تطورات اقليمية
"حين تُدار الأزمة ويُقصى الفاعلون على الأرض"..
تفكيك خطاب الصحافة السعودية حول الأزمة اليمنية – الجنوبية بين الاستقرار المؤجل والحل الغائب (وجهة نظر)
اليمن بين خطاب الاستقرار وأسئلة العدالة السياسية
طالعتنا صحيفة اندبندنت عربية (المملوكة للحكومة السعودية)، بمقالة لرئيس تحريرها الصحافي السعودي عضوان الأحمري، وهي مقالة لا تثير الجدل بسبب مضمونها السياسي فحسب، بل لأنها تعكس نمطًا متكررًا في الخطاب الصحافي السعودي تجاه الأزمة اليمنية؛ خطابًا يركّز على إدارة الأزمة أكثر مما يبحث عن حلٍّ حقيقي لها.
ما يهمني هنا ليس الرد على المقالة بقدر ما هو تفكيك هذا الخطاب، ومحاولة البحث عمّا إذا كانت هناك رؤية سعودية واضحة لحل الأزمة اليمنية - الجنوبية، أو على الأقل مقاربة قادرة على إنتاج حدٍّ أدنى من الأمن والاستقرار، بدل الاكتفاء بإعادة تدوير الاتهامات وتوزيع المسؤوليات.
قدّمت الصحيفة السعودية رؤية صحافية تعكس إشكالية أعمق من مجرد موقف نقدي من المجلس الانتقالي الجنوبي، إذ كشفت عن مأزق حقيقي في مقاربة الأزمة اليمنية–الجنوبية: كيف تُدار الأزمة دون أفق واضح لحلها؟
ومن هذا المنطلق، لا أسعى هنا إلى سجال إعلامي، بل إلى تفكيك الخطاب السائد، والبحث عن رؤية سعودية قادرة على الانتقال من مرحلة ضبط المشهد إلى مرحلة معالجته.
لخّصت الصحيفة ما سمّته بـ«المشهد الحالي» بالقول إن «الحوثي يتقدم والقوات اليمنية تتراجع، ليس دهاءً من الحوثيين، بل نتيجة لتشتت الأحزاب اليمنية وظهور تشكيلات سياسية وعسكرية حاولت فرض أمر واقع منذ عام 2017».
وبهذه الخلاصة، يرمي عضوان الأحمري مسؤولية فشل الرياض وحلفائها المحليين في مأرب والجوف وكتاف وميدي وتعز على عاتق المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي لم يُؤسَّس إلا في منتصف عام 2017م، وهي – برأيي – المرة الأولى التي أقرأ فيها مقالة تدافع، بشكل غير مباشر، عن انتكاسات جماعة الإخوان المسلمين في مأرب، بوصفهم “حلفاء الرياض المفترضين مؤقتًا”.
قدّم الأحمري، في نحو (500) كلمة، خطابًا تعبويًا يحمل موقفًا سعوديًا تحريضيًا ضد المجلس الانتقالي الجنوبي، في محاولة لنزع الشرعية السياسية والأخلاقية والوطنية عنه، مقابل تقديم براءة ضمنية لقوى محلية سلّمت ميدي والجوف ونهم وقانية وحريب دون قتال.
لست بصدد تقييم القدرات التي يمتلكها عضوان الأحمري في كتابة مقالة “مقنعة”، ولا الدخول في مستوى من الإسفاف أو التحريض، وكأن الناس في اليمن والجنوب والسعودية ينتظرون من مقالة عاطفية أن تحمل الجنوب مسؤولية الانهيار اليمني، أو أن تضع المملكة العربية السعودية – الشقيقة – في زاوية عدم الحياد تجاه الأزمة اليمنية–الجنوبية.
لم يخرج عضوان الأحمري عن موجّهات إعلامية سعودية يُعاد إنتاجها بأشكال مختلفة، خلاصتها: «الجنوب عامل فوضى وتمرد، وهو سبب مباشر وغير مباشر في تمدد الحوثي».
ويذهب الكاتب إلى الدفاع عن رحلات السفير محمد آل جابر إلى صنعاء ثلاث مرات متتالية، إحداها معلنة، معتبرًا أن هذه الزيارات ليست تعبيرًا عن دهاء الحوثيين، بل نتيجة لتشتت الأحزاب اليمنية وظهور تشكيلات منذ عام 2017، أي منذ تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي.. وهذه مغالطة فجة.
فقبل تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي بعام وشهرين، كانت إدارة الملف اليمني، بقيادة السفير محمد آل جابر، قد قدّمت مشروعًا وُصفت بأنه “مخيف للحوثيين”، وفرضته على الرئيس عبدربه منصور هادي بالضغوط، بل وجرى اتهامه بعرقلة تحرير صنعاء حتى يظل في السلطة، قبل أن يقول لهم هادي: تفضلوا، هذا قرار تعيين الجنرال علي محسن الأحمر.
هذا المشروع، الذي يُفترض أنه كان هدفه تفكيك طوق صنعاء قبلياً، أدرك اليمنيون نهايته مبكراً، فـ"النائب الجديد"، كان ليلة 21 سبتمبر 2014م يتسلل خفية من مكتبه في الفرقة الأولى مدرع إلى مقر السفارة السعودية، طالبًا الأمان لدى السفير محمد آل جابر، الذي نقله إلى السعودية مستعينًا بطيار اشترط ان يكون جنوبياً من قاعدة العند، لأنه – كما قيل – لم يثق في اليمنيين الذين أعلنوا الولاء للحوثيين.
وحتى لا يبدو الاستغراب موجّهًا نحو صحافيين شباب لم يكتسبوا الخبرة بعد، فإن الوقائع تشير إلى أن الحوثيين تمددوا أساسًا بعد انقلاب 2011 الذي قادته جماعة الإخوان المسلمين على النظام اليمني، وهو انقلاب لم يكتمل ولم يحظَ بقبول إقليمي ودولي، ومع غياب هذا القبول جرى تسليم البلد للحوثي، الذي أحكم سيطرته على عمران ثم صنعاء في عام 2014م.
سقطت صنعاء في ظل دولة مركزية قائمة، وجيش لم يكن قد تفكك بعد، وكانت الفرقة الأولى مدرع – أكبر تشكيل عسكري – لا تزال قائمة، وقائدها يرابط في مكتبه. كما أن نحو أربعين ألف مقاتل من جماعة الإخوان المسلمين، بقيادة حسين عبدالله الأحمر، تلقوا توجيهات من التنظيم الدولي بوقف القتال وتسليم البلاد للحوثيين، بذريعة أن الرياض وضعتهم على قوائم الإرهاب.
حاولت الصحيفة السعودية، عبر رئيس تحريرها، إعادة كتابة التاريخ لخدمة استنتاج سياسي مسبق، وصوّرت ما يجري في حضرموت على أنه «اجتياح انتقالي»، متجاهلة أن الإرهاب هناك لم يستهدف الجنوبيين فقط، بل طال حتى السعوديين الذين كانوا ضمن مهام التحالف العربي لتدريب القوات.
كما تحاول الصحافة السعودية تغييب ممثل حضرموت في مجلس القيادة الرئاسي، اللواء فرج سالمين البحسني، الذي قاد إصلاحات أمنية وعسكرية أسهمت في تهدئة المحافظة، في مجلس شُكّل أصلًا برعاية سعودية تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي.
حضرموت لم تشتعل، بل هدأت فيها نيران حاولت بعض القوى الإقليمية إدخالها في دوامة الإرهاب والعنف، بعدما تحولت واديًا وصحراءً إلى بيئة آمنة لنشاط التنظيمات الإرهابية، وهو أمر موثق.
مطالبات أبناء حضرموت بإخراج قوات المنطقة العسكرية الأولى كانت متكررة، وتجلّت في تظاهرات حاشدة خرجت في سيئون، وسبق لمحافظ حضرموت المقال مبخوت بن ماضي أن طالب بإخراج هذه القوات.
فشلت الصحيفة السعودية في تقديم حضرموت كقضية حقيقية، واستخدمتها كأداة خطابية بمغالطات منقوصة. فكيف يمكن لثلاثة من أعضاء مجلس القيادة الرئاسي – من أصل ثمانية – أن يُوصَفوا بالتمرد، وهم الأكثر حرصًا على استقرار الأوضاع، في حين أن رئيس المجلس رشاد العليمي لا يمتلك سلطة على حارس شرطة في مأرب أو تعز، إذا افترضنا أن هذه المناطق تابعة فعلًا للشرعية وليست في قبضة الإخوان المسلمين؟
مجلس القيادة الرئاسي صناعة سعودية بامتياز، وثلاثة إلى أربعة من أعضائه شركاء فيه بالأرض المحررة والقوة العسكرية، بينما لا يمتلك رئيس المجلس أي قطعة جغرافية محررة، إلا إذا سلّمنا بفرضية أن وادي وصحراء حضرموت تدينان له بالولاء، أو يُفترض أن تديَنا له بذلك.. وقد يُفهم من هذا السياق وجود محاولة لتقزيم دور اللواء فرج سالمين البحسني، بوصفه الممثل الحضرمـي في مجلس القيادة الرئاسي، لحساب أدوار أخرى داخل المجلس. كما يمكن قراءة الزيارات المتكررة لرئيس المجلس رشاد العليمي إلى حضرموت ضمن هذا الإطار، باعتبارها تعبيرًا عن مقاربة إقليمية تسعى إلى إعادة توزيع النفوذ السياسي داخل المحافظة، بما يثير تساؤلات مشروعة حول حدود تمثيل حضرموت الفعلي في معادلة القرار.
ولا يمكن فصل هذه القراءة عن حقيقة أن رشاد العليمي ينتمي سياسيًا وجغرافيًا إلى تعز، لا إلى حضرموت، الأمر الذي يجعل من هذا الحراك موضع تساؤل حول ما إذا كانت هناك إرادة لإعادة تعريف الدور الحضرمـي، لا بوصفه شريكًا سياسيًا أصيلًا، بل كملف يُدار من خارج سياقه الاجتماعي والجغرافي الجنوبي.
قد أجد نفسي أحيانًا مدافعًا عن السياسة السعودية في مواجهة السرديات الصحافية المراهِقة؛ فهناك خلاف سياسي، نعم، لكن لا يوجد تمرد مسلح على الدولة.. القوات التي أخرجت المنطقة العسكرية الأولى تحركت بأوامر وزير الدفاع الفريق محسن الداعري.
تشبيه الجنوب بسيناريو السودان تشبيه مضلل؛ فلا توجد قوتان متوازيتان تتقاتلان على السلطة، ولا صراع على العاصمة، ولا انهيار دولة مركزية قائمة. بل على العكس، ما حدث هو تثبيت لمداميك استقرار حقيقي، يمكن – إذا أرادت الرياض – أن يشكّل مرتكزًا لأي مواجهة مع الأذرع الإيرانية. ودون ذلك، فإن استقرار الجنوب يظل إجراءً إنسانيًا وحقوقيًا واقتصاديًا يمس حياة الملايين من الجنوبيين واليمنيين.
محاولة شيطنة القوات المسلحة الجنوبية، التي يقودها ضباط أكفاء، لمصلحة ما يُسمّى بـ«الجيش الإخواني في مأرب»، الذي تهيمن عليه عناصر لا علاقة لها بالمؤسسة العسكرية، قراءة غير مهنية للواقع.
يقع الخطاب الصحافي في ازدواجية واضحة بشأن حق تقرير المصير؛ إذ يرى عضوان الأحمري أن حضرموت يجب أن تقرر مصيرها، لكنه يرفض في الوقت ذاته أن يقرر الجنوب مصيره. وهذه السردية قد تُفهم على أنها ترويج ضمني لفكرة “انفصال حضرموت” بدعم سعودي، بما يحمله ذلك من إيحاءات توسعية، وهو طرح يفتح بابًا خطيرًا للتأويل.
الرسالة السعودية التي يعكسها هذا المقال واضحة: لا حسم في اليمن، ولا خرائط متغيرة، ولا قوى محلية يُسمح لها بالتصرف باستقلالية، والقرار النهائي يجب أن يظل بيد الرياض، وأي فاعل يخرج عن هذا الإطار يُصنَّف خطرًا. وبعبارة أدق، السعودية – وفق هذا الخطاب – تريد يمنًا مُدارًا، لا يمنًا مُعاد تشكيله.
مكمن الضعف الأكبر في المقال أنه يحمّل المجلس الانتقالي الجنوبي مسؤولية الانقسام، لكنه لا يقدّم أي بديل حقيقي؛ فلا إجابة عن كيفية تحرير صنعاء، ولا عن حسم الحرب، ولا عن حل القضية الجنوبية. وهو خطاب لا ينسف جهود المملكة بقدر ما يُظهرها وكأنها بلا رؤية واضحة أو مشروع سياسي متكامل.
وخلاصة القول إن الإعلام السعودي، وفق ما يقدّمه هذا النموذج، لا يدافع عن وحدة اليمن بقدر ما يدافع عن إدارة الأزمة، ولا ينتصر لحضرموت بقدر ما يستخدمها كورقة ضغط، ولا ينتقد المجلس الانتقالي الجنوبي (وحده) بقدر ما يحذّر من أي فاعل محلي مستقل، معيدًا إنتاج سردية: «الاستقرار أولًا… ولو على حساب العدالة السياسية».
رئيس مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات