شراكة أمنية.. كيف تحولت السعودية إلى الداعم الأبرز لمؤسسات الدولة اللبنانية؟

الكوكايين يعيد وصل بيروت بالرياض - الصورة عن وكالات

في واحدة من أبرز القضايا الأمنية التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة، أعلن وزير الداخلية أحمد الحجار أن السلطات تمكنت من ضبط شحنة ضخمة من الكوكايين تعد الأكبر من نوعها منذ سنوات، إذ بلغت كميتها 125 كيلوغراماً، جرى تهريبها عبر سفينة قدمت من البرازيل مروراً بسلطنة عُمان وصولاً إلى مرفأ طرابلس. وأوضح الحجار أن الشحنة كانت مخبأة باحترافية عالية داخل 840 غالوناً من الزيوت والشحوم الصناعية، في محاولة للتمويه على أجهزة التفتيش ومنع اكتشافها. وأكد الوزير أن هذه العملية تمت على أساس معلومات استخباراتية دقيقة زودت بها وزارة الداخلية السعودية الأجهزة الأمنية اللبنانية، وهو ما سمح بتنفيذ عملية نوعية انتهت بإحباط التهريب قبل أن تصل المخدرات إلى وجهتها. كما كشف عن توقيف شخصين حتى الآن، فيما لا تزال التحقيقات جارية لملاحقة متورطين آخرين، وسط توقعات بأن تكون العملية مرتبطة بشبكة إقليمية عابرة للحدود.

هذا التعاون العابر للحدود بين بيروت والرياض يعكس مستوى متقدمًا من التنسيق الأمني لمكافحة المخدرات، في إطار نهج سعودي أوسع يستهدف ملاحقة شبكات التهريب في المنطقة، ويؤكد أن المملكة تنظر إلى لبنان ليس فقط كدولة صديقة بل كخط دفاع أمامي في مواجهة هذه الظاهرة التي تمس أمنها القومي. فالرياض لطالما أعربت عن قلقها من تحول الأراضي اللبنانية إلى منصة للتهريب نحو الخليج، خصوصاً مع تورط شبكات مرتبطة بحزب الله أو بعصابات محلية استفادت من الفوضى السياسية والاقتصادية.

لكن هذه العملية ليست مجرد نجاح أمني، بل تأتي في سياق تاريخي طويل من التوترات بين لبنان والسعودية بسبب ملف المخدرات. ففي أبريل 2021 أعلنت الرياض تعليق استيراد الفواكه والخضروات اللبنانية بعد ضبط 5.3 مليون حبة كبتاغون داخل شحنة رمان قادمة من لبنان، وهو قرار أحدث صدمة اقتصادية كبيرة للبنان المنهك أصلاً. آنذاك، طالبت المملكة بيروت بتقديم ضمانات حقيقية لوقف ما وصفته بـ"عمليات التهريب المنهجية" التي أضرت بأمنها ومجتمعها. وفي يونيو من العام نفسه، تمكنت السلطات السعودية بالتنسيق مع نظيرتها اللبنانية من ضبط 14.4 مليون حبة كبتاغون كانت مخبأة في صفائح حديدية وصلت عبر مرفأ بيروت، واعتُبرت العملية حينها مثالاً على فعالية التعاون الأمني حين تتوافر الإرادة السياسية. هذه السوابق أوضحت أن المخدرات لم تكن مجرد قضية جنائية، بل تحولت إلى ملف دبلوماسي أثّر بعمق على العلاقات بين البلدين، وارتبط أيضاً بالخلافات حول نفوذ حزب الله داخل الدولة اللبنانية وموقف السعودية من تمدد دوره الإقليمي.

اليوم، تأتي عملية طرابلس في سياق مختلف. فهي تتزامن مع إعادة تموضع سعودي في لبنان، بعد فترة طويلة من الانكفاء. تقرير نشره موقع "أتالاير" أوضح أن الرياض عادت لتلعب دوراً مركزياً في الملف اللبناني بسبب الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي يمر بها البلد وتوتر الأوضاع على حدوده الجنوبية. فالسعودية التي استثمرت لعقود في إعادة إعمار لبنان ورعت زعامات سُنية بارزة مثل رفيق الحريري، وجدت نفسها بعد صعود حزب الله وتورطه في الصراعات الإقليمية مضطرة للانسحاب وترك الساحة. لكن المشهد يتغير اليوم، إذ ترسل الرياض مبعوثين خاصين وتجري لقاءات رفيعة مع الرئيس جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام ورئيس البرلمان نبيه بري، ضمن خطة أوسع عُرفت باسم "الالتزام المشروط". هذا المفهوم يقوم على استعداد السعودية لتقديم دعم مالي وسياسي للبنان، لكنه مشروط بإجراءات إصلاحية ملموسة وضمانات تقيد نفوذ الميليشيات وتعيد للدولة بعضاً من هيبتها.

في هذا الإطار، تحمل عملية ضبط الكوكايين رسائل متعددة. أولاً، هي تأكيد على أن الدولة اللبنانية، ممثلة بوزارتها وأجهزتها الشرعية، قادرة على أن تكون شريكاً موثوقاً في مواجهة الجريمة المنظمة، ما يشجع دول الخليج على الانفتاح مجدداً على بيروت والمساهمة في إنعاش اقتصادها إذا أثبتت جديتها. ثانياً، تمثل العملية ضغطاً مباشراً على حزب الله الذي يستفيد من اقتصاد الظل وشبكات التهريب، إذ يقلل نجاح مثل هذه العمليات من مصادر تمويله غير الشرعية ويقوض حجته بأنه يحمي لبنان عبر إمساكه بملف الحدود. ثالثاً، للبُعد الاقتصادي والسياسي أهمية خاصة، فلبنان الذي يعاني من انهيار عملته وارتفاع معدلات الفقر يراهن على أن استئناف التعاون مع السعودية سيعيد فتح الباب أمام تصدير المنتجات الزراعية وعودة الاستثمارات والسياحة الخليجية. الوزير الحجار نفسه شدد في تصريحاته على أن الرسالة الأساسية هي طمأنة "الدول الشقيقة" بأن لبنان لن يكون منصة للتهريب مجدداً.

أما على المستوى الإقليمي، فإن العملية تدخل في سياق أوسع من التنافس الاستراتيجي. السعودية تمضي منذ سنوات في حملة إقليمية شاملة للقضاء على تجارة المخدرات، وخصوصاً الكبتاغون القادم من سوريا ولبنان، باعتباره تهديداً مباشراً لشبابها وأمنها القومي. وفي الوقت نفسه، تحاول الرياض أن تقدم نفسها كداعم للمؤسسات الرسمية اللبنانية في مواجهة النفوذ الإيراني المتجذر عبر حزب الله. التعاون الأمني في ملف المخدرات يكشف أن السعودية تراهن على الدولة اللبنانية لا على القوى الحزبية، وهو ما يتقاطع مع رؤيتها لإعادة تشكيل التحالفات في المنطقة بعد اتفاقها مع إيران في مارس 2023، حيث تسعى إلى الحد من الفوضى العابرة للحدود وتعزيز الاستقرار.

لكن رغم هذه المؤشرات الإيجابية، لا تزال التحديات أمام الشراكة السعودية اللبنانية كبيرة. فالتداخل بين الدولة والمجموعات المسلحة لم ينتهِ بعد. حزب الله يمتلك بنية عسكرية واقتصادية خاصة به، ويستفيد من شبكات التهريب التي تعبر الحدود اللبنانية السورية، ما يجعل تفكيك هذه الشبكات مهمة محفوفة بالمخاطر قد تؤدي إلى توترات داخلية إذا لم تتم عبر توافق وحوار تدريجي. كذلك، فإن الإصلاحات الاقتصادية العميقة التي تطالب بها السعودية ودول الخليج لا تزال بعيدة المنال، إذ يشترط المانحون إصلاح النظام المصرفي والمالي ومحاربة الفساد المستشري، وهي خطوات تصطدم حتى الآن بعراقيل سياسية داخلية. بدون هذه الإصلاحات، قد تبقى المساعدات الأمنية مجرد مسكنات لا تعالج أصل الأزمة. يضاف إلى ذلك التوازن الحساس بين القوى الدولية، فبيروت تحاول الحفاظ على علاقاتها مع إيران وقطر وتركيا، فضلاً عن ارتباطها بالأزمة السورية، ما يجعل أي انحياز واضح نحو الرياض محفوفاً بمخاطر سياسية واقتصادية.

خلاصة القول إن إحباط تهريب 125 كيلوغراماً من الكوكايين لا يمكن النظر إليه كإنجاز أمني فحسب، بل هو اختبار حقيقي لقدرة لبنان على ترسيخ حكم القانون وإعادة بناء الثقة العربية والدولية. العملية تعكس عودة السعودية لاعباً محورياً في الساحة اللبنانية، لكن هذه العودة مشروطة بإصلاحات جذرية وبمواجهة حقيقية لشبكات التهريب ولنفوذ الميليشيات. نجاح بيروت في هذا المسار قد يفتح الباب أمام موجة جديدة من الاستثمارات والمساعدات الخليجية التي يحتاجها الاقتصاد اللبناني بشدة لوقف الانهيار، لكنه في الوقت ذاته يتطلب شجاعة سياسية وإجماعاً داخلياً على أن دولة القانون فوق كل اعتبار. وفي النهاية، يمكن القول إن معركة المخدرات أصبحت اليوم عنواناً لمعركة أكبر على هوية لبنان ودوره في المنطقة، بين أن يبقى رهينة الفوضى والاقتصاد الموازي أو أن يعيد بناء نفسه كشريك عربي مسؤول قادر على حماية حدوده وصون سيادته.

سر نووي تحت رمال النقب: تكثيف البناء في منشأة ديمونا يثير القلق الدولي


مؤسسة أبحاث: نصف المراهقين في لحج وعدن يقضون أكثر من 8 ساعات يوميًا على هواتفهم


انهيار أرضي يبتلع قرية بأكملها في جبل مرة: أكثر من ألف قتيل وناجٍ واحد فقط


التجربة الفنية في الفجيرة.. برنامج صيفي يعزز الهوية الثقافية ويفتح آفاق الانفتاح على العالم