تطورات اقليمية
صفقة القرن في أوكرانيا..
الرئيس الأوكراني تحت الضغط: واشنطن تقترح السلام مقابل التنازل
الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في "برج ترمب" بنيويورك
تواجه أوكرانيا ضغوطًا متصاعدة من الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترمب للدخول في تسوية سلمية سريعة مع روسيا، تتضمن تقديم تنازلات إقليمية مقابل ضمانات أمنية. كشفت تقارير فاينانشل تايمز أن مبعوثي ترمب منحوا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مهلة لا تتعدى بضعة أيام للرد على مقترح سلام يشترط قبول كييف بالتنازل عن أراضٍ محتلة لصالح روسيا مقابل وعود أمنية غير محددة. ويأمل ترمب في إنجاز هذا الاتفاق "بحلول عيد الميلاد" قبل نهاية العام، مما أثار مخاوف بشأن مدى تماسك الموقف الغربي الموحد تجاه الحرب في أوكرانيا.
تقضي الخطة الأمريكية المقترحة بأن تقبل أوكرانيا خسارة أجزاء من أراضيها الشرقية المحتلة، مقابل حصولها على ضمانات أمنية من واشنطن لم تُفصَّل بعد. هذه الخطة وُصفت في نسختها الأولية بأنها مائلة لصالح المطالب الروسية؛ فقد تسرّب أنها تضمنت إلزام كييف بالتخلي عن بعض مناطقها لصالح موسكو. وأثار ذلك استياءً في كييف وبين الحلفاء الأوروبيين، مما دفعهم إلى إعادة صياغة الخطة وتقليصها من 28 نقطة إلى 20 نقطة خلال مباحثات جرت في ميامي الأسبوع الماضي. وبحسب مسؤولين أوكرانيين، تضمنت النسخة الأولى "عناصر مناهضة لأوكرانيا" تأثرت برؤى روسية، أما الصيغة المعدلة فأصبحت أكثر قبولًا لأوكرانيا رغم بقاء الخلاف حول قضية الأراضي دون حل.
خلال مكالمة هاتفية استمرت ساعتين يوم السبت الماضي، مارس المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف وصهر ترمب جاريد كوشنر ضغوطًا كبيرة على زيلينسكي للإسراع في اتخاذ قرار بشأن الصفقة المقترحة. ونقل مسؤولون غربيون أن هذه المهلة الزمنية الضيقة وضعت أوكرانيا في موقف حرج. فقد وصف أحدهم وضع كييف بأنها باتت "عالقة بين مطالب بشأن الأراضي لا يمكنها قبولها، وضغوط من جانب أمريكي لا تستطيع رفضها". وبالفعل، أبلغ زيلينسكي قادة أوروبيين بأنه شعر بتعرضه لضغط كبير خلال تلك المكالمة.
أوضح زيلينسكي لمبعوثَي ترمب أنه بحاجة إلى وقت للتشاور مع الحلفاء الأوروبيين قبل تقديم أي رد على العرض الأمريكي. ويخشى الجانب الأوكراني أن يؤدي اندفاع واشنطن منفردة في هذا المسار إلى تصدع وحدة الصف الغربي الداعم لكييف. وفي هذا السياق، التقى زيلينسكي الاثنين في لندن مع قادة كلّ من بريطانيا وفرنسا وألمانيا (الترويكا الأوروبية) لبحث مستجدات مبادرة السلام الأمريكية. وقد شدد المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرتس على حساسية الفترة الراهنة، مؤكدًا أن القادة اجتمعوا لمناقشة "الأيام المقبلة لأنها قد تكون فترة حاسمة بالنسبة لنا جميعًا".
ضمن هذه المشاورات، أعرب زيلينسكي عن قلقه من أن يتخلى الاتحاد الأوروبي عن خطة قرض التعويضات لأوكرانيا – وهي خطة لتمويل دعم كييف عبر أصول البنك المركزي الروسي المجمدة – خشية إثارة غضب واشنطن وخسارة دعمها الأمني والدفاعي لأوروبا. ويشير هذا التخوف إلى تباين محتمل في الأولويات بين الضفتين الأمريكية والأوروبية؛ ففي حين تضغط واشنطن لتسوية سريعة، يتوجس الأوروبيون من أي اتفاق لا يراعي بشكل كافٍ وجهة نظرهم أو قد يؤثر سلبًا على مصالحهم بعيدة المدى.
من جانب آخر، طمأن زيلينسكي قادة أوروبا أنه لن يوافق على حلول تمس سيادة أوكرانيا دون التنسيق المسبق معهم. ونُقل عنه قوله بصراحة: "الأمريكيون يبحثون عن تسوية اليوم"، في إشارة إلى سعي إدارة ترمب لإيجاد مخرج سريع للحرب عبر المساومة. ويعمل زيلينسكي حاليًا على التأكد من أن أي مقترح سلام معدل يتضمن الموقفين الأوكراني والأوروبي بشكل متوازن قبل عرضه على الجانب الأمريكي.
أكد زيلينسكي مساء الثلاثاء أنه يعمل *"بنشاط كبير" على صياغة مكونات اتفاق لإنهاء الحرب. وقال إن المكونين الأوكراني والأوروبي في خطة السلام تم تفصيلهما بشكل أكبر، وإن كييف مستعدة لتقديمهما للشركاء في الولايات المتحدة. ويعكس ذلك سعي أوكرانيا لإظهار جديتها في البحث عن السلام، ولكن دون التفريط بمصالحها الأساسية. وشدد زيلينسكي على أنه يتوقع دفع هذه الجهود "بأسرع صورة ممكنة وبأكبر قدر من الفعالية"، ما يشير إلى إدراكه لضيق الوقت المتاح في ظل مهلة عيد الميلاد المحددة أميركيًا.
على الرغم من هذه المرونة التكتيكية، بقي زيلينسكي حريصًا على التأكيد أن أي سلام حقيقي ومستدام يعتمد في النهاية على موقف روسيا. ففي بيان له مساء الثلاثاء، قال: "كل شيء يعتمد على ما إذا كانت روسيا مستعدة لاتخاذ خطوات فعّالة لوقف إراقة الدماء ومنع اشتعال الحرب مجدداً". هذا التصريح يؤكد أن الكرة ليست في ملعب كييف وحدها؛ فإذا استمرت موسكو في تعنّتها ومواصلة عدوانها فلن تُجدي أي ضمانات على الورق.
وفي أثناء ذلك، أبلغ زيلينسكي المبعوثين الأمريكيين أنه سيحتاج لمشورة حلفائه الأوروبيين قبل تقديم جواب نهائي. ويهدف زيلينسكي من خلال هذا التأني إلى الحفاظ على وحدة الموقف الدولي الداعم لأوكرانيا، وعدم السماح بانفراد واشنطن ببلورة صفقة ربما تكون منحازة لموسكو. ويصف مراقبون الوضع الراهن بأنه معادلة صعبة: فعلى كييف الموازنة بين ضرورة عدم خسارة الدعم الأمريكي الحاسم من جهة، والحفاظ على خطوطها الحمراء الوطنية وتضامن أوروبا معها من جهة أخرى.
على الجانب الأمريكي، يستمر الرئيس ترمب وفريقه في زيادة مستوى الضغط العلني على كييف. ففي مقابلة حديثة مع موقع بوليتيكو، سُئل ترمب عما إذا كان حدد مهلة زمنية لزيلينسكي للموافقة على اتفاق السلام. أجاب ترمب: "حسناً، عليه أن يتحرك ويبدأ بقبول الأمور... لأنه يخسر". كما شبه ترمب الرئيسَ الأوكراني بـ"P.T. Barnum" (وهو استعراضي أمريكي مشهور)، واصفًا إياه بأنه "بائع ماهر" استطاع الحصول على مئات المليارات من المساعدات دون أن "يُظهر الكثير مقابلها".
وقال ترمب إن كييف فقدت الكثير من الأراضي وإن على زيلينسكي أن "يبدأ بقبول الأمور" على أرض الواقع لأن الجيش الأوكراني في حالة تراجع ميداني. هذه التصريحات تعكس قناعة ترمب بأن الوقت لا يصب في مصلحة أوكرانيا، وأن استمرار الحرب سيؤدي إلى المزيد من الخسائر الإقليمية والبشرية. بل وهدد ضمنيًا بأنه إذا لم تقبل أوكرانيا بالتسوية، فقد لا يستمر الدعم الأمريكي لها إلى ما لا نهاية.
في المقابل، يصرّ زيلينسكي علنًا على رفض التنازل عن أي شبر من أراضي أوكرانيا تحت الضغط. وقال في مؤتمر صحافي عبر الإنترنت يوم الاثنين: "لا نريد التنازل عن أي شيء. ليس لدينا أي حق قانوني أو دستوري أو أخلاقي للقيام بذلك". وأضاف أنه أبلغ إدارة ترمب بأنه سيرسل خطة سلام أوكرانية معدّلة للأخذ بها في الاعتبار. يوضح هذا الموقف العلني أن القيادة الأوكرانية لا تزال تعتبر التنازل الإقليمي خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، مهما بلغت الضغوط.
تأتي هذه التحركات السياسية في وقت تشتد فيه المعارك على الأرض بشرق وجنوب أوكرانيا. فخلال الأشهر الأخيرة، كثفت روسيا هجماتها الصاروخية وهجمات المسيرات على البنية التحتية للطاقة الأوكرانية، في محاولة لإضعاف الجبهة الداخلية في كييف. وعلى جبهات القتال، تحقق القوات الروسية تقدمًا تدريجيًا مصحوبًا بخسائر فادحة في صفوفها جنوب شرق البلاد.
في محافظة دونيتسك تحديدًا – وهي إحدى المناطق المطروحة للتنازل ضمن اتفاق السلام المقترح – تمكنت القوات الروسية مؤخراً من السيطرة على معظم مدينة بوكروفسك الاستراتيجية، وتُهدّد بالتقدم نحو بلدة ميرنوجراد المجاورة (والتي يعني اسمها "مدينة السلام") عبر احتمال فرض حصار عليها. إن سقوط بوكروفسك – وهي مركز تحصين مهم – ووقوع خطر على ميرنوجراد سيشكل ضربة معنوية كبيرة لكييف، كما قد يمنح الكرملين قاعدة انطلاق نحو التوغل أعمق في تلك المنطقة.
وتستغل موسكو هذه الإنجازات الميدانية للضغط في المفاوضات؛ حيث أبلغ مسؤولون أوكرانيون صحيفة فاينانشل تايمز أن فلاديمير بوتين ادعى سيطرة قواته الكاملة على المدينتين لإقناع ترمب بأن الجيش الروسي بات "لا يُمكن وقفه". ورغم أن المصادر الأوكرانية تنفي صحة هذه الادعاءات الروسية، إلا أن مجرد طرحها يهدف إلى تعزيز موقف موسكو التفاوضي وتصوير أي مقاومة أوكرانية مستقبلاً بأنها عديمة الجدوى.
من ناحية أخرى، تشير تقديرات غربية إلى أن روسيا تحتل حالياً حوالي خُمس الأراضي الأوكرانية بعد مكاسبها الأخيرة، مما يضع ضغطًا إضافيًا على كييف. فكلما طال أمد الحرب دون اختراق عسكري أوكراني كبير، ازداد ثقل الأصوات الدولية الداعية للتسوية. وفي واشنطن، يروّج فريق ترمب لفكرة أن استمرار الدعم الأمريكي غير مضمون ما لم تُظهر أوكرانيا مرونة في المفاوضات.
على صعيد آخر متصل بترتيبات المرحلة السياسية المقبلة في أوكرانيا، أعلن زيلينسكي استعداده لتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال زمن الحرب إذا توفر الحد الأدنى من الأمن وضمانات النزاهة لإجرائها. وقال زيلينسكي صراحةً: "أنا أطلب الآن بشكل علني من الولايات المتحدة، إلى جانب زملائنا الأوروبيين، مساعدتنا في ضمان الأمن اللازم لإجراء الانتخابات. إذا تمكّنّا من ذلك، فإن أوكرانيا ستكون جاهزة لإجراء الانتخابات خلال 60 إلى 90 يوماً". وقد وجه الرئيس الأوكراني نداءً إلى الشركاء الدوليين لتقديم مقترحات عمليّة لتحقيق هذا الهدف الأمني خلال الحرب.
غير أن إجراء الانتخابات في ظل الأحكام العرفية السارية ليس بالأمر السهل، إذ يحظر الدستور الأوكراني تنظيم أي انتخابات أثناء سريان الأحكام العرفية. لذلك طالب زيلينسكي البرلمان الأوكراني بالشروع في إعداد التشريعات اللازمة التي تتيح تنظيم الانتخابات رغم الظرف العسكري. ووجّه رئيس البرلمان وهيئة رئاسته بدراسة التعديلات المطلوبة على قانون الانتخابات لضمان شرعية النتائج حتى في ظل الحرب.
يأتي هذا التحول في موقف كييف بعد إشارات أمريكية (خصوصًا من إدارة ترمب) توحي بأن إجراء الانتخابات سيكون مؤشرًا مهمًا على ديمقراطية أوكرانيا واستقرارها رغم الحرب. وقد نفى زيلينسكي بشدة اتهامات بأن قيادته "تتمسك بالسلطة" عبر تأجيل الانتخابات، مؤكدًا أنه على استعداد شخصي لخوض الانتخابات المقبلة إذا تهيأت الظروف المناسبة. كما أشار إلى أن هذه المسألة "تتوقف أولاً وأخيراً على شعبنا"، في إشارة إلى أن القرار سيادي أوكراني بالأساس وليس مجرد رضوخ لضغط خارجي.
يجد زيلينسكي نفسه اليوم أمام خيارات مصيرية صعبة. فمن جهة، هناك إصرار أمريكي على إنهاء الحرب بسرعة عبر تسوية قد تتطلب تنازلات موجعة لأوكرانيا، ومن جهة أخرى يواجه مخاطر التفريط بوحدة الدعم الغربي وبالسيادة الوطنية إذا قدّم تنازلات تتجاوز الخطوط الحمراء. وفي ظل تفاقم الوضع الميداني لصالح روسيا ببطء، تزداد الضغوط على كييف "للقبول بالأمر الواقع" تفاديًا لسيناريوهات أسوأ.
مع اقتراب نهاية العام، ستكون الأيام القليلة المقبلة حاسمة؛ فإما أن يتبلور اتفاق سلام وفق الشروط الأمريكية المعدلة وتوافُق أوروبي - أوكراني، أو تستمر الحرب بما تحمله من تكاليف متصاعدة للجميع. وفي كل الأحوال، تؤكد القيادة الأوكرانية أنها لن توافق على سلام زائف لا يضمن سيادة أوكرانيا وأمنها على المدى الطويل. ويبقى موقف موسكو العامل المجهول الأكبر؛ إذ إن استعداد روسيا الحقيقي للسلام أو لمجرد استراحة محارب لإعادة تنظيم الصفوف هو ما سيحدد ما إذا كان عام 2026 سيبدأ باتفاق تاريخي أم بجولة جديدة من الصراع.