معرض “ضد العتمة”
بوزورجي يغزل الصوت والصدى بحروف تتعانق
يستغرب المتابع لمعرض “ضد العتمة” للحروفي الإيراني محمد بوزورجي لدى دخوله إلى صالة “أيام” البيروتية، كيف أن ما يشبه الحزن قد تسلل شيئا فشيئا إلى روحه حتى أمام أعماله التي شحذ تفاصيلها ضوء صاعق وملون. ولعل الحزن الذي قد يمسّ قلب الناظر إلى أعمال بوزورجي مرده لا نهائية الخطوط التي شكلها الفنان متداخلة ومتعانقة وليّنة ومطواعة، ولكنها مُصممة فقط على هذا النحو لأجل أن تعلن في أوج تفاعلها مع بعضها البعض عن تشكّل حالات الفرار الأكثر تراجيدية إلى خارج ضمن أطر اللوحات حينا وإلى عمق وسطها حينا آخر.
تعبق اللوحات جميعها، وإن بدرجات متفاوتة من الشدة، بتيارات ضوئية شكّلها محمد بوزورجي بالألوان الحارة وبالفراغات البيضاء التي تحاذي الخطوط الدقيقة المرسومة وكأنها روحها المجاورة وغير القابعة فيها. تيارات دقيقة لا ترتجف، تعرف أين تهوي وأين تصعد في فضاء اللوحة المشحون بالتفاصيل، فتشي بصرامة يدي الفنان الهندسية وتمكنه من تقنيته الفنية. وتلتفّ هذه التيارات التي تتشكل منها كل لوحاته وتدور في دوامات تذكر بحلقات الدراويش ويصعب تحديد بدايتها من نهايتها، وربما لأجل ذلك تسبّب ما يمكن تسميته بالغثيان البصري لدى الناظر إليها في أحيان كثيرة.
ولا تتوقف خطوط الفنان الإيراني المتدفقة بلولبية حراكها الغنائي عن إعلان قرب قدوم تجارب الرحيل والغياب والتلاشي واضمحلال الموسيقى الكونية التي من شأنها أن تخفف من وطأة عتمة الحياة الأرضية ووحشتها. وأمام لوحات الفنان تجد نفسك مُسافرا إلى بقاع عميقة، لتكتشف بعد لحظات أن هذه البقاع ليست إلاّ جغرافيا أحلامك وأحزانك وأفراحك الأرضية المقرونة بالنهايات الحتمية.
وهذا أكثر ما توحي به لوحات الفنان وخاصة تلك المشغولة باللون الأسود والأبيض والرمادي والبنفسجي، فبعض هذه اللوحات يحمل عناوين مثل “طريقتي”، و“كارما”، و“ضوء القمر” و“حيرة”. واختار الفنان في معرضه الأخير أن يتناول بتجريدية حروفية معنى وأثر القتل والألم والوحشية والقنوط الذي يعيشه العالم المعاصر، وخاصة في منطقة شرق الأوسط، وقد برع في مقابلة الأمور الحياتية المقلقة والتراجيدية مع تجريدية حروفه وانخطافها ضمن إيقاعها الخاص الذي يتطلب من المُشاهد القليل من الاستعداد الشعوري والخلفية الثقافية لتلقفها.
بوزورجي يتناول في معرضه بتجريدية حروفية معنى وأثر القتل والألم والوحشية والقنوط الذي يعيشه العالم المعاصر
ولا شك أن العناوين التي وضعها الفنان ساهمت في انقشاع الرؤيا لدى المُشاهد وإعطائه طرف الخيط الذي يمكنه من أن يجول في المعرض مستنيرا ومُستعدا لما سيجده في أقسى التجريدية، ويقف منتصبا أمامه. و“عتمة” الفنان تلك ليست حالة مُطبقة لا رجاء فيها وإنما جاءت فيضا يصارعه نور ملون دون أن ينتصر عليه، حيث نجد في بعض لوحاته ما يشبه الرثاء وفي بعض لوحاته الأخرى هناك عزاء شديد ونور في آخر النفق.
ويخطّ الفنان العالم الوحشي أمامنا بأسلوبه التجريدي/المعاصر والحروفي الخاص في هيجانه وتوتره وتصاعد جنونه القاتل، حيث سيعثر الناظر لأعماله وخاصة تلك التي تتميز بألوان صارخة كالأحمر والذهبي والقرمزي والفضي، على توازن القوى ما بين النور والظلام. وهذا الأمر لا يحتمل التأويل وهو ليس سوى تأكيد من نوع آخر على استحالة حضور النور دون الظلام في الحياة الدنيا، ونذكر على سبيل المثال اللوحة الصارخة والهادئة في الآن ذاته التي يسيطر عليها اللون الأحمر وتحمل عنوان “الطفل الشهيد – دمشق 2015”، وكانت أصدق ما يشير إلى حلول النور في كنف الفجيعة.
تستحيل قراءة ما كتب في لوحات الفنان. فصحيح أننا سنعثر على كلمات واضحة ككلمة “الله” عز وجلّ، ولكن ليس أكثر من ذلك، ففي حين عمد فنانون خطاطون كثيرون إلى صياغة أشكال واقعية من الأحرف العربية أو الفارسية، وارتكز آخرون على زخرفة نصوص قرآنية كريمة أو نصوص أخرى بأساليب مبتكرة، إلا أن بوزورجي لم يدّع تقديم نص مقروء ولا هو أراد ذلك من الأساس.
ويدعو الفنان الناظرين إلى لوحاته الحروفية إلى أن يقرؤوا فيها ما تدل وتشير إليه التموجات والارتجاجات والتحولات، تماما كمـا يفعـل محلل الصـور الصوتية أو متفحص المخططات والأرقام التي تنطبع على البيانات العلمية المرتبطة بحركة الزلازل والبراكين، الاستباقية منها والتي هي قيد الحدوث. وهذا التأثر بعلم الرياضيات والهندسة وهذه الدقة والصرامة والصبر على تنفيذ التفاصيل كي تكون مثلما أرادها الفنان تماما ينبعان من خلفيته الدراسية حيث درس محمد بوزورجي (مواليد 1978 بطهران) الهندسة الطبية الحيوية قبل الدخول إلى مجال الفنون البصرية.
وتتميز لوحة الفنان باعتماد تقنية “التماثل” أو “التوأمة” المعروفة والمعتمدة في علم الهندسة المعمارية، إذ تبدو بعض أقسام اللوحة وكأنها تعيد تكرار ذاتها حرفيا في القسم المواجه والآخر لها من اللوحة. ويبدو أن هذه الظاهرة التي تشبه انعكاس مشهد في المرآة مرتبطة بتقنية هندسية وعلمية، إلاّ أنها تلقى صداها أيضا في مبدأ اللانهائية والتكرار الذي يتجلى في الفن الإسلامي.
كما يعتمد الفنان أسلوبا فنيا/علميا وهو عملية التناظر لوصف الصراعات الأرضية بين البشر، ويظهر ذلك في رسمه لكلمات تتكرر متشابهة وتتقارب فتتلاقى أو تتصادم في لانهائية مريبة تنذر بالأعظم، غير أن الفنان كما لو أنه استدرك الأمر في بعض اللوحات، فأعاد بث أشعته الحروفية ليثبت حضور الأمل وما سيجلبه من انفراجات وانقشاعات تبدو في بعض اللوحات انقشاعات هائلة. وخطوط الفنان المرنة والانسيابية والهادرة كالماء ليست من هذا العالم تكرس أفكارا صوفية، ولكن بلغة هندسية رياضية أطلق عليها يوما ما العالم ألبرت أينشتاين اسم “لغة الكون”، وهي لغة أساسها التوازن والتبصّر، لغة وسيطة بين الجحيم والهناء، لغة تعيد الأمل إلى حيث ترسّخت العتمة ومدت عميقا أوصالها.