الأدب والفن
الزخارف والنقوش اليافعية..
الفن الشعبي في عمارة يافع.. مقاومة النسيان بالحجر والزخرفة
مواطنان ينظران من نافذة أحدى المباني اليافعية - تصوير د. علي صالح الخلاقي
في قمم الجبال الجنوبية، حيث تتكئ الحصون الحجرية على سفوحٍ تُعانق الغيم، يحتفظ المعمار اليافعي بذاكرة جمالٍ فريدة. ليست مجرد بيوت من حجارةٍ صلبة، بل لوحاتٌ فنية محفورة على الصخر، تشهد على ذائقةٍ جماليةٍ ضاربةٍ في العمق، صاغها الإنسان اليافعي بفطرته المبدعة وحسّه الرفيع تجاه التناسق والرمز والهوية.
في يافع، لا يمكن فصل الحجارة عن الروح، ولا العمارة عن الشعر، ولا النقوش عن القيم. فكل تفصيلة في البيت اليافعي، من الأساس حتى "التشريفة"، تحكي حكاية علاقةٍ حميمة بين الإنسان والأرض، بين الجبل والفن، بين الوظيفة والجمال.
العمارة كهوية
البيوت اليافعية لا تُبنى كيفما اتفق، بل تُشكّل وفق معايير دقيقة في التوازن الهندسي والتناسب بين الكتلة والفراغ. ولأن البيئة الجبلية قاسية، فقد طوّعها الإنسان اليافعي ليجعل منها مصدر إلهام جمالي؛ فالحجر الصلب لم يعد عائقًا بل أداة تشكيل. ومن هنا، ولدت الزخارف والنقوش التي تكسو الواجهات الخارجية للمنازل والحصون، لتتحول هذه الأبنية من مأوى وظيفي إلى تحفة فنية نابضة بالحياة.
يقول الباحث في التراث المعماري الدكتور علي صالح الخلاقي في حديثه لـ"اليوم الثامن": “الزخارف اليافعية ليست مجرد زينة سطحية، بل هي لغة بصرية تعبّر عن روح المكان. كل نقشٍ وحجرٍ فيها يحمل دلالة على التوازن بين القوة والذوق، الصلابة والانسجام.”
هندسة الجمال بالحجر والمرو
تبدو الزخارف الخارجية للبيوت القديمة كأنها رقصة هندسية على جدار الزمن. فالمقرنصات المثلثة، والدوائر والمعينات والنجيمات السداسية والمربعات المتقاطعة، تشكل جميعها لوحة متناسقة تُدهش من يراها.
يقول أحد البنّائين القدامى في منطقة لبعوس إنهم “كانوا يتعاملون مع الحجارة كما يتعامل الرسام مع الألوان”، فاختلاف ألوان الصخور، وتدرجها بين الرمادي والأسود والأبيض، كان وسيلة لتوليد تباين بصري يعزز الجمال لا العشوائية.
وتبرز أحجار المرو الأبيض كأشهر عناصر الزخرفة في الواجهات اليافعية. فبصلابتها ولمعانها الأبيض الصافي كانت تُستخدم في تزيين العقود والنوافذ وحواف الأبواب. ويُحكى أن البنّاء اليافعي كان يختارها من مواقع محددة في الجبال، ويدقّها بعناية لتتلاءم مع شكل النقش أو المقرنص.
"العلسة" وشريط الحياة
من بين أكثر الزخارف تميّزًا ما يعرف محليًا باسم "العلسة"، وهو شريط أفقي من المسننات البارزة يُشبه في شكله الحشرة المعروفة بـ"أم أربعة وأربعين". يمتد هذا الشريط على امتداد الواجهة، كأنه شريان حياةٍ يربط بين طبقات المبنى.
يقول أحد أهالي منطقة الموسطة: “لا يخلو بيت يافعي أصيل من العلسة، فهي علامة الجمال وتمام البناء، كأنها توقيع البنّاء على عمله”.
تُشكّل هذه الزخارف عادةً من حجارة صغيرة مختلفة اللون عن حجارة البناء الأساسية، مما يضفي عليها وضوحًا وتباينًا بصريًا، وتُبرز المهارة الفائقة التي تميز الحرفي اليافعي.
الزخارف الخشبية: الأبواب والنوافذ
لا تقتصر الزخارف على الحجر فقط، فالأبواب الخشبية بدورها تُعد لوحات فنية بحد ذاتها. تُصنع من خشب السدر (العلب) الذي يتميز بالصلابة وطول العمر، وتُحفر عليه نقوش هندسية وزخارف نباتية وكتابات دعائية أو حكم أو تاريخ البناء أو اسم صاحبه أو اسم الصانع.
هذا التوثيق بالنقش جعل من الأبواب سجلاً تاريخيًا للمنازل. وقد وجدت في بعض القرى أبوابٌ يتجاوز عمرها المئتي عام، لا تزال محافظة على تفاصيلها رغم قسوة المناخ والزمان.
الحزام الأبيض (صفة النورة)
من أبرز ما يميز الواجهات اليافعية ما يعرف بـ"صفة النورة" – وهو حزام أبيض لامع يلتف حول المبنى، يفصل بين الطوابق في مشهد بصري أنيق. هذا الحزام يُصنع تقليديًا من النورة (الجير المطفأ)، وكان يُعتبر لمسة الإكمال الأخيرة للمبنى.
لكن في بعض مناطق القارة وعَبَر، حيث يغلب اللون الترابي على حجارة البناء، اختار البناؤون استخدام حجارة سوداء بدلاً من النورة لإبراز التباين. والنتيجة: واجهات مبهرة يتدرج فيها اللون بين الفاتح والداكن، في انسجام يثير الإعجاب.
في العصر الحديث، استُبدلت النورة بطلاءات بيضاء تعتمد على الأسمنت، لكنها – رغم لمعانها – تفتقد لروح المادة الطبيعية القديمة، وتبدو أقل دفئًا من مظهرها الأصلي.
القمريات والعقود النصف دائرية
تعلو نوافذ البيوت القديمة عقود حجرية نصف دائرية تُعرف باسم القمريات. كانت هذه القمريات غير نافذة، أي لا تفتح إلى الداخل، لأن المناخ البارد في يافع لا يتطلب ذلك. وظيفتها جمالية خالصة، إذ كانت تُرصّع بالحجارة الرفيعة والمرو الأبيض، لتضفي على الواجهة إشراقًا وبهاءً.
اليوم، استُبدلت القمريات الأصيلة بقمريات من الجبس أو الألمنيوم، وهو ما يراه الباحثون “تغريبًا للذائقة البصرية المحلية” وتراجعًا عن الأصالة التي ميّزت المعمار اليافعي لقرون.
“التشريفة”.. تاج الحصن اليافعي
حين يكتمل بناء البيت، يضع البنّاء اليافعي لمساته الأخيرة على السطح فيما يُعرف بـ"التشاريف" أو "التشريفة" – وهي أشكال هرمية متدرجة تُوضع في زوايا الأركان الأربعة وتنتهي بقطعة مثلثة تُعرف بـ"الخُوذي".
تُطلى هذه الأجزاء باللون الأبيض، فتبدو كتيجان مرصعة تُعلن عن اكتمال البناء. وفي نظر الأهالي، التشريفة ليست مجرد عنصر جمالي، بل رمز للفخر والمكانة الاجتماعية. يقول أحد شيوخ المنطقة: “حين ترتفع التشريفة على البيت، يعرف الجميع أن صاحبه أكمل بناءه وأنه دخل مرحلة الاستقرار. إنها إعلان صامت عن العزّة والكرامة.”
بين الأصالة والحداثة
ورغم كل هذا الإرث البصري المدهش، تواجه العمارة اليافعية اليوم خطر التراجع أمام الموجة الحديثة للبناء بالإسمنت المسلح، التي طمست كثيرًا من الملامح الأصيلة. يقول الدكتور الخلاقي: “أكبر خطأ ارتُكب في العقود الأخيرة هو تقليد النماذج الحضرية البعيدة عن البيئة المحلية. فبمجرد أن استبدل الناس القمرية الحجرية بالألمنيوم، والنورة بالدهانات الصناعية، بدأنا نخسر هويتنا المعمارية.”
ويضيف: “علينا أن نعيد الاعتبار للحجر الطبيعي وللفن اليافعي الأصيل، فالمواد الحديثة يمكن توظيفها لتطوير العمارة، لكن دون أن تقتل روحها.”
رؤية لإحياء التراث
تتزايد اليوم دعوات المهندسين والباحثين في التراث المعماري إلى إحياء الطراز اليافعي الأصيل في مشاريع البناء الجديدة. فبفضل الأدوات الحديثة لتقطيع الحجر وتشكيله، يمكن تنفيذ نفس الزخارف القديمة بسهولة أكبر ودقة أعلى.
ويرى معماريون أن “العودة إلى الزخارف الأصلية ليست حنينًا للماضي، بل استثمار في هوية المكان”، مؤكدين أن “البيوت اليافعية القديمة هي مدارس في التوازن البصري والمقاومة البيئية”.
كما تقترح بعض المبادرات المحلية إدراج نماذج من العمارة اليافعية ضمن برامج السياحة الثقافية والتوثيق الرقمي، لتكون مرجعًا للأجيال الجديدة في فهم جماليات البناء اليمني الأصيل.
المعمار اليافعي.. سيرة الجمال والكرامة
في النهاية، تبقى الزخارف والنقوش الخارجية في العمارة اليافعية أكثر من مجرد تفاصيل جمالية؛ إنها تجسيد لهويةٍ ضاربةٍ في عمق الجبل والوجدان.
فيها يُقرأ وعي الإنسان اليافعي بالجمال، وقدرته على تحويل الصخر إلى فن، والحجر إلى ذاكرة، والبيت إلى قصيدةٍ معلقةٍ على جدار الزمن.
وربما لا يحتاج الزائر إلى أن يعرف أسماء الحجارة أو رموز النقوش، يكفي أن يقف أمام بيتٍ يافعيٍ شامخ، ليدرك أن الفن الحقيقي لا يُورّث بالكلام، بل يُحفر في الحجارة، كما حفرت يافع جمالها في ذاكرة اليمن.