تطورات اقليمية
عملية إعلامية مضادة لتغطية الخسائر..
تفكيك شبكة تجسس في صنعاء: إنجاز أمني أم تغطية على ضربة استخباراتية؟
صنعاء في مرمى العيون العميقة
أعلنت جماعة الحوثي اليمنية يوم السبت عن إلقاء القبض على شبكة تجسس واسعة، قالت إنها تعمل لصالح أجهزة استخبارات الولايات المتحدة وإسرائيل. وجاء الإعلان عبر بيان لوزارة الداخلية في حكومة الحوثيين غير المعترف بها دوليًا، كاشفًا أن هذه الشبكة مرتبطة بـ"غرفة عمليات مشتركة" بين وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) والموساد الإسرائيلي (بالإضافة إلى المخابرات السعودية). ووصفت الوزارة العملية بأنها "إنجاز أمني نوعي" تحقق بعد عمليات تحرٍ ورصد ومتابعة مكثفة كشفت مخططات العدو وأساليب عمل "العناصر الخائنة".
وفقًا لمعطيات البيان الحوثي، قامت الخلايا التجسسية بعدة أنشطة تستهدف أمن الجماعة والدولة، أبرزها:
جمع معلومات عن قيادات الدولة: رصدت تحركات القيادات المدنية (في حكومة الحوثيين) وقيادات الجيش والأمن، بما في ذلك مواقعهم وأعمالهم.
التجسس على البنية التحتية العسكرية: تتبعت الخلايا منشآت حيوية وحاولت كشف التفاصيل حول البنية العسكرية والأمنية، فضلًا عن مواقع تصنيع الأسلحة ومنصات إطلاق الصواريخ والطائرات المُسيَّرة.
مساعدة ضربات العدو: اتُّهمت الشبكة بأنها تورطت في سفك دماء مدنيين يمنيين عبر مشاركتها في توجيه ضربات شنّها "العدو الأميركي والإسرائيلي" على مساكن وأسواق وأماكن عامة. وقد توعّدت وزارة الداخلية التابعة للحوثيين بنشر اعترافات مصوّرة للمقبوض عليهم، في تأكيد على حجم "الإنجاز" المحقق.
اللافت أن توقيت الإعلان أتى في ظل تصعيد عسكري تشهده جبهات الحوثيين مع أطراف خارجية. وقد سبقه بأيام اغتيال أحد أبرز قيادات الحوثيين: ففي أواخر أغسطس/آب 2025 أعلنت الجماعة مقتل رئيس حكومتها أحمد غالب الرهوي وعدد من الوزراء في قصف جوي إسرائيلي استهدف اجتماعًا للحكومة في صنعاء. ووصفت المصادر الإسرائيلية تلك الضربة بأنها عملية دقيقة استندت إلى معلومات استخباراتية بالغة الدقة، مما يشير إلى اختراق استخباراتي خطير لصفوف الحوثيين. في المقابل، نفت قيادات حوثية في البداية صحة استهداف شخصيات قيادية، لكن تأكيد مقتل الرهوي ووزرائه أظهر مدى نجاح الاختراق الأمني الذي مكّن الأعداء من الوصول إلى قلب الدائرة القيادية.
يرى مراقبون أن إعلان الحوثيين عن تفكيك شبكة التجسس يثير تساؤلات حول دوافعه الحقيقية وتوقيته المتزامن مع تلك الضربات الموجعة. فبعد الخسارة الكبيرة المتمثّلة في استهداف قيادات عليا بضربة استخباراتية دقيقة، تبدو الجماعة حريصة على تحويل الأنظار عن نجاح عدوها في اختراق أمنها. الإعلان عن كشف "جواسيس" داخليين يمكن فهمه كعملية إعلامية مضادة تهدف إلى تغيير سردية الأحداث: فبدلًا من التركيز على قدرة الخصوم الخارجية على الوصول إلى قيادات الحوثيين وضربها بهذه الدقة، يجري تسليط الضوء على يقظة أجهزة أمن الحوثيين ونجاحها في الكشف عن عملاء وخونة. بهذا الأسلوب الإعلامي، تحاول الجماعة امتصاص الصدمة لدى أنصارها وصرف الاهتمام إلى إنجاز أمني داخلي، مما يصوّر الاختراق الأخير وكأنه مجرد نتيجة خيانة داخلية تم إحباطها، وليس خللًا أمنيًا أو قصورًا في التحصينات.
هذا التكتيك الإعلامي يسمح للحوثيين بالتغطية على خسائرهم؛ فبدلًا من ظهورهم بموقف الضحية المخترَقة أمنيًا، يظهرون بموقف المبادر الذي كشف مؤامرة كبرى ضدهم. ومن شأن ذلك رفع معنويات الصف الداخلي للجماعة وتوجيه رسالة بأن أجهزتها يقظة وقادرة على صد الحروب الخفية التي تستهدفها.
يحمل خطاب الحوثيين في هذا الإعلان تبريرًا ضمنيًا للاختراق الاستخباراتي الذي أدى إلى تلك الضربات الموجعة. فعوضًا عن الإقرار باحتمال وجود ثغرات أمنية أو تقصير في حماية قيادات الصف الأول، يُلقى اللوم بالكامل على عنصر "الخيانة الداخلية". يروج البيان لفكرة أن العدو لم ينجح بفضل تفوق تقني أو ضعف في منظومة الحوثيين الأمنية، بل بسبب عملاء من الداخل قدموا له المعلومات. بهذا التبرير، تتنصل الجماعة من مسؤولية الفشل الأمني وتضع المسؤولية على عاتق أفراد متآمرين تم كشفهم والتعامل معهم.
هذه المقاربة ليست جديدة؛ فكثيرًا ما تلجأ الأنظمة والجماعات إلى شماعة العملاء لتفسير الاختراقات الأمنية وتجنب النقد الذاتي. وفي الحالة الحوثية، يوفر التركيز على "الجواسيس" شماعة مثالية تبرر كيفية تمكن الولايات المتحدة وإسرائيل من استهداف قيادات بارزة بدقة عالية. فبدل الاعتراف بأن العدو نجح في اختراق منظومة التأمين أو تتبع الاتصالات مثلًا، يُصور الأمر على أنه حصيلة غدر داخلي تم اجتثاثه. ومن الناحية العملية، هذا يعني ضمنًا أن منظومة الحوثيين الأمنية سليمة ومتيقظة، وأن ما جرى هو استثناء ناتج عن ثغرة إنسانية (خيانة) تم علاجها، لا ثغرة أمنية تقنية أو هيكلية داخل الجماعة.
ينسجم هذا الإعلان مع الخطاب الأيديولوجي الثابت لدى الحوثيين، والقائم على مواجهة "مؤامرة أميركية-إسرائيلية" تستهدف اليمن والمنطقة. التأكيد على كشف شبكة تجسس مرتبطة بواشنطن وتل أبيب يخدم في ترسيخ سردية الصراع الوجودي الذي ترفعه الجماعة؛ حيث تصوّر نفسها رأس حربة في جبهة "الجهاد ضد الأعداء الخارجيين وعملائهم". ووفق هذا المنظور، تصبح أي أحداث داخلية - حتى الاختراقات الأمنية - جزءًا من حرب شاملة تشنها قوى الاستكبار العالمي (بحسب أدبيات الجماعة) على اليمنيين.
لقد سارع بيان الداخلية الحوثية إلى ربط نشاط الشبكة التجسسية بالعدوان الأجنبي؛ مشيرًا إلى أن تلك الخلايا عملت في ظل تصعيد العدوان على اليمن بهدف إيقاف ما تسميه الجماعة "الإسناد لغزة". وهذا الربط يذكّر أن الحوثيين خلال العامين الماضيين خاضوا مواجهة غير مباشرة مع إسرائيل نفسها؛ حيث أطلقوا صواريخ باليستية ومسيّرات باتجاه إسرائيل، واستهدفوا سفنًا تابعة لها أو متجهة إليها في البحر الأحمر دعمًا للفصائل الفلسطينية. وردت إسرائيل بدورها بسلسلة غارات على مواقع في اليمن بينها صنعاء. ضمن هذا السياق الإقليمي المحتدم، يبدو الإعلان عن اختراق استخباراتي أميركي-إسرائيلي في صنعاء بمثابة حلقة أخرى من حلقات المعركة المفتوحة التي يخوضها الحوثيون وحلفاؤهم في "محور المقاومة" ضد إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما.
إلى جانب مخاطبة العدو الخارجي، يحمل الإعلان رسالة ردع موجهة إلى الداخل أيضًا. فالتشديد على أن الجماعة كشفت هذه الشبكة وألقت القبض على أفرادها يؤكد أنها تمسك بزمام الأمور أمنيًا داخل مناطق سيطرتها. الرسالة المباشرة لأنصارها وأعضائها هي أن أي اختراق أو تواطؤ مع العدو ستكون عواقبه وخيمة، وأن يد أجهزة الأمن الحوثية ستطول كل من تسوّل له نفسه التخابر أو الخيانة. إعلان القبض على الجواسيس وتوعد المتورطين بالعقاب العلني (نشر الاعترافات) يهدف إلى ترهيب العناصر المشكوك في ولائها وردعها، وبالتالي تطهير الصفوف الداخلية وتعزيز تماسكها.
كما يخدم هذا التطور في صرف أي شكوك أو بلبلة داخلية قد تكون نشأت عقب اغتيال الرهوي ورفاقه. فبدل أن يتساءل البعض داخل الجماعة عن كيف تسنى للعدو ضرب قياداتنا بهذا العمق؟ تأتيهم الإجابة سريعًا: هناك خونة في الصفوف تم كشفهم والقضاء على خطرهم. وبذلك تُقفل أبواب الجدل الداخلي، بل وربما تنقلب لمصلحة القيادة الحوثية التي تظهر بمظهر الحارس اليقظ الذي يحمي حركته من الاختراق.
الجدير بالذكر أن إعلان تفكيك شبكات تجسس ليس الأول من نوعه في أدبيات الحوثيين. فلقد درجت الجماعة على الكشف عن شبكات وتجريم أفراد بالتجسس لصالح خصومها الخارجيين بين الحين والآخر، مما يرسخ سردية الحرب الاستخباراتية الدائمة. وكان آخر إعلان مماثل في مايو/أيار 2024، حين أكدت الجماعة ضبط شبكة "جواسيس" تعمل لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل أيضًا. تكرار هذه البلاغات يشير إلى استراتيجية مستمرة لدى الحوثيين للاستثمار الإعلامي في ملف "الجواسيس"، سواء كان ذلك مبنيًا على وقائع فعلية أم لأغراض تعبوية داخلية. ففي كل مرة تشتد الضغوط العسكرية أو تقع اختراقات مؤلمة، يُعاد طرح فزاعة العملاء كعوامل تسللت وتسببت بتلك الاختراقات، ثم يجري التأكيد على حسم الموقف معهم لتعزيز الثقة بالمنظومة الأمنية للجماعة.
ولا يفوت المراقب أن مثل هذه الإعلانات تخدم أهدافًا متعددة: فهي من جهة تدين الخصوم الخارجيين بالتدخل في الشأن اليمني عبر التجسس والتخريب، ومن جهة أخرى تبرّئ قيادة الجماعة من أي إهمال أمني، وفي الوقت نفسه تعزّز التعبئة العقائدية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل كمعتدين دائمين.
في المحصلة، يكتسب إعلان الحوثيين عن تفكيك شبكة التجسس الأخيرة أهميته من ظروفه السياقية بقدر ما يكتسبها من مضمونه الأمني. فالتوقيت جاء عقب تلقي الجماعة ضربات قاسية أطاحت برموزها، مما جعل الحاجة ملحّة لتقديم انتصار أمني معنوي يرفع المعنويات ويغيّر العنوان الإعلامي من الاختراق إلى الإنجاز. وبينما لا يمكن الجزم بكل تفاصيل الرواية الحوثية في ظل غياب تعقيب أو تأكيد مستقل من الجهات المتّهمة (الولايات المتحدة وإسرائيل التزمتا الصمت حيال الاتهامات)، يبقى الواضح أن الحرب الاستخباراتية أضحت جزءًا أصيلًا من مشهد الصراع في اليمن. يستخدم الحوثيون هذا المشهد لتأكيد سرديتهم حول المؤامرة الخارجية واستنهاض الدعم الشعبي تحت راية مقاومة العدوان، وفي المقابل تسعى القوى المعادية – بحسب اتهامات الحوثيين – لاختراق الصف لإضعافها من الداخل. هكذا تتداخل الحقائق بالمبالغات في إعلام الحرب؛ وبينما يواصل الحوثيون عرض "إنجازاتهم الأمنية" يواصل خصومهم استهداف قياداتهم اعتمادًا على معلومات دقيقة – في صراع مفتوح تتقاذفه المعلومات والاستخبارات بقدر ما تتقاذفه الصواريخ والطائرات.