تطورات اقليمية
"صلابة الموقف"..
استراتيجية الساحل الغربي.. كيف يعيد طارق صالح صياغة معادلة القوة في اليمن؟
الفريق أول طارق محمد عبدالله صالح - نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي- أرشيف
تبدو تحركات الفريق أول طارق محمد عبدالله صالح - نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي- خلال أكتوبر 2025م أشبه بخطة ميدانية ودبلوماسية متكاملة تعيد تعريف موقع “المقاومة الوطنية” في معادلة الحرب والسلام داخل اليمن. فالرجل الذي يقف على رأس قوات مدربة ومجهزة في الساحل الغربي، يطلّ هذه المرة بخطاب أكثر حزمًا ووضوحًا: لا سلام مع الحوثيين إلا بقوة قادرة على اقتلاعهم.
في هذا الشهر بالتحديد، تكثفت زياراته العسكرية وتصريحاته السياسية، لتكشف عن انتقالٍ مدروس من مرحلة “التموضع الدفاعي” إلى “التحضير الهجومي” في مسرح البحر الأحمر، مع اهتمامٍ متزايد بجبهة الحرب الإعلامية والذهنية التي تُدار عبر التكنولوجيا الحديثة.
صلابة الموقف: لا سلام بلا قوة
في 23 أكتوبر، أطلق طارق صالح تصريحًا لافتًا خلال اختتام دورة تدريبية لمقاتلي المقاومة الوطنية في الساحل الغربي، قال فيه إن الحوثيين “لا يؤمنون بلغة الحوار” وإن “السلام لن يتحقق إلا بقوة قادرة على اقتلاع الفئة الباغية”. هذه العبارة لم تكن مجرد شعار تعبوي، بل تعبير عن قناعة ترسخت لدى أحد أبرز قادة الصف الأول في مجلس القيادة الرئاسي، بأن مسار التفاوض فشل في إحداث اختراق حقيقي، وأن أي هدنة أو تسوية يجب أن تُبنى على توازن ردعٍ ميداني لا على وعود سياسية.
تصريح العميد طارق جاء بعد سلسلة من الاجتماعات العسكرية والزيارات الميدانية التي أجراها لوحدات الساحل الغربي، حيث شدد على أهمية تطوير القدرات القتالية والبحرية لقواته. وقد ربط بين إعادة هيكلة القوات وبين الاستعداد لمرحلة جديدة من المواجهة، ما يوحي بأنه يقرأ الواقع اليمني في ضوء التحولات الإقليمية الجارية — من اتفاق شرم الشيخ بشأن غزة، إلى التحركات الدولية في البحر الأحمر.
البحر الأحمر ساحة الاختبار
لم يكن من المصادفة أن يربط طارق صالح بين بناء القوة العسكرية وموقعها الجغرافي في الساحل الغربي. فالممرات البحرية الحيوية، من المخا إلى باب المندب، أصبحت محور اهتمام دولي بعد تصاعد الهجمات الحوثية على السفن. وفي هذا السياق، بدت المقاومة الوطنية بقيادته القوة الأكثر تنظيمًا وانضباطًا على الشريط الساحلي.
خلال الشهر ذاته، أشار طارق إلى أن قواته تمكنت من إحباط عدة محاولات تهريب أسلحة إيرانية عبر البحر، مؤكدًا أن “المعركة اليوم ليست فقط في الجبال، بل في البحر الذي تحاول إيران تحويله إلى ساحة نفوذ”. هذا التصريح يعكس إدراكًا استراتيجيًا متقدمًا لطبيعة الصراع الراهن، حيث تتحول السيطرة على الموانئ وخطوط الملاحة إلى رافعة سياسية كبرى في ميزان القوى داخل اليمن والمنطقة.
تطوير “قوة بحرية برية” كما يسميها طارق صالح يشير إلى رؤية متكاملة لتأمين الساحل الغربي وربطه بمشروع وطني أوسع لإعادة بناء الدولة اليمنية من الجنوب الغربي صعودًا نحو الشمال. وهذه الرؤية ليست بعيدة عن حسابات الإمارات والسعودية اللتين تدعمان الاستقرار في البحر الأحمر وتريان في طارق شخصية عسكرية قادرة على فرض الانضباط في واحدة من أكثر المناطق حساسية واستراتيجية.
الأمن والوعي.. معركة ما بعد الميدان
إلى جانب خطابه العسكري، أطلق طارق تحذيراتٍ سياسية من نوعٍ جديد حين تحدث عن “محاولات استغلال أدوات الذكاء الاصطناعي لنشر الأكاذيب التي تخدم الحوثيين”. كانت تلك إشارة استثنائية من قائد ميداني إلى نوعٍ آخر من المعارك: معركة الوعي والمعلومات. فالحوثيون، الذين أتقنوا الحرب النفسية والتضليل الإعلامي، باتوا يستخدمون التكنولوجيا لتزييف الصور والفيديوهات وتوجيه الرأي العام، وهو ما دفع طارق إلى إطلاق حملة داخلية لمواجهة ما وصفه بـ“حرب الشائعات المنظمة”.
هذه الخطوة أكسبته بُعدًا مختلفًا، إذ ظهر كقائد يدرك أن المعركة الحديثة لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بالمعرفة والسيطرة على المعلومة. فهي المرة الأولى التي يُحذر فيها مسؤول عسكري يمني من “الحرب الرقمية” بوصفها سلاحًا حوثيًا موازٍ للمدفعية والطائرات المسيّرة.
رفض التفرقة وبناء الجبهة الوطنية
في خطاباته المتعددة هذا الشهر، حرص طارق صالح على إرسال رسائل داخلية واضحة، أبرزها رفضه لأيّ دعوات تفرقة مناطقية أو سياسية تهدد وحدة الصف الجمهوري. دعا إلى تجاوز الأحقاد القديمة وبناء مشروع وطني شامل يضمّ كل القوى المناهضة للحوثيين تحت مظلة الدولة. وقال نصًا إن “العدو واحد، وأي خلافات جانبية تخدمه وحده”.
هذا الخطاب التصالحي يعبّر عن نضجٍ سياسي في رؤية طارق، الذي يبدو أنه يسعى لتوسيع نفوذه من الساحة العسكرية إلى الفضاء السياسي، عبر تقديم نفسه كقائد وطني يتجاوز الاصطفافات الضيقة. كما ينسجم هذا التوجه مع محاولات مجلس القيادة الرئاسي تخفيف التوتر بين مكوّناته، في ظل أزماتٍ اقتصادية وأمنية متفاقمة في الجنوب والغرب.
قراءة في السياق الإقليمي
تزامنت تصريحات طارق صالح وتحركاته مع تصاعد النقاش الدولي حول أمن البحر الأحمر بعد اتفاق شرم الشيخ المتعلق بالحرب في غزة. فبينما انشغل العالم بمخاطر التوسع الإيراني عبر الحوثيين، أراد طارق أن يؤكد أن اليمن لن يكون منصة تهديدٍ للملاحة الدولية، بل قاعدة حماية.
كما أن تحركاته تنسجم مع التحولات داخل المعسكر العربي، حيث تحاول الإمارات ومصر إعادة رسم التوازن في البحر الأحمر من خلال دعم القوى الوطنية اليمنية التي تتبنى موقفًا معاديًا للحوثي والإرهاب. وفي هذا الإطار، تظهر قوات طارق كجزء من منظومة الأمن البحري العربي، وليس مجرد تشكيل محلي.
هذا الربط بين المحلي والإقليمي يُبرز الطابع البراغماتي في تفكير طارق: فهو يدرك أن كسب المعركة ضد الحوثيين يتطلب تموضعًا ذكيًا في خارطة التحالفات، وأن شرعيته الميدانية يمكن أن تتحول إلى ورقة تفاوض دولية إذا ما استمر في تقديم نفسه كقائد مسؤول وفعّال.
مزيج القوة والانضباط
من الناحية الميدانية، تشير تقارير إلى أن قوات المقاومة الوطنية رفعت جاهزيتها خلال أكتوبر بنسبة ملحوظة، مع بدء تدريبات متقدمة على التكتيكات البحرية والدفاع الساحلي، إضافة إلى تعزيز قدرات الاستطلاع الجوي عبر طائرات بدون طيار محلية الصنع.
تلك الإجراءات لا تنفصل عن التصريحات السياسية؛ فالقائد الذي يقول “لا سلام إلا بقوة” يترجم خطابه إلى فعلٍ ميداني. ومع ذلك، لا يبدو طارق في وارد إشعال معركة شاملة قريبًا، بل في مرحلة “التحضير الذكي” وإعادة التموضع العسكري والسياسي تمهيدًا لأي استحقاقات مقبلة.
بين صورة القائد وملامح الدولة
اللافت أن طارق صالح، الذي ورث إرثًا سياسيًا وعسكريًا معقدًا كونه نجل شقيق الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، بات اليوم أكثر قدرة على تفكيك الصورة النمطية عنه. فبدل أن يُنظر إليه كامتدادٍ للنظام السابق، أصبح يُقدّم نفسه كقائد واقعي يسعى لإعادة بناء المؤسسات المدمّرة، ويربط شرعية سلاحه بشرعية الدولة لا بالقبيلة أو المنطقة.
وفي هذا السياق، فإن حديثه عن تطوير “إدارة بحرية ومعلوماتية” لقواته لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يعكس ميلًا نحو “عقلنة القوة” وتحويلها إلى مؤسسة منضبطة يمكن إدماجها مستقبلًا في جيش وطني موحّد.
معركة الرمزية السياسية
خطاب طارق في أكتوبر حمل أيضًا رمزية سياسية عالية. فحين يقول إن “العدو لا يعرف إلا لغة القوة”، فهو لا يخاطب الحوثيين فقط، بل يوجّه رسائل إلى الداخل اليمني والخارج الإقليمي بأن زمن المساومات الطويلة انتهى، وأن أي تسوية مقبلة يجب أن تأخذ في الحسبان قوة المقاومة الوطنية كطرف رئيسي.
بذلك يكون طارق صالح قد تجاوز دور “الضابط الميداني” ليقترب أكثر من موقع “الفاعل السياسي”، وربما يمهد لمرحلة يكون فيها لاعبًا محوريًا في أي معادلة جديدة للسلطة. فبينما يتراجع أداء بعض المكونات داخل المجلس الرئاسي، يملأ هو الفراغ بخطابٍ وطني منظم وصورة قيادية تتغذى على الانضباط والاحتراف.
خلاصة التحول
ما بين خطاب القوة، والتحذير من التفرقة، والتوجه نحو التكنولوجيا والبحر، يبدو أن أكتوبر 2025 كان شهر التأسيس الحقيقي لمشروع طارق صالح كقائد دولة لا مجرد قائد لواء. فهو يتحدث بلسان الوطن، ويتصرف بعقل التحالف، ويتحرك بمنهجٍ عسكري مدروس، جامعًا بين الصلابة والانفتاح.
وفي بلدٍ تآكلت فيه صورة الدولة، يمثل هذا النمط من القيادة العسكرية المنضبطة بارقة أمل لليمنيين الذين يبحثون عن رمزٍ وطني قادر على توحيد صفوفهم وإنهاء فوضى الميليشيات. لكن الرهان يبقى صعبًا، فالقوة وحدها لا تكفي من دون مشروعٍ سياسي جامع. وطالما ظل اليمن في دوامة الانقسام، سيبقى على طارق صالح أن يوازن بين صرامة الجبهة العسكرية ومرونة المبادرة السياسية – لأن معركة اليمن الحقيقية تبدأ من كسب العقول قبل السلاح.