تطورات اقليمية
السعودية تطالب بخروج قوات الانتقالي من حضرموت والمهرة..
هل يعود الجنوب دولة مستقلة بعد سيطرة المجلس الانتقالي على النفط والموانئ؟
سيئون والغيضة تحت قبضة الجنوبيين، والمملكة تدفع بـ"درع الوطن"
شهد اليمن تصعيدًا خطيرًا في أوائل ديسمبر 2025، حيث بسطت قوات المجلس الانتقالي الجنوبي – وهو فصيل انفصالي مدعوم إماراتيًا – سيطرتها على مناطق واسعة في جنوب البلاد، بما في ذلك محافظتا حضرموت والمهرة شرقي اليمن. أتى هذا التحرك ضمن عملية عسكرية أطلقها الانتقالي باسم "وعد المستقبل"، مكّنت قواته من الانتشار في جميع المحافظات الجنوبية الثمان خلال أيام قليلة. أثارت هذه الخطوة مخاوف جدّية من احتمال عودة اليمن إلى وضع الدولتين (الشمال والجنوب) بعد أكثر من 30 عامًا على توحيده، خاصة وأنها تمثّل تغيرًا كبيرًا في ميزان القوى ويُنذر بإشعال الصراع الأهلي من جديد بعد فترة هدوء نسبي. في هذا السياق، تحرّكت السعودية لاحتواء الموقف، مطالبةً على لسان مبعوثيها بانسحاب كافة قوات الانتقالي الجنوبي من حضرموت والمهرة تفاديًا لتفجّر مواجهة جنوبية-شمالية وتقسيم البلاد.
يعاني اليمن حربًا أهلية مستمرة منذ عام 2014 بين جماعة الحوثي (المدعومة إيرانيًا والمسيطرة على صنعاء ومعظم الشمال) وبين الحكومة المعترف بها دوليًا المدعومة بتحالف تقوده السعودية. في الجنوب، برز المجلس الانتقالي الجنوبي منذ 2017 كمظلة لفصائل تسعى لإحياء دولة الجنوب التي كانت مستقلة حتى عام 1990. وعلى الرغم من انخراط الانتقالي ضمن التحالف المناهض للحوثيين ومشاركته في مجلس القيادة الرئاسي المشكّل برعاية الرياض عام 2022، ظلّت توترات كامنة بينه وبين مكونات الحكومة حول تقاسم السلطة والنفوذ. بحلول 2022، وصل القتال بين الحكومة والحوثيين إلى جمود عسكري ترافق مع هدنة أممية، مما أنعش الآمال بإحلال السلام. غير أن الوضع جنوبًا اتجه نحو التصعيد مؤخرًا، حيث استغلّ الانتقالي حالة "اللاحرب واللاسلم" لتعزيز سيطرته الإدارية والعسكرية على مناطق الجنوب بعيدًا عن الحكومة. لقد نشأ تحالفٌ هش في الجنوب يجمع بين المجلس الانتقالي والجناح الموالي للسعودية في السلطة (وأبرز مكوناته حزب الإصلاح وشخصيات كرشاد العليمي)، إلا أن هذا التحالف تعرض للاختبار عدة مرات وسط خلافات حول إدارة المحافظات الجنوبية. تصاعد نفوذ الانتقالي بدعم إماراتي مقابل تراجع تأثير الرياض هناك، وهي معادلة زرعت بوادر انقسام داخل التحالف العربي نفسه.
مع بداية ديسمبر 2025، أطلق المجلس الانتقالي الجنوبي عملية عسكرية مباغتة حملت اسم "وعد المستقبل" بهدف السيطرة على وادي حضرموت ومناطق الشرق اليمني. فيما يلي أبرز محطات هذا التوسع العسكري خلال أيام قليلة:
في بداية الهجوم اندفعت آلاف من مقاتلي قوات الحزام الأمني والنخبة الحضرمية التابعة للانتقالي نحو مديريات وادي حضرموت التي كانت خاضعة اسميًا لسلطة الحكومة الشرعية. سقطت مدينة سيئون (كبرى مدن وادي حضرموت) سريعًا بيد قوات الانتقالي بعد اشتباكات محدودة مع اللواء 1 مدرع (المنطقة العسكرية الأولى) الموالي للحكومة. خلال ذلك، سيطرت قوات الانتقالي على منشآت حيوية أبرزها مطار سيئون والقصر الرئاسي هناك، إضافة إلى حقول نفطية تابعة لشركة بترومسيلة في المنطقة.
وواصلت قوات الانتقالي تقدمها شرقًا دون مقاومة تُذكر، حيث دخلت محافظة المهرة ووصلت إلى عاصمتها مدينة الغيضة على الحدود مع عُمان. سقطت الغيضة وميناء نشطون الإستراتيجي دون قتال يُذكر، بعد تنسيق بين الانتقالي وبعض الوحدات المحلية لتجنّب المواجهة. وبحلول 5 ديسمبر، انتشرت قوات "درع الوطن" (التشكيل المدعوم سعوديًا) لتتسلم تأمين مطار الغيضة وميناء نشطون ضمن ترتيبات أمنية جديدة أشرفت عليها الرياض.
وأعلنت سلطات حضرموت التوصل لهدنة بوساطة سعودية قضت بإعادة فتح الطرق ومنع الاحتكاك، ما سمح باستئناف ضخ النفط من حقول بترومسيلة التي كانت قد توقفت تمامًا منذ 1 ديسمبر بسبب التوتر الأمني. وكانت مجموعات قبلية مسلحة (حلف قبائل حضرموت) قد سيطرت على منشآت الشركة شرقي مدينة المكلا الساحلية، احتجاجًا على تمدد الانتقالي في مناطقهم. ورغم الهدنة، اندلعت اشتباكات متفرقة في 5 ديسمبر بين قوات الانتقالي ومسلحي حلف القبائل بمنطقة المسيلة النفطية، مما أسفر عن سقوط نحو 10 قتلى من الجانبين قبل أن يتدخل وسطاء لاحتواء الموقف.
ومع حلول 8 ديسمبر، أعلن المجلس الانتقالي أن قواته أحكمت السيطرة على ثماني محافظات جنوبية بالكامل "تحت حماية القوات المسلحة الجنوبية". وشمل ذلك محافظة شبوة (التي سيطر الانتقالي على معظم مناطقها أيضًا خلال العملية) بالإضافة إلى حضرموت والمهرة. وشوهد علم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (علم دولة الجنوب سابقًا) مرفوعًا على المباني الحكومية وفي المراكز الحدودية مع عُمان في المهرة، في مشهد رمزي يؤكد فرض أمر واقع جديد. تزامن ذلك مع خروج مظاهرات شعبية حاشدة في عدن ومناطق أخرى من الجنوب ابتهاجًا بما اعتبروه "تحرير الجنوب"، حيث رفع المئات صور رئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي ورددوا شعارات تطالب بإعلان استقلال الجنوب فورًا. وفي مدينة عدن، تمكنت قوات الانتقالي من دخول قصر معاشيق الرئاسي وإخراج الحماية الرئاسية الحكومية منه بدون اشتباك، كما انسحب مسؤولون حكوميون كبار من المدينة، بينهم رئيس الوزراء وأعضاء مجلس القيادة، متوجهين إلى الرياض.
جدير بالذكر أن هذا التقدم السريع لقوات الانتقالي تم بحد أدنى من القتال. فمعظم الوحدات الحكومية في حضرموت والمهرة انسحبت دون مقاومة كبيرة تجنبًا لإراقة الدماء، خاصة بعد أوامر رئاسية بعدم المواجهة. وقد أكد مسؤولون في الانتقالي أن التنسيق جارٍ مع بعض القادة العسكريين المحليين لتسليم المواقع سلمياً، لدرجة أن المهرة سقطت "بدون طلقة رصاص واحدة" عبر تفاهمات مع القوات المحلية هناك. وعلى الرغم من ذلك، قُتل وأصيب عدد من المقاتلين خلال بعض الاشتباكات المحدودة بوادي حضرموت، كما أدى التوتر الأمني إلى تعطيل حركة الملاحة الجوية في مطار عدن الدولي لساعات بعدما أغلقت التحالف الأجواء اليمنية مؤقتًا كإجراء تحذيري للانتقالي.
أمام هذه التطورات المتسارعة جنوب اليمن، برزت السعودية – قائدة التحالف العربي – في موقف حرج يستدعي التحرك لضبط بوصلة الأحداث. ففي 4–5 ديسمبر، اتخذت الرياض خطوات فورية وذات دلالة لثني الانتقالي عن المضي في التصعيد. من تلك الخطوات قيام قيادة التحالف بإغلاق مؤقت للمجال الجوي اليمني ومنع الإقلاع والهبوط في مطار عدن الدولي، مما عطل حركة الطيران لبضع ساعات. واعتُبر هذا الإجراء بمثابة "رسالة سعودية" واضحة إلى المجلس الانتقالي بضرورة وقف تمدده العسكري وعدم تجاوز الخطوط المرسومة ضمن اتفاقات الشراكة.
بالتوازي، أوفدت المملكة لجنة عسكرية-أمنية رفيعة إلى محافظتي حضرموت والمهرة لاحتواء الموقف على الأرض. ترأس اللجنة اللواء محمد عبيد القحطاني (رئيس الوفد السعودي إلى حضرموت)، والذي عقد في 9 ديسمبر لقاءً موسعًا مع شيوخ قبائل حضرموت في منطقة العبر القريبة من الحدود السعودية. خلال هذا اللقاء، حرص القحطاني على توجيه رسائل طمأنة وتحذير في آن واحد. فمن جهة، أكد أن موقف المملكة ثابت في دعم أمن واستقرار حضرموت ورفض جرّها إلى أية فوضى أو صراع جديد. وشدّد على أن حضرموت ينبغي أن تظل "أولوية أساسية للاستقرار وليست ميدانًا للصراع"، رافضًا أي محاولة لفرض الأمر الواقع بالقوة من قبل أي طرف.
وفي لهجة حازمة، طالب القحطاني بشكل صريح بانسحاب جميع القوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي من محافظتي حضرموت والمهرة، وتسليم المواقع العسكرية والمعسكرات هناك إلى قوات "درع الوطن" اليمنية المدعومة من السعودية. وأوضح أن بلاده دفعت بهذه القوات (درع الوطن) بهدف حماية أمن المحافظتين ومنع انزلاقهما إلى أتون المواجهات، في إشارة إلى ضرورة قبول الانتقالي بانتشار هذه القوات كحل وسط. وقد بدأت بالفعل عملية تسليم بعض المواقع: فبعد سيطرة قوات الانتقالي على معسكر اللواء 23 ميكا في منطقة العبر بحضرموت، توسطت اللجنة السعودية لتسليم المعسكر سلميًا إلى قوات درع الوطن التي انتشرت فيه لاحقًا. كما تسلمت قوات درع الوطن أمن مطار الغيضة وميناء نشطون بالمهرة ضمن ترتيبات لوجستية جديدة أشرفت عليها السعودية.
وفي سياق جهود التهدئة، أعلن رئيس الوفد السعودي التوصل إلى حزمة إجراءات عاجلة لدعم الاستقرار في حضرموت. شملت هذه الإجراءات وضع "مصفوفة حلول" أمنية واقتصادية، من أبرز بنودها ضمان استمرار عمل شركة بترومسيلة النفطية واستئناف الإنتاج وحماية المنشآت النفطية. لتحقيق ذلك، تم الاتفاق على إعادة انتشار: بحيث تنسحب القوات التي سيطرت على المواقع الحيوية مؤخرًا ليحل محلها قوات حضرمية محلية تتبع السلطة المحلية وتعمل تحت إشرافها المباشر وبدعم ومراقبة سعودية. الهدف من ذلك هو تهدئة المخاوف لدى أبناء حضرموت عبر تمكينهم من إدارة أمن مناطقهم بأنفسهم، مع ضمان عدم استخدام المنشآت النفطية كورقة ضغط من أي طرف. كما أكدت السعودية دعمها تشكيل لجنة تحقيق يمنية لمحاسبة المتسببين في خرق الهدنة بحضرموت (في إشارة إلى الاشتباك الذي أوقع 10 قتلى)، وذلك في إطار حرص الرياض على ترسيخ وقف إطلاق النار المحلي ومنع تكرار مثل تلك الحوادث.
رغم لهجتها الصارمة ضد انتشار قوات الانتقالي، حرصت السعودية على التأكيد بأنها لا تعارض القضية الجنوبية بحد ذاتها. حيث قال اللواء القحطاني صراحةً: "إن قضية الجنوب عادلة ولا يمكن تجاهلها أو تجاوزها"، مشددًا على أن تطلعات الجنوبيين ستكون حاضرة في أي تسوية سياسية شاملة قادمة. وأردف بأن المملكة تربطها "أواصر أخوية تاريخية" مع جنوب اليمن بكافة مكوناته. تعكس هذه التصريحات توازنًا في الموقف السعودي: فبينما ترفض الرياض تغيير الوضع الميداني بالقوة خارج إطار السلطة الشرعية، فإنها تُقر ضمنيًا بأحقية الجنوبيين في طرح قضيتهم السياسية والسعي لحلول عادلة لها عبر الحوار لا السلاح.
أثارت تحركات المجلس الانتقالي العسكرية ردود فعل منددة من قبل الحكومة اليمنية المعترف بها وحلفائها المحليين. فقد أعربت عدة أحزاب ومكونات سياسية يمنية موالية للشرعية عن رفضها لمحاولات الانتقالي "إخضاع محافظات شبوة وحضرموت والمهرة بالقوة" وفرض أمر واقع جديد. واعتبرت هذه المكونات في بيان مشترك أوائل ديسمبر أن ما يجري "انقلاب على الشرعية" في تلك المحافظات، محذرةً من أن وحدة وأمن اليمن باتا على المحك نتيجة هذه التصرفات الأحادية. كما دعت جميع القوى الوطنية إلى رص الصفوف خلف القيادة الشرعية لمنع تمزيق البلاد وإضعافها أمام الحوثيين.
على الصعيد الرسمي، أصدر رشاد العليمي (رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني) بيانًا شديد اللهجة وصف فيه تحركات المجلس الانتقالي الأخيرة بأنها تقويض لشرعية الحكومة وانتهاك لاتفاقيات تقاسم السلطة المنبثقة عن اتفاق الرياض. وطالب العليمي خلال لقائه دبلوماسيين غربيين في الرياض بأن يعود مقاتلو الانتقالي الذين قدموا إلى حضرموت والمهرة أدراجهم فورًا، داعيًا المجتمع الدولي إلى ممارسة ضغط علني لتحقيق انسحاب تلك القوات وإلغاء الخطوات الأحادية غير الشرعية. وقال العليمي: "نرفض بشكل قاطع أي إجراءات أحادية من شأنها تقويض الوضع القانوني للدولة أو الإضرار بالمصلحة العامة أو خلق واقع موازٍ". وقد غادر العليمي ومعه رئيس الوزراء وعدد من المسؤولين مدينة عدن متوجهين إلى السعودية مع بداية الأحداث، في نزوح سياسي عكس فقدان الحكومة سيطرتها الفعلية على الأرض في الجنوب.
دوليًا، سارعت الأمم المتحدة عبر مبعوثها إلى اليمن هانس غروندبرغ إلى الدعوة لخفض التصعيد وضبط النفس. ففي 9 ديسمبر، وعقب اجتماعات في الرياض مع مسؤولين سعوديين ويمنيين (بينهم وزير الخارجية اليمني وسفيرا السعودية والإمارات لدى اليمن) وممثلين عن الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن، أصدر غروندبرغ بيانًا يحث فيه جميع الأطراف على الحوار بدلاً من المواجهة في حضرموت والمهرة. وأعرب المبعوث الأممي عن قلقه البالغ من التطورات في شرق اليمن، محذرًا من أن استمرارها قد يقوّض جهود التهدئة الشاملة ويعيد إشعال الصراع على نطاق أوسع. وأكد غروندبرغ أن استقرار المحافظات الشرقية جزء لا يتجزأ من عملية السلام، وأن تجنيبها الانزلاق إلى العنف هو مسؤولية جماعية تقع على عاتق اليمنيين ودول المنطقة والمجتمع الدولي. وحتى الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن، وإن لزمت الحذر في مواقفها العلنية، إلا أنها تتابع عن كثب الموقف. وقد شارك دبلوماسيون أمريكيون وبريطانيون وفرنسيون في لقاءات الرياض، فيما تواصلت اتصالات غربية خلف الكواليس بقيادة الزبيدي لفهم نواياه وضمان ألا تؤثر تحركات الانتقالي سلبًا على المفاوضات الأوسع مع الحوثيين.
من جهتها، تلعب سلطنة عُمان (المتاخمة للمهرة) دورًا هادئًا في هذه الأزمة. فالمعلومات تفيد بأن مسقط أغلقت مؤقتًا منفذ شحن الحدودي مع المهرة احتجاجًا على رفع علم دولة الجنوب هناك، قبل أن تعيد فتحه لاحقًا بعد إزالة الأعلام الانفصالية. وتبدو عُمان قلقة من وجود قوات موالية للإمارات على حدودها، وقد دعت عبر قنوات دبلوماسية إلى احترام اتفاق الرياض وعدم الإخلال بالتوازن في المهرة. أما الإمارات – الداعم الرئيس للمجلس الانتقالي – فاكتفت بتصريح رسمي مقتضب بأنها ملتزمة بالحل السياسي وفق المرجعيات المتفق عليها، في وقت يرى فيه محللون أن أبوظبي تُعد المستفيد الأكبر من واقع تعزيز نفوذ حلفائها بالجنوب.
أعاد تقدم قوات الانتقالي وسيطرتها شبه الكاملة على جنوب اليمن إحياء سيناريو انفصال الجنوب عن الشمال الذي ظل كامنًا منذ حرب 1994. فبعد هذه العملية، أصبح المجلس الانتقالي يسيطر فعليًا على كافة المحافظات الجنوبية الثمان التي كانت تشكل دولة اليمن الجنوبي سابقًا. وتشمل هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة معظم الساحل الجنوبي المطل على البحر العربي وخليج عدن، إلى جانب الحدود مع عمان والسعودية، فضلاً عن مناطق تضم حوالي 80% من احتياطيات النفط اليمنية ومواقع إنتاج وتصدير الطاقة الرئيسية في البلاد. كما تمثل المحافظات الجنوبية مجتمعةً نحو 90% من مساحة اليمن وتضم قرابة 25% من سكانه (غالبيتهم في عدن وحضرموت وشبوة). هذا الواقع يمنح الانتقالي أوراق قوة اقتصادية وسياسية غير مسبوقة؛ إذ بيده الآن معظم موارد النفط والغاز في اليمن، ومنافذ بحرية وتجارية استراتيجية، مما يعزز قدرته على فرض رؤيته بشأن مستقبل الجنوب.
على الجانب الآخر، ترك هذا التطور الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا في أضعف حالاتها منذ بدء الحرب. فهذه الحكومة باتت تسيطر فعليًا فقط على أجزاء من محافظتي مأرب وتعز في الشمال والوسط (إضافة لبعض الجيوب في حضرموت الوادي قبل أن تُخليها مؤخرًا)، في حين يهيمن الحوثيون على بقية المناطق الشمالية المكتظة بالسكان. أما السعودية – الداعم الرئيس لتلك الحكومة – فتلقّت انتكاسة استراتيجية بانحسار نفوذها في الجنوب لصالح الإمارات وحلفائها. فقد اضطر الجيش السعودي إلى إخلاء مواقعه في عدن، بما في ذلك قصر معاشيق الرئاسي ومطار عدن، مع تقدم قوات الانتقالي. ويعتبر محللون ما جرى تحوّلًا جوهريًا في ميزان القوى الإقليمي على الساحة اليمنية؛ إذ تراجع الدور السعودي الذي قاد التحالف لسنوات، في مقابل صعود دور الإمارات كصاحبة اليد الطولى جنوبًا. ويحذّر البعض من أن هذا المشهد قد يضع الرياض وأبوظبي على مسار مواجهة بالوكالة في اليمن إذا استمر تضارب المصالح بينهما. فالإمارات تدعم طموحات الانتقالي الانفصالية سعيًا لترسيخ نفوذ طويل الأمد في موانئ وجزر جنوب اليمن، بينما تتمسك السعودية رسمياً بوحدة اليمن خشية تهديد أمن حدودها الجنوبية ومستقبل نفوذها الإقليمي.
ورغم الانتصار العسكري السريع للمجلس الانتقالي، إلا أن مسار مستقبل الجنوب لا يزال غير محسوم. إذ لم يُقدم الانتقالي حتى الآن على خطوة إعلان الانفصال رسميًا أو تشكيل حكومة جنوبية، واكتفى قادته بالتصريح أن هدفهم الفوري هو "تأمين الجنوب وحمايته من الإرهاب والحوثيين" وليس إعلان دولة جديدة. ويُرجّح خبراء أن يتريث المجلس الانتقالي في اتخاذ قرار الانفصال الكامل تفاديًا لردود فعل دولية معارضة، وربما يلجأ بدلًا من ذلك إلى خطوات تدريجية كالدعوة إلى استفتاء شعبي على تقرير المصير أو التفاوض لانتزاع حكم ذاتي موسّع للجنوب ضمن دولة فيدرالية فضفاضة. ذلك أن إعلان دولة جنوبية من طرف واحد ينطوي على مخاطر سياسية، استنادًا لتجارب سابقة (مثل إعلان انفصال إقليم أرض الصومال أو مطالب انفصال كردستان العراق التي قوبلت بفتور دولي). ويعلم الانتقالي أن اعتراف المجتمع الدولي بدولة جنوب اليمن لن يكون مضمونًا في ظل غياب توافق إقليمي – لا سيما موقف سعودي واضح – وفي ظل أولوية إنهاء الحرب مع الحوثيين لدى القوى الكبرى.
في غضون ذلك، الموقف الدولي لا يزال ملتزمًا رسميًا بوحدة اليمن. فقد شدد بيان الدول الخمس الكبرى ومبعوث الأمم المتحدة على التمسك بسيادة اليمن وسلامة أراضيه. كما تواصل واشنطن ولندن وعواصم أخرى دفع خارطة سلام شاملة تقودها السعودية، تقوم على أساس حل سياسي مع الحوثيين وتشكيل حكومة اتحادية تضم كافة الأطراف بما فيها الانتقالي. وبالتالي، يُرجّح أن أي تحرك نحو انفصال الجنوب أحادي الجانب سيواجه بمعارضة دبلوماسية وربما عقوبات اقتصادية ودولية، ما لم يتم ضمن اتفاق سياسي برعاية أممية.
في المحصلة، يقف اليمن اليوم أمام منعطف تاريخي جديد يضعه بين خيارين أحلاهما مُرّ: فإما المضي نحو تسوية سياسية شاملة تُعالج جذور القضية الجنوبية وتضمن شراكة حقيقية في السلطة والثروة بين الشمال والجنوب، وإما انزلاق البلاد نحو واقع الانقسام الكامل بكل ما يحمله من مخاطر اندلاع صراع جديد بين دولتين يمنيتين. ومما لا شك فيه أن التطورات في الأسابيع الأخيرة غيّرت قواعد اللعبة ومنحت المجلس الانتقالي أوراق ضغط قوية، لكنه أيضًا يواجه تحدي إدارة الجنوب والحفاظ على تماسك صفوفه الداخلية وتقديم نموذج حكم مستقر – وهي مهمة صعبة في ظل الانقسامات الجنوبية التقليدية وضعف الموارد. من جهة أخرى، تجد الحكومة المعترف بها نفسها مضطرة لإعادة تقييم استراتيجيتها وتحالفاتها، وربما تقديم تنازلات للجنوبيين ضمن إطار الحل النهائي. وفي كل الأحوال، سيكون الدور السعودي والإماراتي حاسمًا في توجيه دفة الأحداث القادمة: فاستمرار تباعد رؤى الرياض وأبوظبي قد يعني إطالة أمد الأزمة، بينما تنسيقهما – ضمن تفاهمات جديدة تراعي مصالح الطرفين – قد يفتح الباب أمام مخرج سلمي يُبقي اليمن موحدًا شكليًا مع منح الجنوب حكمًا ذاتيًا واسعًا.
بناءً على ما تقدم، يُمكن القول إن مشهد الأحداث في اليمن لا يزال يتشكل. ستحدد الأسابيع والأشهر المقبلة ما إذا كان الجنوب ماضٍ نحو استعادة دولته السابقة، أم أنه سيكتفي بانتزاع مكاسب سياسية ضمن يمن اتحادي جديد. وبينما تبدو عدن اليوم عاصمة لكيان جنوبي بحكم الأمر الواقع، فإن صنعاء تترقب التطورات بحذر، وقد يجد الحوثيون في هذا التشظي فرصة لترسيخ سيطرتهم في الشمال بلا منافس. لكنهم أيضًا يواجهون احتمال خصم جنوبي موحّد وقوي عسكريًا على الجبهة المقابلة في حال انهيار مسار السلام. وهكذا، يقف اليمن عند مفترق طرق مصيري يتطلب حلولًا خلاقة وتنازلات متبادلة لتجنيبه أسوأ السيناريوهات. الأيام القادمة كفيلة بتقديم الإجابة، فيما يواصل الشعب اليمني دفع ثمن صراعات القوة على أرضه وانتظار بارقة أمل لسلام طال انتظاره.