بين غياب الإستراتيجية والأوهام المنهارة
تركيا.. تحولات الانقلاب والاغتيال على الأخوان
تشهد توجهات أنقرة والدولة التركية في السياسة الإقليمية والدولية تحولات بزوايا حادة، نتيجة أحداث في الأشهر الماضية، حيث ابتعدت تركيا عن السياسة الأمريكية بعد الانقلاب الفاشل، ورفض الولايات المتحدة تسليم المعارض التركي فتح الله جولن، الذي تتهمه أنقرة بالوقوف خلف الانقلاب.
اقتربت تركيا من روسيا نكاية بالولايات المتحدة، رغم منسوب التوتر مع روسيا، الذي أعقب إسقاط مقاتلة روسية بنيران تركية، وتجلى في سوريا وحلب تحديدا، زاده تعامل روسيا بعقلانية أراحت تركيا، فيما يخص حادثة اغتيال السفير الروسي من قبل ضابط تركي خدم في حماية أردوغان شخصيا 8 مرات، حسب وسائل إعلام تركية.
في هذا التقرير، وعبر خبراء في الشأن التركي، نحاول قراءة التحولات التركية على القضايا العربية، وعلى الأخوان المسلمين، من اليمن حتى مصر، المقيمين في الأراضي التركية، وبدعم إعلامي ومالي تركي، وهم الذين كانوا إلى ما قبل التحولات الحادة الأخيرة يشكلون عبئا عليها وإحراجا، تجلى في تصريحات مسئولين أتراك.
ففي أبريل الماضي وجه عمر فاروق قورقماز، مستشار رئيس الوزراء التركي، رسالة شديدة اللهجة إلى العرب المقيمين في تركيا، والذين يشكل (الإخوان) قسما ضاربا منهم، قائلاً إنهم "يهددون الديمقراطية في تركيا بالفشل، بعد أن أفشلوها في بلادهم".
وتعد هذه أقوى رسالة من مسئول تركي منذ فتحت تركيا أراضيها لاستقبال المواطنين العرب من دول (الربيع العربي)، وفي القلب منهم الإسلاميون المصريون واليمنيون، الذين توجهوا إلى تركيا عقب إطاحة الجيش في مصر بالرئيس محمد مرسي في 3 يوليو 2013. وعقب اجتياح الحوثيين صنعاء في سبتمبر 2014.
وأضاف قورقماز في مقابلة مع قناة (الحوار): "من يريد أن يساعد أو يخدم المصالح التركية من إخواننا العرب أتمنى ألا يتجاوز سياسة حزب (العدالة والتنمية)"، في إشارة إلى خروج بعض الإسلاميين المقيمين في تركيا على سياسات الحزب الحاكم ذي الجذور الإسلامية.
وتابع: "هناك نعرات وشعارات أكثر بكثير من حجم تركيا عند بعض إخوتنا العرب، وبالتالي هذا يجعل بعض الأصدقاء الغربيين يخافون من تركيا أكثر من اللزوم.. فتركيا دولة وطنية في نهاية المطاف.. دولة ديمقراطية وستبقى ديمقراطية ولن تتجاوز المعايير الإنسانية ولا المعايير الدولية". وأشار إلى أن "بعض الأطراف الصغيرة تطلق بعض الشعارات بأن تركيا كذا.. وهذا سيكون مرعبا، في حين أن هذا المشروع الذي نادوا به قد فشل وأفشل المشروع الديمقراطي في بلدانهم، والآن لا أريدهم أن يفشلوا مشروع الديمقراطية في تركيا".
وتركيا تعد أبرز حلفاء (الإخوان المسلمين)، وقد فتحت أراضيها لاستقبال المصريين الرافضين للإطاحة بمرسي، ويقدر عددهم بالآلاف، دون فرض قيود على تحركاتهم داخل البلاد. ونظمت رابطة (الأكاديميين العرب)، ومؤسسة (النهضة اليمنية التركية)، وشركة (عدن بريز) مهرجان (شكرا تركيا) كـ(رسالة شكر) من شعوب الربيع العربي المتضررة، إلى الشعب والحكومة التركية، على مواقفها الداعمة لتلك الشعوب، بحسب المنظمين.. إلا أن ذلك الشكر لم يجد ارتياحاً تركياً، كما كان يرجو الأخوان في اليمن.
ويقول خبراء في الشأن التركي إن النقمة التركية ازدادت حدتها على الأخوان اليمنيين في أراضيها بعد التقارب التركي الروسي الإيراني. ويقيم في تركيا أبرز قيادات الأخوان اليمنيين، ولديهم مشاريع إعلامية ومالية، أبرزهم الشيخ القبلي والملياردير الشاب وأبرز داعمي الأخوان باليمن حميد الأحمر، وكذا الناشطة الفائزة بجائزة نوبل توكل كرمان، التي تدير قناة تلفزيونية تملكها من تركيا (قناة بلقيس)، وعشرات القيادات الوسطية في الحزب.
وقالت مصادر إعلامية تعمل في قناة بلقيس إن الأخوان اليمنيين بدؤوا جديا في التفكير بنقل أنشطتهم إلى دول أوروبية كبريطانيا وفرنسا وإسبانيا، وكذا نقل أرصدة مالية لهم من تركيا.
وغالبا ما شكلت علاقات تركيا بالولايات المتحدة عاملا حقيقيا في توجهات السياسة التركية سلبا أو إيجابا نحو العرب وقضاياهم، وحاليا تحمل تركيا الولايات الوحدة وحليفها غولن المسئولية عن جميع كوارثها الحديثة، من إسقاط الطائرة الروسية مرورا بمحاولة الانقلاب إلى اغتيال السفير الروسي.
وهنا نترك للخبير في الشأن التركي شون مكميكين الأسطر القادمة ليجول في تلك العلاقة عبر مقال كتبه في صحيفة (أمريكان إنترست) ونقله موقع (ترك برس) تحت عنوان (هل تتكاتف تركيا وروسيا ضد الولايات المتحدة لمطالبتها بالتحقيق في اغتيال كارلوف؟)
يقول شون: "التحقيقات التي تجرى على إثر عملية اغتيال السفير الروسي يمكن أن تساهم في تقارب كل من روسيا وتركيا، وذلك لتعزيز الجبهة ضد الولايات المتحدة التي طالبت بالقصاص من قتلة السفير، أندريه كارلوف.
إن عملية القتل التي تعرض لها السفير الروسي في أنقرة تعد من أسوأ الكوابيس الجيوسياسية لأي دولة، حيث أنها تشبه عملية الاغتيال التي حدثت في سراييفو سنة 1914 لتشعل شرارة الحرب العالمية. لكنها لا تدخل ضمن الإرهاب السياسي، الذي ساهم في اختلال التوازن الأوروبي الهش إثر حرب البلقان في سنتي 1912 و1913.
ساهمت هذه العملية في احتقان شوارع مدينة أنقرة، التي شهدت إطلاق النار من مسدس القاتل التركي على الدبلوماسي الروسي، واحتجاجات مناهضة لسياسات روسيا في سوريا. والجدير بالذكر أنه في نفس اليوم، كان وزير الخارجية التركي سيتجه نحو موسكو من أجل الوصول إلى تسوية بشأن الأوضاع في سوريا.
ويبدو أن هذه العملية ستؤثر على العلاقات الروسية التركية، التي عمل كلا الطرفين في الأشهر الأخيرة الماضية على تحسينها وتطويرها.
فقد شهدت العلاقات بين البلدين تأزما في الشتاء الماضي، على إثر إسقاط طيار تركي طائرة روسية من طراز سوخوي (سو-24) على مقربة من الحدود السورية في تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2015. وعقب الانقلاب العسكري الفاشل الذي تعرضت له تركيا، صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بأن الطيار المسئول عن تلك العملية تابع لحركة غولن، التي خططت للانقلاب، كما أنه قدم بعض التنازلات بغية التقرب من بوتين من خلال دعم سياسته في سوريا، ولكن في الأشهر الأخيرة وبسبب الأخطاء الجسيمة التي ترتكبها روسيا في حلب تراجع أردوغان عن موقفه.
رغم أن الأوضاع لا تنذر بالخير، إلا أن هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى أن العلاقات بين الدولتين لن تتدهور، وأن التقارب بينهما سيستمر.
بادئ ذي بدء، بادر الجانب التركي بتقديم التعزية وعبارات التعاطف والمواساة للطرف الروسي، في غضون دقائق من حدوث الاغتيال. يمكن أن يبدو هذا أمرا غير مثير للاهتمام، ولكن في العديد من الحوادث المشابهة، لا يُقدم الرؤساء على تقديم خالص تعازيهم فورا. فمنذ سنة مضت، رفضت تركيا تقديم اعتذار عن إسقاط الطائرة الروسية، وهو ما أدى إلى تأزم العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بشكل كبير.
أما بالنسبة لروسيا، فبعد عملية اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند في 28 حزيران/ يونيو 1914، رفضت معظم سفاراتها في أوروبا خفض أعلامها كبادرة لإظهار تعاطفها. خاصة وأن مثل هذه اللفتات الرمزية لها تأثير دبلوماسي كبير على العلاقات بين الدول.
بالإضافة إلى ذلك ليست روسيا وتركيا هما الطرفين المعنيين بهذه العملية، فكل الدلائل الأولية تشير إلى أن حكومة أردوغان توجه أصابع الاتهام إلى المنظمة الإرهابية التابعة لفتح الله غولن، المسئولة عن الانقلاب العسكري الفاشل في تموز/ يوليو 2016.
وستسعى الحكومة الروسية بكل السبل المتاحة إلى إجراء تحقيقاتها الخاصة في عملية الاغتيال، لكن بالطبع ستتقيد بالشروط التي ستفرضها تركيا. ولكن رغم ذلك فإنه بسبب حالة الطوارئ (وهي أقرب إلى الحكم العرفي) التي أعلنها الرئيس التركي في الصيف الماضي، سيصعب على روسيا دحض الفكرة التي تقول بأن حركة فتح الله غولن هي التي تقف وراء عملية الاغتيال.
ومن هنا دخلت الولايات المتحدة في هذا المشهد الدبلوماسي، فالأمريكيون لا يصدقون بأن رجلا طاعنا في السن كفتح الله غولن يمكن أن يدبر لمثل هذا الانقلاب العسكري الضخم من منفاه في جبال بوكونو ببنسلفانيا، ناهيك عن قدرته على التدبير لمثل هذه الاغتيالات السياسية.
ولا تزال أنقرة تحت الحكم العرفي منذ حدوث الانقلاب، لذلك ينبغي على الولايات المتحدة أن تدرك أنه ليس أردوغان فقط هو الذي يؤمن بأن فتح الله غولن هو المسئول عن كل ما يحصل، بل أيضا الملايين من الأتراك. وهو ما يثير عدة تساؤلات حول أسرار الحماية التي يحظى بها غولن من أصدقائه في واشنطن.
وإلى حد الوقت الراهن، رفضت الولايات المتحدة طلب تركيا بتسليم غولن حتى عقب قطع أردوغان التيار الكهربائي عن قاعدة (انجرليك) الجوية في جنوب شرق تركيا، التي قامت في مرحلة لاحقة بتطويقها بقواتها.
فماذا سيحصل إذا طالبت روسيا أيضا بتسليم غولن لمحاكمته بتهمة التدبير لاغتيال سفيرها لدى أنقرة، أندريه كارلوف؟.
يبدو هذا من الوهلة الأولى احتمالا مستبعدا، بيد أن الأخبار التي راجت بمجرد حدوث العملية تحدثت عن إمكانية تحسن العلاقات التركية الروسية وتكاتفهما معا لمطالبة الولايات المتحدة بتحقيق العدالة، وإجراء بحث دقيق في مقتل كارلوف. ومثل هذا التحول في الأوضاع يتماشى مع الاتجاهات التي تتوخاها الدبلوماسية الإقليمية الحديثة، على الرغم من أن هذه الدبلوماسية لم تلق نفس الصدى في حلب.
لنعرف مدى حجم وخطورة هذا التحول، يجب علينا أن نعود إلى آخر مرة تم فيها اغتيال سفير دولة عظمى من قبل الإرهابيين؛ وهو سفير الولايات المتحدة في ليبيا، كريس ستيفنز، الذي قُتل في 11 من أيلول/ سبتمبر 2012، حيث ساهم هذا الهجوم في إحداث ضجة في وسائل الإعلام والأوساط السياسية. والجدير بالذكر أن السفير ستيفنز كان يعمل في منطقة غير مؤمنة نسبيا.
كانت الولايات المتحدة تنسق فيما مضى مع مسئولين أتراك لدعم المعارضة في سوريا، ولكن وبعد مرور أربع سنوات تفطن الرئيس التركي إلى الخطأ الجسيم الذي ارتكبه بتسليحه لهذه الجماعات. وغداة ذلك، أبدى استعداده لمد يد التعاون لبوتين، على الرغم من دعمه لبشار الأسد، الذي تعهد أردوغان بالإطاحة به.
السبب الذي جعل أردوغان يعيد النظر في سياسته التي يعتمدها في سوريا هو سبب بسيط جدا، حيث أنه بدأ يشعر بخيانة الولايات المتحدة له، خاصة مع دعمها (المحتشم) له إبان محاولة الانقلاب الفاشل، وتجاهلها لطلبه بتسليمه غولن. على خلاف روسيا التي أبدت استعدادها لدعم الحكومة التركية قبل وبعد الانقلاب، حتى أنهما تبادلا برقيات استخباراتية ساعدت أردوغان على النجاة من الهجوم الذي شنته عليه طائرة هليكوبتر في فندق (مارماريس).
لكن اعتماد الولايات المتحدة نفس هذا الأسلوب مع تركيا سيكون له عواقب وخيمة. إن تهجّم الولايات المتحدة الأمريكية على دولة مستقرة كتركيا، والتي تعد قرابة 80 مليون ساكن، وفي الوقت ذاته تفتح أبوابها للاجئين السوريين الذين ساهموا في تعميق المشاكل التي تواجهها تركيا، سيحدث كارثة عالمية في حال تأزمت الأمور أكثر.
لا يمكن أن نجزم، في الوقت الراهن، بضلوع فتح الله غولن في التخطيط للانقلاب الفاشل، أو إسقاط الطائرة الحربية الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي، أو حتى بتدبيره لمقتل السفير الروسي أخيرا، مادامت الولايات المتحدة تواصل حمايته. ومع ذلك فإن معاداة تركيا للولايات المتحدة الأمريكية ستتواصل، وهو ما سيسمح لبوتين بأن يكسب ولاء بقية الدول الأعضاء في الناتو.
في السياق نفسه، مهما كان المنطق الاستراتيجي الذي تعتمده الولايات المتحدة لتبرير علاقتها الوطيدة والغريبة مع الإمام المتحصن بجبال بوكونو، والذي عمدت إلى تمكينه من الوقت اللازم لطمس آثار الجرائم التي ارتكبها في الماضي، فإنه ينبغي على غولن الآن مواجهة العاصفة القادمة سواء من واشنطن، أو أنقرة، أو موسكو".
وللتوسع أكثر يمكن قراءة ما كتبه الباحث المتخصص بالشؤون التركية خورشيد دلي عما أسماه (أوهام تركيا وانهيار طموحاتها الجامحة).
حيث يقول دلي: "منذ تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا عام 2002 ومن ثم بسط سيطرته على مؤسسات الدولة عبر فوزه في الانتخابات البرلمانية المتتالية التي جرت، طرحت تركيا نفسها دولة مركزية في المنطقة وقائدة لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحته الإدارة الأمريكية عقب حرب تموز عام 2006، وعلى هذا الأساس تصرفت أنقرة سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً وعسكرياً وثقافياً تجاه قضايا المنطقة، وهي في تحركها هذا انطلقت من بعد تاريخي وجغرافي وثقافي بات يتلخص بـ(العثمانية الجديدة).
واللافت أنه بعد انتفاضات واحتجاجات تونس ومصر وليبيا وما يجري في سوريا، فإن تركيا التي انقلبت على نظرية (صفر المشكلات) انتهجت بعدا طائفيا في سياستها بالشرق الأوسط، وهو ما ساهم في تعميق الانقسامات السياسية في المنطقة على أساس طائفي.
الآن وبعد كل ما جرى في المنطقة من تطورات عاصفة، ثمة أسئلة كثيرة تطرح عن المشروع التركي، من نحو: أين وصل هذا المشروع؟ وهل هو في أزمة؟ وهل فقد مقوماته بعد انهيار حكم الأخوان المسلمين في مصر؟ وكيف سيكون انعكاس ما جرى في المنطقة من تطورات على الداخل التركي؟ والأهم: هل تركيا بمنأى عن التغيرات الجارية في المنطقة؟.
من دون شك، لقد فاقمت تطورات الأزمة السورية ومن بعدها أحداث مصر وتداعياتها الكثيرة، فضلاً عن انتفاضة ساحة تقسيم في اسطنبول وتعزز احتمال فشل السلام التركي - الكردي من أزمة السياسة التركية، ووضعت حكومة أردوغان أمام جملة من التحديات الصعبة.
الأزمة السورية وانسداد السياسة التركية
تبدو السياسة التركية إزاء الأزمة السورية وكأنها وصلت إلى طريق مسدودة، فلغة التهديدات التي أطلقها أردوغان وحديثه المتكرر عن الفرصة الأخيرة وعدم السماح بتكرار ما جرى في حماه وصولاً إلى دعوته الرئيس السوري بشار الأسد إلى التنحي على غرار ما فعله مع حسني مبارك، هذه السياسة استنفدت مصداقيتها، وباتت وبالا على الدبلوماسية التركية العاجزة عن التحرك، خصوصاً في ظل بقاء النظام السوري الذي انتهج سياسة صارمة تجاه الضغوط التركية.
وفي الواقع يمكن القول إن ثمة أربعة عوامل أساسية تقف وراء التحول التركي هذا:
1- فشل تركيا عبر المجموعات المسلحة كجبهة النصرة والدولة الإسلامية بالعراق والشام في القضاء على النفوذ العسكري والسياسي لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وقد كانت معركة رأس العين (سري كانية باللغة الكردية) معركة فاصلة في هذا المجال، دفعت بالقيادة التركية إلى الاقتراب من الحزب الكردي في محاولة جلبه للانخراط في سياستها الإقليمية وتحديداً تجاه الأزمة السورية.
2- إدراك تركيا أن دعمها للمجموعات الإرهابية بات يشكل عبئاً أمنياً وسياسياً ودبلوماسياً وأخلاقياً عليها، خصوصاً بعد تعاظم نفوذ هذه الجماعات، والتي باتت تشكل خطراً على المنطقة بأكملها، بما في ذلك تركيا.
3- أن تركيا باتت تجد حرجاً سياسياً كبيراً، خصوصاً مع واشنطن، في تعاملها مع المعارضة السورية، فليس خافياً أن واشنطن تريد أن يكون المشهد على الأرض خاضعاً لسيطرة الجيش الحر الذي ابتلعته عملياً جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام، فيما تركيا تدعم جبهة النصرة بشكل أساسي وتستخدمها كأداة لتحقيق أهدافها التدميرية في الساحة السورية، وبسبب ذلك تفاقمت الأمور في كل الاتجاهات، ومثل هذا الأمر يتناقض مع توجهات واشنطن التي وضعت جبهة النصرة على لائحة الإرهاب، كما أن أردوغان بات محرجاً في الداخل في ظل ارتفاع الأصوات المعارضة لسياسته إزاء الأزمة السورية والتحذير من دعم حكومته للمجموعات الإرهابية المتشددة، والتي باتت تشكل خطراً على الداخل التركي نفسه.
4- السعي التركي الحثيث إلى كسب المكون الكردي السوري إلى جانبها، وذلك لتحقيق جملة من الأهداف، منها دفع الأكراد إلى الانخراط عملياً في معركة إسقاط النظام السوري، بعد أن ظلت مناطقهم هادئة نسيباً، واستغلال المكون الكردي لتحقيق الطموحات التركية الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وهي نفس السياسة التي تقف وراء سعي أردوغان إلى التقرب من زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان باسم السلام. بمعنى آخر، أن تركيا ربما باتت تسعى إلى استبدال تحالفها مع جبهة النصرة وباقي التنظيمات الإرهابية بالتحالف مع الأكراد بعد أن أصبحت هذه التنظيمات وبالاً على السياسة التركية، ولعل ما يشجع تركيا أكثر في انتهاج هذا الخيار هو أن المناطق التي يسكنها الأكراد في سورية تشكل الخزان الاستراتيجي للنفط والغاز في البلاد، وهي في صلب المطامع التركية.
أردوغان والخسارة الإستراتيجية في مصر
تبدو تركيا أردوغان الدولة الأكثر تضرراً من سقوط حكم الأخوان المسلمين في مصر، فمنذ اللحظة الأولى لإعلان إنهاء حكم مرسي على وقع التظاهرات المليونية بادر أردوغان إلى إعلان رفضه ما جرى، داعياً الدول الغربية إلى التدخل لإعادة مرسي إلى سدة الرئاسة عبر وضع كل ما جرى في إطار الانقلاب العسكري، لكن الثابت أن الموقف التركي هذا لم يكن نابعا من التمسك بالشرعية والديمقراطية بقدر ما كان نابعا من الإحساس بخسارة حليف استراتيجي راهنت عليه أنقرة في إقامة شرق أوسط جديد بقيادة تركيا عبر إيصال القوى الإسلامية وتحديداً حركة الأخوان المسلمين إلى السلطة، في ظل ما تشهده المنطقة العربية من تغيرات كبيرة. وعليه فإن سقوط حكم مرسي ضرب المشروع الإقليمي التركي في مقتل، وجعله أمام امتحان الذات، خصوصاً في ظل تصاعد وتيرة المعارضة التركية في الداخل ضد حكم أردوغان، وتحديداً بعد انتفاضة ساحة تقسيم.
في الواقع، أن الصدمة التركية الكبيرة سببها هو أن خسائر تركيا مما جرى في مصر متعددة الجوانب وكبيرة، فالثابت أن هذه الخسائر ليست آنية أو إيديولوجية فحسب، وإنما تتضافر مع بعضها البعض على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية على شكل ضربة إستراتيجية للنموذج التركي ومحاولات تصديره إلى المنطقة عبر الاقتصاد والثقافة والممارسة السياسية، وفي النهاية المشروع الاستراتيجي.
التوتر مع الجوار الجغرافي
تزامنا مع التغيرات العاصفة التي جرت في مصر، تشهد العلاقات التركية مع دول الجوار الجغرافي، وتحديداً إيران والعراق وروسيا وأرمينيا، حالة من التوتر بعد سنوات من التحسن في علاقات تركيا مع هذه الدول.
في الواقع، لقد جعل أردوغان (انطلاقاً من طموحاته العثمانية الجامحة) تركيا سفينة لا تعرف الإبحار إلى أين وكيف.. فهو تارة يريد تركيا دولة قائدة للعالم الإسلامي، وأخرى جسراً بين الشرق والغرب، وثالثة تابعة للغرب وأداة لسياسته، ورابعة منفذة لإقامة مشروع الشرق الأوسط الأمريكي... وفي كل هذا انهيار للمصداقية في الداخل وتوتر مع الجيران، ولاسيما مع الدولة الإقليمية الكبرى في المنطقة، والتي لها إستراتيجية مختلفة عن المشروع التركي الإقليمي، الذي بدا، بعد ما جرى في مصر، وكأنه سقط تحت وقع الأوهام والطموحات الجامحة.