قصة قصيرة..

معلمتنا ونحن في نزهة على ضفاف البحر الوافر

اهداء لمقام الاستاذة القديرة والمربية الفاضلة نجاة سالم

قاسم الذيباني

توقفت بقامتها المعتدلة وطلعتها البهية عند الباب تتأهب للولوج الى الفصل 4\5 ..إذ ارسلت ذراعها الايسر لتزيح بلطف باب الفصل .. وقد تأبطت بيمينها بعض الأوراق..
اندلقت إلى الفصل بحركة نصف دائرية ، و يسارها لاتزال ملتصقة بالباب تدفعه .. وتثبته حيناً لتسمح بدخول ثلة من الطلاب المتأخرين خلفها .. ومع استدارتها استغلت تلك اللحظات القليلة لتتبادل تحية الصباح مع زميلاتها المعلمات عند مرورهن أمامها متجهات إلى الفصول الأخرى..
مع دخول آخر طالب أوصدت الباب ثم أخذت مكانها وانتصبت أمامهم كقطعة من اشراقة الصباح .. وهي بكامل أناقتها وهيبتها..
هندامها المميز بألوانه الزاهية يسر الناظرين .. وبشاشة محياها الوضاء تبعث الأمل في النفوس..
لا غرو في ذلك لأنها ترعرعت في زهرة المدائن .. عدن تلك المدينة الساحرة التي فتحت ذراعيها على امتداد شواطئها الذهبية لتحتضن حضارات وثقافات جميلة ومتنوعة.. ومنها أرتشف ساكنو تلك المدينة في ذلك الزمن ، الرقي والنقاء ، والثقة بالنفس..
صباح الخير .. حيتهم بها .. وما إن ردوا التحية .. بصباح النور .. استدارت لتواجه السبورة ثم بدأت تطبع عليها بخط جميل تاريخ اليوم وعنوان الدرس..
وفي منتصف اللوحة السوداء رسمت بيتاً لقطري ابن الفجاء..

أقول لها وقد طارت شعاعا $$ من الأبطال ويحك لن تراعي

ولما فرغت من ذلك أعادت الطبشور إلى علبته.. بعد أن نقرت برأسه ظهر الطاولة لجذب انتباههم .. والتركيز على ما ستقول لهم ..

قبل أن نبدأ درس اليوم .. سنرى هل اكملتم الواجب المنزلي للدرس السابق.. هكذا استهلت حديثها مع الطلاب ..
ثم انطلقت تتجول في أنحاء الفصل ، الذي تتكئ على أرضيته الأسمنتية اثنى عشر طاولة تتسع كل منها لطالبين .. وقد وزعت الى ثلاثة صفوف طولية يتخلل كل صفين ممر ..
أخذت تتفحص كرّاساتهم .. بدءا بطاولته التي تقبع أقصى يمينها بالمقدمة .. تهز رأسها تعبيرا عن رضاها مثل كل مرة .. ثم تجاوزته للتأكد من بقية الطلاب .. مرسلة بصرها يسرة ويمنة..
تعتز كثيرا بهذا الفصل النموذجي كونها المربية المشرفة عليه .. سيما وأنه يحوي نخبة من الطلاب المتفوقين الذين يخوضون معركة تنافسية شرسة ..
اتجهت للناحية الأخرى.. وهكذا استمرت بالتدقيق..
توقفت قليلا عند إحدى الطالبات المجتهدات.. حيث لمحت على غلاف كراستها صورة لمطرب عربي شهير ..
وكزت الكراسة بطرف اصابعها.. وبدون أن تنبس بكلمة ، رمقتها بنظرة امتعاض .. ثم اعقبتها بنصف ابتسامة، في مسحة تربوية حانية .. لترفع الحرج عن تلك التلميذة التي علا وجهها حمرة خجل وتكورت بجسمها النحيل على مقعدها الخشبي .. وملامحها توحي بأن الرسالة وصلت ..
انتهت من جولتها التفقدية.. وعلامات الرضا مرسومة على صفحة وجهها ..
ثم غاصت بهم في بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي.. ذلك العلم الممتع .. الذي زادته متعةً بأسلوبها الشيق في تبسيط الدروس..
غاص الجميع في اعماق البحر الوافر .. وهو فعلا بحر جميل كما يقول مفتاحه:
بحور الشعرِ وافرها جميل ُ

وأخذت تتشاطر معهم اطراف النقاش ، وتمنح الجميع فرصة بالمشاركة..
وفي الأسئلة متوسطة الصعوبة لا ترتفع إلا أيادي قليلة .. تتعمد حينها عدم النظر إليه .. فتدير حدقتي عينيها وترسل بصرها إلى أنحاء الفصل البعيدة ... لتتيح الفرصة لباقي زملائه الذين يتنافسون معه على المراكز الأولى..
لأنها تدرك بأن دوره سيأتي في الأشياء الصعبة التي لا ترتفع فيها إلا يده .. حيث كانت تعتبره فارس النحو والعروض الذي لا يشق له غبار ..
لكنها كانت ترى بأن مستواه في الإنشاء..أقل قليلا من المطلوب حيث كان يخسر نصف علامة وهي على بساطتها تمثل شيئاً في تلك الأجواء التنافسية ..
احتدم النقاش وتشعبت جوانبه الممتعة.. وأخذ الكل نصيباُ في المشاركة وتقطيع بعض الأبيات بعد تشكيلها ثم كتابتها عروضيا..
حتى أولئك النفر المشاغبين في الصفوف الخلفية ..الذين كانت تنهرهم بعض أوقات.. بمفردات مثل (عادكم تتشوهوا ) .. أو( معكم مخدرة ) وهي ألفاظ لا توجد إلا بالقاموس العدني .. وعلى القادم إلى عدن البحث عن معانيها الطريفة..
استمر الإبحار في سفينة الفراهيدي حتى ارتفع صوت الجرس معلنا انتهاء وقت الحصتين الأولى والثانية.. وبدء وقت الاستراحة الأولى..

اهداء لمقام الاستاذة القديرة والمربية الفاضلة  نجاة سالم

تلميذك المخلص  قاسم


بعد ما يزيد على عشرين عام تمكنت بصعوبة من الوصول إلى إحدى معلماتنا الفاضلات ، اللائي لهن الفضل بعد الله في تربيتنا وتعليمنا وصقل مواهبنا ..

بعثت لها بالرسالة أعلاه و كان لها بالغ الأثر في نفسها ..
كان يميز التعليم في العاصمة #عدن أن تلك المهمة أسندت غالباً للكوادر النسائية لذلك كنا نجد الاهتمام والجدية والانضباط واللمسات التربوية الجميلة ..
أعلم أن كثير منكم يحمل في قلبه من مشاعر الوفاء والذكريات الجميلة ..
نصيحتي لا تحبسونها في صدوركم ..
أخرجوها لتزين نفوسكم وتوثق علاقاتكم .. وتشعر الآخرين أن الدنيا بخير