تطورات اقليمية
هندسة نفوذ طهران في المنطقة..
تقرير أمريكي: «محور المقاومة» يدخل مرحلة إعادة تشكّل بعد حرب يونيو 2025
حوثيون شمال اليمن_ ارشيف
في أعقاب الحرب الإسرائيلية–الإيرانية القصيرة التي اندلعت في يونيو/حزيران 2025 واستمرت اثني عشر يومًا، دخل ما يُعرف بـ«محور المقاومة» الذي تقوده إيران مرحلة جديدة من التحول وإعادة التشكل، وفق دراسة تحليلية حديثة صادرة عن معهد الشرق الأوسط أعدّها الباحث الإيراني الأصل رضا بارشيزاده. وتذهب الدراسة إلى أن هذا المحور، الممتد عبر ساحات لبنان واليمن والعراق وسوريا، لم يتعرض لانكسار استراتيجي كما يروّج خصومه، بل شرع في عملية إعادة تموضع عميقة تعكس انتقاله من منطق المواجهة المفتوحة إلى منطق التكيف طويل الأمد.
ويرى التحليل أن الهدوء النسبي الذي أعقب الحرب لا يمثل تراجعًا في قدرات المحور أو انحسارًا في طموحاته، بل يعكس مرحلة محسوبة من إعادة الهيكلة الميدانية والتنظيمية والمالية. ويشير إلى أن طهران تعمل على تطوير أدوات القيادة والتمويل وتعزيز البنية الأيديولوجية للمحور، بالتوازي مع توسيع شراكاتها مع قوى دولية منافسة للغرب، وفي مقدمتها روسيا والصين، بما يمنح هذا التحالف الإقليمي عمقًا استراتيجيًا يتجاوز حدود الشرق الأوسط.
ووفق الدراسة، دخلت إيران ووكلاؤها الإقليميون، ومنهم حزب الله في لبنان، وميليشيات الحشد الشعبي في العراق، وجماعة أنصار الله في اليمن، مرحلة ما يسميه المعهد «الخمول الاستراتيجي المقصود». ويُعرَّف هذا الخمول بوصفه سكونًا تكتيكيًا لا يعني توقف النشاط، بل نقله إلى مستويات أعمق داخل البنى التنظيمية والعسكرية والاقتصادية، بهدف امتصاص آثار الضربات التي تعرض لها المحور خلال المواجهة مع إسرائيل واستعادة التوازن قبل أي جولة تصعيد محتملة.
في لبنان، ورغم الإجراءات الحكومية الرامية إلى مصادرة السلاح غير الشرعي، تشير الدراسة إلى أن حزب الله أعاد بناء جزء من ترسانته جنوب نهر الليطاني عبر الممرات السورية، وشرع في ما وصفه بـ«إعادة الإعمار الصناعي»، وهي عملية تهدف إلى توطين تصنيع بعض أنواع السلاح داخل الأراضي اللبنانية. كما ضخ الحزب مئات الملايين من الدولارات في برامج إعادة الإعمار والدعم الاجتماعي لتعزيز حضوره في بيئته الشعبية، في محاولة للجمع بين القوة العسكرية والشرعية الاجتماعية.
أما في العراق، فتوضح الدراسة أن إيران تطبق نسخة معدّلة من نموذج حزب الله عبر دمج فصائل الحشد الشعبي في مؤسسات الدولة، مستفيدة من الغطاء القانوني والرسمي. ويشير التحليل إلى أن اتفاقيات اقتصادية مع شركات صينية تُستخدم كأدوات مزدوجة الغرض، إذ تُقدَّم تحت عنوان «إعادة الإعمار الوطني»، بينما توفر في الواقع قنوات تمويل وتسليح مستدامة لهذه الفصائل. وفي اليمن، تواصل طهران دعم الحوثيين بالمعدات العسكرية والتقنيات المتقدمة رغم الجهود الأميركية لاعتراض الشحنات، في إطار تحول استراتيجي من الصراع المفتوح إلى ترسيخ نفوذ طويل الأمد قائم على بنية اقتصادية–عسكرية متداخلة.
ويؤكد معهد الشرق الأوسط أن إيران نجحت خلال السنوات الأخيرة في إعادة ابتكار منظومتها المالية لتجاوز العقوبات الغربية، عبر شبكة واسعة من الشركات الواجهة والاقتصادات الرمادية. وتقدّر الدراسة أن طهران تحوّل سنويًا ما بين ثمانية وعشرة مليارات دولار من عائدات النفط المهرب إلى فيلق القدس وشبكة الميليشيات التابعة له، باستخدام وسطاء في الخليج وشرق أفريقيا وآسيا. كما تُستخدم مشاريع البناء وإعادة الإعمار في لبنان وسوريا والعراق كغطاء لتبييض الأموال وإعادة ضخها في شبكات الوكلاء.
ويضيف التحليل أن المحور طور أدوات تمويل غير تقليدية، شملت استخدام العملات المشفرة، والتجارة غير الرسمية بالذهب والمخدرات والماس، ما أوجد اقتصادًا لا مركزيًا مرنًا يصعب تتبعه أو تعطيله عبر أدوات العقوبات التقليدية. ويصف بارشيزاده هذا النموذج بأنه «اقتصاد مقاومة موازٍ» لا يخضع لمنطق السوق أو الدولة، بل لمنطق الصمود الأيديولوجي، وهو ما يمنح طهران ووكلاءها قدرة على تمويل أنفسهم خارج القنوات المصرفية الرسمية.
وعلى المستوى الدولي، ترى الدراسة أن روسيا والصين باتتا ركيزتين أساسيتين في الاستراتيجية الإيرانية بعد حرب يونيو 2025. فموسكو توفر الغطاء السياسي والدبلوماسي، مستخدمة حق النقض في مجلس الأمن لحماية طهران وحلفائها، إلى جانب دعم عسكري غير مباشر في بعض الساحات. أما بكين، فتتولى إعادة تأهيل القدرات الصناعية والتقنية للنظام الإيراني، حيث زوّدت طهران بمكونات حساسة ذات استخدام مزدوج ساعدتها على استعادة قدراتها في تصنيع الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة، ما جعل الصين شريكًا دفاعيًا غير معلن للجمهورية الإسلامية.
ويرى الباحث أن هذا الدعم الروسي–الصيني عزز مناعة المحور الإيراني أمام الضغوط الغربية، وفتح له آفاق تمدد تتجاوز الشرق الأوسط نحو أفريقيا وآسيا. وفي السياق ذاته، يشير التحليل إلى تحول أيديولوجي لافت في خطاب النظام الإيراني بعد الحرب، حيث ركّز المرشد الأعلى علي خامنئي على ربط مفهوم المقاومة بالإنتاج المحلي والعمل الجماعي، واعتبار الصبر الاقتصادي شكلًا من أشكال الجهاد. ويصف بارشيزاده هذا التحول بأنه «إعادة تسويق للمحنة»، إذ تُقدَّم الأزمات الاقتصادية بوصفها اختبارًا إيمانيًا، وتُعاد صياغة المقاومة كمشروع مجتمعي يتجاوز البعد العسكري.
وتشير الدراسة إلى أن هذا الخطاب لم يبقَ حبيس الداخل الإيراني، بل جرى تصديره إلى حلفاء طهران، حيث بات حزب الله يتحدث عن «الاقتصاد المقاوم»، فيما يروّج الحوثيون لمفهوم «الاكتفاء الذاتي» كجزء من العقيدة القتالية. ويمنح هذا الإطار الأيديولوجي النظام الإيراني هامشًا أوسع لتجاوز السخط الشعبي الناتج عن العقوبات، ويضفي شرعية جديدة على الإنفاق الخارجي على الميليشيات تحت غطاء ديني–وطني.
ورغم ذلك، لا يغفل معهد الشرق الأوسط عن التحديات الداخلية المتصاعدة داخل إيران، حيث تتفاقم الضغوط الاقتصادية ويظهر المجتمع الإيراني علامات متزايدة من الضجر تجاه كلفة تمويل الحروب بالوكالة. وتكشف استطلاعات رأي أشار إليها التحليل أن نسبة الإيرانيين المؤيدين للإنفاق الخارجي على الميليشيات انخفضت إلى أقل من ثلاثين في المئة، في مقابل تصاعد أصوات داخل الإعلام شبه الرسمي تحذر من «الاستنزاف المالي للمحور». ومع ذلك، لم تقلّص طهران دعمها فعليًا، بل أعادت توجيهه عبر شركات اقتصادية تابعة للحرس الثوري، مثل مجموعة «خاتم الأنبياء»، التي تحولت إلى الذراع المالية الأبرز لتمويل مشاريع داخلية وخارجية تولد موارد بديلة بعيدة عن الرقابة الرسمية.
ويخلص التقرير إلى أن «محور المقاومة» لم يعد تنظيمًا هرميًا مركزيًا تديره طهران بشكل مباشر، بل تحول إلى شبكة لا مركزية مرنة تقوم على عقد ميدانية في لبنان والعراق واليمن وسوريا، تتبادل الموارد والخبرات ضمن إطار من الردع المشترك. ويمنح هذا الشكل التنظيمي المحور قدرة بقاء أعلى حتى في حال تعرض إيران لهجمات مباشرة، إذ باتت كل عقدة تمتلك قدرًا من الاستقلال المالي والعملياتي.
وفي المقابل، يرصد المعهد تصاعد الجهود الغربية والعربية لاحتواء النفوذ الإيراني، من خلال دعوات أميركية وفرنسية لنزع سلاح حزب الله، وفرض عقوبات جديدة على شبكات تمويله، إضافة إلى ضغوط على الحكومة العراقية للحد من نفوذ الحشد الشعبي، وتركيز خليجي على حماية أمن البحر الأحمر وممرات التجارة الدولية من تهديد الحوثيين. غير أن الدراسة ترى أن هذه الجهود لا تزال تفتقر إلى الاتساق، في ظل اعتماد إيران على اقتصاد ظل غير رسمي يستفيد من هشاشة الدول المضيفة لوكلائها.
وفي ختام التحليل، يدعو معهد الشرق الأوسط الإدارة الأميركية إلى تجاوز سياسة العقوبات الكلاسيكية، والانتقال إلى نهج تفكيكي يستهدف البنية المالية والفكرية للمحور، محذرًا من أن تجاهل هذا التحول البنيوي سيمنح إيران فرصة للعودة بقوة أكبر في جولات الصراع المقبلة. ويؤكد بارشيزاده أن محور المقاومة لم ينهَر بعد حرب الأيام الاثني عشر، بل يعيد تموضعه وفق قواعد جديدة للعبة الإقليمية، في مسار يجعل من الهدوء الحالي مقدمة محتملة لعاصفة أشد تعقيدًا.