تطورات اقليمية

بين الواقعية السياسية والبراغماتية الخطرة..

من الضغط إلى الصفقة: واشنطن تفاوض حماس مباشرة لأول مرة منذ عقدين

الرئيس الأميركي دونالد ترامب

خلال لقائه في البيت الأبيض مع الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، وجَّه الرئيس الأميركي دونالد ترمب إنذاراً شديد اللهجة لحركة «حماس». أكد ترمب أن على الحركة أن تُسلِّم سلاحها، وإلا فإن الولايات المتحدة ستقوم بنزع هذا السلاح سريعاً وربما بعنف. وقال ترمب للصحافيين: «(حماس) ستترك سلاحها، وإذا لم تفعل ذلك فسوف ننزعه نحن، وقد يكون ذلك سريعاً وربما بعنف... إنهم يعلمون أنني لا أناور». وعندما سُئل عن كيفية تحقيق ذلك، رفض الخوض في التفاصيل مكتفياً بالقول: «لستُ مضطراً لشرح ذلك... إنهم يعرفون أنني لا ألعب ألعاباً». كما أضاف أن هذه الخطوة ستتم «بسرعة... خلال فترة زمنية معقولة» إذا لم تبادر «حماس» بنفسها إلى تسليم ترسانتها.

لم تُعلن «حماس» حتى الآن بشكل صريح موافقتها على نزع سلاحها أو توقِّع على أي التزام رسمي بذلك. ومع ذلك، ألمح ترمب إلى أنه حصل من قيادات الحركة على تأكيدات شفهية بالاستعداد للتخلي عن السلاح. وروى ترمب أنه سأل ممثلي «حماس»: «أنتم ستُسلِّمون سلاحكم، صحيح؟» فجاءه الرد: «نعم سيدي، سنسلِّم سلاحنا». وأكد ترمب أن رسالته لهم واضحة: إما أن يسلموا سلاحهم وإما سيتم نزعه بالقوة الأميركية: «إما أن يسلِّموا سلاحهم وإما سنسلِّمه نحن... هل تفهمون ذلك؟!».

تفويض أمني مؤقت لـ«حماس»

في الوقت ذاته، فاجأ ترمب المراقبين بتصريح آخر بدا متناقضاً مع تهديداته. فقد أعطى ضوءاً أخضر مؤقتاً لـ«حماس» لتولّي مهام الأمن الداخلي في غزة خلال فترة وقف إطلاق النار. وصرّح ترمب بأنه «منحوهم موافقة مؤقتة» للقيام بحفظ الأمن والنظام، موضحاً: «إنهم يريدون وقف المشكلات، وقد منحناهم موافقة (على ذلك) لفترة مؤقتة». وبرر الرئيس الأميركي هذا التوجه بقوله إنه غير منزعج من تولي الحركة دور الشرطة المحلية مؤقتاً إذا كان ذلك سيساهم في تهدئة الفوضى وضبط الوضع الأمني في القطاع. وأشار إلى أن «حماس» قضت على عصابتين سيئتين للغاية وقتلت عدداً من أفرادهما خلال الأيام الأولى للتهدئة، معلقاً: «هذا لا يزعجني كثيراً، فهما عصابتان سيئتان للغاية». ويبدو أن ترمب يُعوِّل على أن سماحه المؤقت للحركة بتثبيت الأمن سيُمهِّد الأرضية لنزع سلاحها الكامل لاحقاً دون انهيار الاستقرار الهش في غزة.

جاءت هذه التطورات في أعقاب اتفاق وقف إطلاق نار شمل تبادل الأسرى والرهائن بين إسرائيل و«حماس»، والذي اعتُبر المرحلة الأولى من خطة سلام طرحتها واشنطن. وقد كشف تقرير صحافي عن محادثات مباشرة غير مسبوقة جرت خلف الكواليس بين مبعوثَي ترمب (صهره جاريد كوشنر ورجل الأعمال ستيف ويتكوف) وقيادة «حماس». وبحسب موقع «أكسيوس»، التقى كوشنر وويتكوف سراً بخليل الحية (كبير مفاوضي «حماس») في منتجع شرم الشيخ بمصر، حيث قدّم المبعوثان ضمانات أميركية شفوية للحركة بأن إسرائيل ستلتزم ببنود الخطة الأميركية لإنهاء الحرب مقابل موافقة «حماس» على الخطة وإطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين الأحياء وتسليم رفات القتلى منهم. وأكد ويتكوف خلال الاجتماع «أن الرئيس ترمب يقف وراء جميع النقاط العشرين في خطته للسلام وسيضمن تنفيذها بالكامل»، الأمر الذي بدّد لدى وفد «حماس» هاجس استئناف إسرائيل للحرب بعد إطلاق الرهائن. وبالفعل، ما إن حصل قادة «حماس» على هذه التأكيدات حتى تم الإعلان عن التوصل لاتفاق. يُذكر أن هذه الانخراطات الأميركية المباشرة مع حماس كسرت محظورات دامت سنوات في السياسة الأميركية، إذ تُصنَّف الحركة كمنظمة إرهابية في واشنطن. ويرى مؤيدو ترمب أن مثل هذه الخطوات الجريئة تعكس براغماتية وحرصاً عملياً على إنجاح المفاوضات، فيما يصفها منتقدون بـ**«السذاجة السياسية»** التي قد تضفي شرعية على «حماس» بدون ضمان تخليها عن العنف مستقبلاً.

استراتيجية أم تناقض؟

أثارت هذه المواقف المتباينة من جانب ترمب – بين التهديد بنزع سلاح «حماس» بالقوة من جهة، ومنحها تفويضاً أمنياً مؤقتاً من جهة أخرى – جدلاً واسعاً حول ما إذا كانت تنم عن استراتيجية متكاملة أم مجرد تناقض تكتيكي. فمن منظور معين، قد يكون ترمب يُطبِّق خطة مدروسة تقوم على خطوتين متتاليتين: أولاً تهدئة الساحة وضبط الأوضاع الأمنية في غزة عن طريق إشراك «حماس» مؤقتاً في مسؤولية حفظ الأمن، ثم الانتقال إلى نزع سلاحها بالكامل في المرحلة التالية. بهذه الطريقة يمكن منع الفوضى والانهيار الداخلي في الفترة الانتقالية، مما يُسهِّل عملية نزع السلاح لاحقاً حين تستتب بعض مظاهر الاستقرار.

على الجانب الآخر، حذّر محللون من أن منح «حماس» أي دور أمني مؤقت قد يُعقِّد هدف نزع سلاحها. فبمجرد أن تستعيد الحركة زمام السيطرة على الأرض ولو مؤقتاً، قد تزداد صعوبة إقناعها أو إرغامها على التخلي عن ترسانتها بشكل كامل. وقد أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير لها إلى أن قيادات «حماس» أبدت استعداداً لنزع جزئي للسلاح فقط – عبر تسليم بعض الأسلحة وليس كلها – وذلك مقابل ضمانات أميركية قوية بألا تُستأنف الحرب ضدها. مثل هذا التوجه (أي الاحتفاظ بجزء من السلاح) من قبل «حماس» يطرح علامة استفهام كبرى حول إمكانية تحقيق نزع سلاح كامل ودائم. وقد رأت نيويورك تايمز أن قبول ترمب بإعطاء الحركة دوراً أمنياً مؤقتاً على الأرض قد يعيق تنفيذ الشق المتعلق بنزع السلاح، إذ قد تستغل «حماس» ذلك لترتيب صفوفها أو إعادة تسليح نفسها بشكل مقنَّع تحت ستار قوة الشرطة المحلية.

أعادت «حماس» انتشار عناصرها في شوارع غزة مستغلة الهدوء النسبي، محاولةً فرض سلطتها مجدداً بعد تعرضها لضربات قوية خلال الحرب. وقد نشرت الحركة وحدات من جناحها العسكري (كتائب القسام) لتقوم بدوريات علنية في بعض المناطق، وأعدم عناصرها عشرات المطلوبين مما تصفهم بـ«الخارجين عن القانون» أو المتعاونين مع إسرائيل. هذه التحركات – التي تمت بمباركة ضمنية من ترمب لفترة وجيزة – اعتبرها البعض محاولة من «حماس» لإعادة إحكام قبضتها على القطاع في ظل الفراغ الأمني النسبي أثناء الهدنة. ويخشى مراقبون أن تؤدي هذه الوضعية إلى تقويض الهدنة الهشة، بحيث لا يصمد وقف إطلاق النار طويلاً إذا شعرت إسرائيل أو أطراف أخرى بأن «حماس» تناور لإعادة بناء قوتها العسكرية خلال فترة السماح المؤقت.

تحديات أمام خطة السلام

يتضح أن الطريق نحو السلام الذي رسمه ترمب في خطته الطموحة ليس مفروشاً بالورود، بل تعترضه عقبات كبيرة تتطلب حلولاً حاسمة. ومن أبرز العقبات أمام السلام المنشود:

نزع سلاح «حماس»: يُعد تجريد الحركة من ترسانتها العسكرية بالكامل تحدياً جوهرياً لا غنى عنه لضمان استقرار أي اتفاق دائم. غير أن «حماس» ترفض مبدأ نزع سلاحها دون مقابل سياسي كبير، وقد أعلنت مراراً أنها لن تتخلى عن سلاحها إلا ضمن اتفاق يشمل إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وحتى مع الضغوط القصوى التي يمارسها ترمب، تشير تقديرات إلى احتمال قبول الحركة بحلول وسط (كنزع جزئي أو تخزين أسلحتها تحت رقابة ما) بدلاً من التسليم الكامل. هذا الوضع يهدد بإبقاء فتيل التوتر قائماً ويجعل نجاح الخطة الأميركية مرهوناً بمدى واقعية ترتيبات نزع السلاح وآليات التحقق منه على الأرض.

حل الدولتين وقبول إسرائيل: اعتراف إسرائيل بحل الدولتين أو حتى قبولها إشارة ضمنية لإمكان إقامة دولة فلسطينية في المستقبل يمثل حجر عثرة سياسي. خطة ترمب (20 نقطة) لم تنص صراحة على قيام دولة فلسطينية، لكنها لم تستبعد الأمر وذكرت وجود «مسار credible نحو تقرير المصير والدولة الفلسطينية» بعد إصلاح السلطة وإعادة إعمار غزة. هذه الإشارة أثارت تحفظات شديدة داخل إسرائيل؛ إذ يعارض كثيرون – لاسيما في اليمين الحاكم – أي خطوة قد تُفسَّر على أنها إحياء لخيار الدولة الفلسطينية. ويحذر محللون من أنه إذا لم يشعر الإسرائيليون بالاطمئنان الكامل إلى زوال تهديد «حماس» وبيئة الإرهاب، فسيصعب تسويق أي أفق سياسي يتعلق بقيام دولة فلسطينية، مما قد يدفع المتطرفين للضغط لكسر الاتفاق والعودة للتصعيد العسكري.

نشر قوة دولية ضامنة: تتضمن خطة ترمب نشر بعثة دولية لاستقرار غزة تتولى تدريب ودعم قوة شرطة فلسطينية محلية، مع لجنة حكم انتقالية فلسطينية تُشرف عليها «هيئة سلام» دولية برئاسة ترمب نفسه وتضم شخصيات عالمية مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير. لكن تطبيق هذا البند يصطدم بتساؤلات حول مدى استعداد الدول للمشاركة بقوات على الأرض في ظل وجود عناصر مسلحة من «حماس». فإذا لم يتم نزع سلاح «حماس» كلياً فقد تتردد الدول – بما فيها دول عربية – في إرسال جنودها إلى قطاع غزة، خشية تعرضهم لخطر الاشتباك مع مقاتلي الحركة وما يترتب على ذلك من خسائر بشرية وانتقادات داخلية. بالفعل، أبدى مسؤولون غربيون قلقهم من أن أي وجود لقوة حفظ سلام دولية في غزة سيضع بلدانهم في مواجهة مباشرة مع فلول «حماس» المسلحة، وهو ما قد لا يتحمله الرأي العام في تلك الدول إذا سقط ضحايا. كذلك لم تُظهر إسرائيل حماساً لفكرة القوة الدولية وتخشى أن تصبح عائقاً أمام حرية تحرك جيشها إذا عادت المواجهات. كل ذلك يجعل مستقبل القوة الدولية وآلية الإشراف على غزة موضع شك، ويهدد تماسك المرحلة الانتقالية بعد الحرب.

آراء الخبراء

أمام هذه التعقيدات، صدرت مواقف تحليلية متباينة من الخبراء والمسؤولين السابقين حول نهج ترمب وفعاليته في هذه الأزمة:

يرى خبراء في مجلس العلاقات الخارجية (CFR) أن خطة ترمب ذات النقاط العشرين تطرح شروطاً صارمة على الطرفين، وأهم ما فيها أنها تؤكد بوضوح أنه لن يكون لـ«حماس» أي دور في حكم غزة مستقبلاً. في المقابل، تعرض الخطة لأفراد الحركة عفواً وضمانات أمنية مقابل نبذ العنف والالتزام بالسلام. هذا العرض يهدف لإعطاء حوافز لعناصر «حماس» العاديين للتخلي عن القتال، عبر دمج من يلتزم منهم بالسلم في المجتمع أو تأمين خروج آمن لمن يرفض ذلك. ورغم أن إسرائيل تؤيد هذه الشروط مبدئياً (إقصاء «حماس» ونزع سلاحها)، فإن تطبيقها عملياً يظل رهن قدرة إدارة ترمب على إنفاذ التعهدات وضمان رقابة دولية صارمة على التنفيذ.

سوزان مالوني الباحثة في معهد بروكينغز ترى أن نهج ترمب الصارم – بما فيه استعداده لمحادثات مباشرة مع «حماس» – قد أثمر بالفعل نتائج ملموسة تفوقت على محاولات الإدارة الأميركية السابقة في عهد جو بايدن. وتشير مالوني إلى أن تكتيكات الضغط القصوى التي اتبعها ترمب (مثل التهديد العلني لإسرائيل بوقف المساعدات لإجبارها على القبول بالاتفاق، والانخراط شخصياً لضمان تنفيذ البنود) أظهرت للعالم صورة رئيس قادر على فرض الحلول حين تعجز الدبلوماسية التقليدية المترددة. وبحسب مالوني، نجح ترمب عبر هذه المقاربة غير التقليدية في تحقيق ما بدا مستحيلاً قبل أشهر، وهو وقف الحرب في غزة وإطلاق جميع الرهائن الإسرائيليين خلال فترة وجيزة، الأمر الذي يعزِّز صورته كصانع صفقات حاسم.

آرون ديفيد ميلر المفاوض الأميركي السابق وباحث معهد كارنيغي يقدم تقييماً أكثر نقداً. يقول ميلر إن ترمب «قام بليّ ذراع نتنياهو بشكل غير مسبوق» – بما في ذلك التهديد الضمني بحجب بعض المساعدات الأميركية عن إسرائيل – لإرغامه على المضي قدماً في الصفقة. هذا الأسلوب العنيف أتى أُكله في انتزاع موافقة إسرائيل على بنود لم تكن لترضى بها في ظروف أخرى. لكن في المقابل، يشير ميلر إلى أن تسامح ترمب مع «حماس» خلال الهدنة وتجاهله ممارساتها القمعية (عمليات «التطهير» والقتل التي نفذتها ضد خصومها في غزة تحت شعار حفظ الأمن) يبعث إشارات ضعف قد يستغلها معارضو الخطة الأميركية. فمنتقدو ترمب سواء في إسرائيل أو واشنطن سيرون في سماحه لـ«حماس» بممارسة دور أمني وعدم محاسبتها على انتهاكاتها دليلاً على تنازل غير مبرر، مما قد يشجع الرافضين للاتفاق على المماطلة أو التصعيد لإفشاله. بكلمات أخرى، يعتبر ميلر أن نهج ترمب جمع بين القوة المفرطة في الضغط على الحلفاء والتساهل النسبي مع الأعداء، مما يطرح تساؤلات حول استدامة النتائج التي حققها على المدى الطويل.

في المحصلة، خطة ترمب لسلام غزة أدخلت مفاهيم جديدة على مسار التعامل مع «حماس»، وحققت اختراقات مهمة مثل وقف القتال وتحرير الرهائن، لكنها أيضاً خلقت تحديات معقدة تتطلب إدارة حذرة وتوازنات دقيقة. وبين من يرى في تحركات ترمب استراتيجية ذكية متعددة المراحل لتحقيق ما عجز عنه غيره، ومن يصفها بأنها مجرد تناقضات تكتيكية قد ترتد سلباً على الاستقرار، تبقى الأيام والأسابيع القادمة الاختبار الحقيقي لما إذا كان هذا النهج سيؤدي في النهاية إلى نزع سلاح «حماس» بالكامل وإرساء سلام مستدام في غزة، أم أن تعقيدات الواقع ستفرض مسارات مغايرة لما خطط له صانع الصفقات في البيت الأبيض.

الشارقة للفنون تعرض تسعة أعمال كبرى عن علاقة الإنسان بالماء والوطن


حضور إماراتي لافت في اجتماع باريس: دبلوماسية العمل الإنساني قبل السياسة


وقف إطلاق النار في غزة.. خطة ترامب تفتح بوابة سلامٍ محفوفة بالمخاطر


من الميدان إلى الدبلوماسية.. الصومال ترسّخ توازن القوة بين المواجهة المسلحة وبناء المؤسسات الأمنية