تطورات اقليمية

قمة شرم الشيخ للسلام..

اتفاق شرم الشيخ يرسم خريطة جديدة للمنطقة.. سلامٌ هش في غزة ومواجهة مؤجلة في البحر الأحمر

هناك فرصة حقيقية لأن يكون اتفاق شرم الشيخ بداية لتوازنٍ جديد في الإقليم إذا استُثمر بشكلٍ ذكي - أرشيف

في شرم الشيخ، تلك المدينة التي لطالما كانت مسرحًا للسلام العربي، عاد العالم في أكتوبر 2025 ليجتمع من جديد في محاولة لطيّ صفحةٍ دموية من الصراع المستمر في قطاع غزة، ولرسم ملامح شرقٍ أوسطٍ جديدٍ خالٍ من الحروب. كان الاتفاق الذي أطلق عليه إعلاميًا “اتفاق شرم الشيخ بشأن غزة” نقطة فاصلة بين حربٍ أنهكت الجميع، ومحاولة دولية لإعادة ترتيب الأوراق في واحدة من أكثر القضايا حساسية في المنطقة. غير أن تداعياته لم تقتصر على حدود القطاع الفلسطيني، بل امتدت إلى البحر الأحمر ومضيق باب المندب، حيث يتحرك الحوثيون كأداة ضغط إيرانية، يوظفون الصراع في غزة لتبرير عسكرة الممرات البحرية وتهديد التجارة الدولية. ومع توقيع الاتفاق، بات السؤال الأهم: هل انتهت ذريعة الحوثيين بعسكرة باب المندب؟

بدأت قصة الاتفاق حين استضافت مصر، بدعمٍ من الأمم المتحدة، قمة شرم الشيخ للسلام في الحادي عشر من أكتوبر 2025، بحضور أكثر من ثلاثين دولة، من بينها الولايات المتحدة والصين وروسيا وتركيا وفرنسا ودول عربية كالسعودية والإمارات والأردن، إلى جانب ممثلين عن الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي. الهدف المعلن كان وقف الحرب في غزة وإطلاق مسار لإعادة الإعمار وتثبيت الهدنة. بدا المشهد في شرم الشيخ أقرب إلى إعادة إحياء “اتفاقيات مدريد وأوسلو” بروحٍ جديدة، لكنه أيضًا حمل في طيّاته ما يشبه إعلانًا ضمنيًا لإعادة ضبط التوازنات في الإقليم، وخصوصًا في البحر الأحمر الذي تحوّل إلى ساحة مواجهة غير مباشرة بين إيران والولايات المتحدة.

نص الاتفاق على وقف إطلاق نار شامل بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، بوساطة أمريكية ومصرية وضمانة من الأمم المتحدة، وبدء مفاوضات سياسية موسعة حول مستقبل غزة، تشمل الترتيبات الأمنية والإدارية والاقتصادية للقطاع، مع التزامٍ دولي بتمويل إعادة الإعمار. كما دعا الاتفاق إلى تعاونٍ إقليمي لحماية خطوط الملاحة في البحر الأحمر وتأمين مضيق باب المندب، وهو بند أثار اهتمام العواصم الخليجية والعربية المطلة على البحر. فالاتفاق لم يكن فقط لتثبيت هدنة في غزة، بل محاولة لرسم خط تماسٍ جديد بين معسكرين إقليميين متصارعين منذ عقد: محور الاستقرار بقيادة السعودية ومصر والإمارات، ومحور الممانعة الذي تقوده إيران وتتبعه جماعة الحوثي في اليمن.

بالنسبة للحوثيين، الذين قدّموا أنفسهم منذ 2023 بوصفهم “المدافعين عن غزة”، فإن اتفاق شرم الشيخ مثّل ضربة سياسية قاسية. فمنذ اندلاع الحرب في القطاع، تبنّت الجماعة خطابًا دينيًا تعبويًا يربط بين قتالهم الداخلي في اليمن وبين “المعركة الكبرى ضد الصهاينة”، وبدأت تنفيذ هجمات متكررة ضد السفن التجارية في البحر الأحمر، مستهدفة السفن التي تزعم أنها “مرتبطة بإسرائيل أو حلفائها”. وقد روّجت وسائل الإعلام الحوثية لتلك العمليات باعتبارها “موقفًا مبدئيًا لدعم الفلسطينيين”، بينما في الحقيقة كانت جزءًا من استراتيجية إيرانية أوسع لخلط أوراق الممرات المائية وفرض واقعٍ جديدٍ في البحر الأحمر.

الهجمات الحوثية على السفن خلال عامي 2024 و2025 تسببت في خسائر اقتصادية فادحة وأعادت التوتر إلى واحد من أهم الممرات البحرية في العالم. إذ انخفضت حركة الشحن عبر باب المندب إلى النصف تقريبًا، واضطرت شركات النقل البحري إلى تحويل مسارها نحو رأس الرجاء الصالح، ما رفع تكاليف التأمين والشحن العالمي. ورغم أن الجماعة أعلنت في يناير 2025 أنها “ستقصر عملياتها على السفن الإسرائيلية فقط”، فإن الهجمات استمرت على سفنٍ لا علاقة لها بإسرائيل، ما أثبت أن الهدف الحقيقي هو توسيع نطاق النفوذ الإيراني في المنطقة واستثمار الفوضى لصالح مشروع جيوسياسي يتجاوز حدود اليمن.

حين جاء اتفاق شرم الشيخ ليعلن وقف الحرب في غزة وبدء إعادة الإعمار، وجد الحوثيون أنفسهم أمام مأزقٍ خطير. فـ“الذريعة الأخلاقية” التي استخدموها لتبرير عسكرة البحر الأحمر بدأت تتآكل. لم يعد من الممكن تبرير استمرار الهجمات بعد وقف الحرب، ولم يعد الادعاء بحماية الفلسطينيين يجد صدىً في الشارع العربي. ومع أن الجماعة حاولت التملّص بالقول إن الاتفاق “لا يمثل الشعب الفلسطيني”، فإنها تدرك أن الملف الغزّي كان يمنحها شرعية رمزية أمام الرأي العام العربي والإسلامي، وأن زوال هذه الذريعة يعني فقدان غطاءٍ سياسي ودعائي مهم كانت تستثمره في تبرير نفوذها العسكري والاقتصادي في الساحل الغربي اليمني.

رغم ذلك، لم تُبدِ الجماعة أي استعداد للتراجع الفوري. بل أصدرت بيانًا أكدت فيه أنها “ستواصل مراقبة السلوك الإسرائيلي” وأنها تحتفظ بحقها في “الردّ على أي خرقٍ للاتفاق”. بمعنى آخر، تركت لنفسها بابًا مفتوحًا لاستمرار التصعيد متى شاءت. فالحوثيون لا يتعاملون مع البحر الأحمر كجغرافيا يمنية خالصة، بل كمنصة نفوذٍ إيرانية في قلب المنطقة العربية. ووجودهم العسكري في الحديدة والمخا يجعلهم قادرين على تهديد الملاحة في لحظة واحدة، سواء تحت شعار “نصرة غزة” أو “الدفاع عن السيادة اليمنية”.

لكن حسابات الواقع تختلف عن الشعارات. فمع توقيع الاتفاق، بدأت ضغوط دولية متزايدة على الجماعة، ليس فقط من الولايات المتحدة، بل من دولٍ عربية كانت تتعامل بحذرٍ معها مثل سلطنة عمان وقطر، حيث أكدت هذه الدول أن استمرار التهديدات للملاحة يضر بالمصالح الاقتصادية الإقليمية. كما أرسلت مصر إشارات واضحة بأن تأمين باب المندب أصبح أولوية أمن قومي، وأن أي تهديدٍ للمضيق سيُقابل بردٍّ حازم. هذا الموقف المصري الجديد يعيد إلى الأذهان الدور التاريخي الذي لعبته القاهرة في حماية الممرات البحرية منذ السبعينيات، ويؤكد أن اتفاق شرم الشيخ لم يكن سياسيًا فقط، بل أيضًا اقتصاديًا وأمنيًا بامتياز.

الولايات المتحدة من جانبها بدأت تفعيل مبادرة جديدة تحت مظلة “التحالف الدولي لحماية الملاحة في البحر الأحمر”، الذي يضم أكثر من عشرين دولة، معظمها من حلف الناتو ودول الخليج، بهدف حماية السفن التجارية. ورغم أن الحوثيين يزعمون أنهم “ينتصرون لغزة”، فإنّ الاتفاق وضعهم في زاويةٍ حرجة: فاستمرارهم في التصعيد بعد وقف الحرب سيجعلهم يظهرون كقوة خارجة عن الإجماع العربي والدولي، ويمنح واشنطن وحلفاءها مبررًا لمواصلة الضربات الجوية التي استهدفت مواقعهم على الساحل الغربي في مطلع العام.

تاريخيًا، استخدمت الجماعة الشعارات الدينية لتغطية مشاريع سياسية ذات طبيعة سلطوية. فحين ترفع شعار “الموت لأمريكا وإسرائيل”، فإنها لا تواجه أيًّا منهما فعليًا، بل توجّه سلاحها إلى الداخل اليمني. لكن حرب غزة أعطتها نافذة للتنفس، وأتاحت لها فرصة لتقديم نفسها كمكوّن “عابر للحدود” في محور المقاومة. ومع إغلاق تلك النافذة عبر اتفاق شرم الشيخ، يبدو الحوثيون وكأنهم يفقدون أحد أهم أدواتهم الدعائية.

على المستوى الإقليمي، يُتوقع أن يؤدي الاتفاق إلى تقليص التوتر في البحر الأحمر إذا ما التزمت الأطراف ببنوده. فالقاهرة والرياض وأبوظبي تدرك أن أمن المضيق لا يتجزأ، وأن أي اضطراب في الملاحة يعني خسائر فادحة لجميع الدول المطلة عليه. كما أن شركات النقل العالمية لن تعود بسهولة إلى استخدام الممر ما لم تلمس استقرارًا حقيقيًا. لهذا تعمل مصر بالتنسيق مع السعودية على إنشاء مركز إقليمي للمراقبة البحرية في البحر الأحمر، بالتعاون مع دولٍ إفريقية كإريتريا وجيبوتي، لمتابعة أي نشاطٍ مريب في الممرات.

في المقابل، يدرك الحوثيون أن استمرار الهجمات لن يمر دون ثمن. فقد أصبحت مناطق سيطرتهم مهددة بعقوبات اقتصادية جديدة، كما بدأ الضغط الأمريكي الأوروبي يتصاعد لوقف دعم إيران العسكري لهم. وتشير تقديرات مراكز الأبحاث الغربية إلى أن الحوثيين نفذوا خلال الحرب أكثر من 1800 عملية بحرية، استخدموا فيها طائرات مسيّرة وصواريخ كروز وزوارق انتحارية، وأن تكلفة الهجمات بلغت مئات الملايين من الدولارات، معظمها بدعم تقني من طهران. لكن مع بدء تنفيذ اتفاق شرم الشيخ وتراجع التوتر في غزة، بات من الصعب تبرير هذه النفقات الضخمة أمام المجتمع الدولي، وحتى أمام القواعد الشعبية التي بدأت تعاني من تدهور اقتصادي حاد.

ورغم المؤشرات الإيجابية، يبقى المستقبل غامضًا. فالاتفاق، على أهميته، لم يتضمن آليات تنفيذ واضحة ولا جدولًا زمنيًا دقيقًا، كما أنه لم يوقع من الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية مباشرة، ما يجعله عرضة للانهيار في أي لحظة. الحوثيون من جهتهم لن يتخلوا عن الورقة البحرية بسهولة، لأنها تمثل لهم مصدر نفوذٍ لا يعوض. حتى لو خفت وتيرة الهجمات، فإنهم سيحتفظون بقدراتهم اللوجستية والعسكرية في الحديدة والساحل الغربي كورقة تفاوض مستقبلية مع المجتمع الدولي أو مع الحكومة اليمنية.

على الجانب الآخر، ترى بعض الدوائر الغربية أن الهدوء النسبي في البحر الأحمر بعد الاتفاق هو “هدوء ما قبل العاصفة”، فالجماعة لن تتراجع استراتيجيًا عن موقعها إلا إذا تغيرت موازين القوى داخل اليمن نفسه. بمعنى آخر، فإن أمن البحر الأحمر يظل مرهونًا بتطورات الداخل اليمني بقدر ما هو مرتبط بالحرب في غزة.

إذا كان اتفاق شرم الشيخ قد أنهى الحرب في غزة مؤقتًا، فإنه لم ينهِ جذور الأزمة التي غذّت الصراع هناك وفي البحر الأحمر على السواء. فإيران ما تزال تنظر إلى الممرات البحرية كأداة ضغطٍ استراتيجية في مواجهتها مع الغرب، والحوثيون هم امتدادٌ عملي لذلك المشروع. وربما تحاول طهران، في حال استقرار الوضع في غزة، نقل المعركة إلى البحر أو حتى إلى جبهاتٍ أخرى في المنطقة، لتبقى “حالة التوتر” مستمرة دون الوصول إلى مواجهةٍ مباشرة.

في المقابل، هناك فرصة حقيقية لأن يكون اتفاق شرم الشيخ بداية لتوازنٍ جديد في الإقليم إذا استُثمر بشكلٍ ذكي. فالمجتمع الدولي يدرك أن تهدئة البحر الأحمر لا تنفصل عن استقرار اليمن، وأن أي تسوية في غزة يجب أن تمتد إلى البحر لا العكس. ومن هنا يمكن قراءة التحركات السعودية والإماراتية والمصرية المتزامنة لتشكيل “نظام أمن البحر الأحمر” كإطارٍ جماعي لإدارة الممرات الحيوية بعيدًا عن الاستقطاب الإيراني.

في النهاية، يمكن القول إن الحرب في غزة كانت بالنسبة للحوثيين “فرصة سياسية من ذهب” استخدموها لتوسيع نفوذهم خارج الحدود اليمنية. لكن اتفاق شرم الشيخ أغلق تلك النافذة مؤقتًا، وأعاد الجماعة إلى حجمها الحقيقي داخل المشهد اليمني. ومع تراجع مبررات التصعيد، فإن عسكرة باب المندب لم تعد تجد الغطاء السياسي والدعائي الذي كانت تتمتع به. ومع ذلك، فإن الذريعة لم تمت بالكامل، بل تحوّلت إلى ورقة ضغطٍ مؤجلة قد تُستخدم متى ما احتاجت طهران أو الحوثيون إلى إعادة إشعال التوتر.

وهكذا، يمكن اختصار المشهد في جملة واحدة: اتفاق شرم الشيخ أوقف الحرب في غزة، لكنه لم يوقف معركة البحر الأحمر. فالسلام على اليابسة لا يكتمل ما لم يُفرض الأمن في الماء، والحوثيون الذين رفعوا شعار “الموت لإسرائيل” ما زالوا يمسكون بخنجرٍ موجه إلى عنق التجارة العالمية. فإذا ما التزمت الأطراف الدولية بتطبيق الاتفاق وبناء منظومة أمنٍ جماعي للبحر الأحمر، فربما يشهد الإقليم تحولًا حقيقيًا نحو الاستقرار. أما إذا ظل البحر مفتوحًا للابتزاز المسلح، فإن شرم الشيخ ستبقى مجرد قاعةٍ للصور التذكارية، فيما تستمر الأمواج في حمل نيران الحرب إلى كل سواحل المنطقة.

إيران في لحظة الانكشاف.. نظام الملالي بين الانفجار الداخلي والهزيمة الإقليمية


رياض ياسين لـ«اليوم الثامن»: افتتحتُ وزارة الخارجية في عدن بلا حراسة.. كانت رسالة للعالم أن الدولة لم تسقط


حين يشبه المتوسط خليج عدن.. "مرسليا وعدن" حكاية مدينتين تصنعان الضوء والملح والتاريخ


ترمب في كوريا الجنوبية.. عودة الرجل المثير للصفقات إلى مسرح آسيا