القضية الجنوبية..
تحليل: المفاوضات اليمنية ومستقبل قضية الجنوب
لم يعد واضحا للمبعوث الأممي مارتن جريفيثس إلى أين سيمضي بالمستقبل السياسي لليمن، بعد أن توصل إلى طريق مسدود وفشل في أول محاولة لجمع أطراف الأزمة في السادس من سبتمبر الفائت، ولم يعد هناك إطار معين يحدد طبيعة المفاوضات وأطرافها وحدودها.
جريفيثس أعلن عقب تعيينه مبعوثا لأمين عام الأمم المتحدة إلى اليمن خلفا للموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أن أولى مهامه ستكون العمل على إيجاد ما أسماه (إطار) للمفاوضات من شأنه أن يسمي الأطراف المشاركة ويضع خطوطا عريضة لحدود التفاوض والتسوية وفقا للمرجعيات الثلاث، لكن زياراته المكوكية بين لندن والرياض وأبوظبي ومسقط وصنعاء لم تعنه على رسم ذلك الإطار واستسلم أخيرا لمتناقضات الواقع اليمني وضغوط الأطراف السياسية النافذة فيه حتى وإن كانت غير ذي ثقل وقوة على الأرض، فمثلما استجاب لشروط الحوثيين وحكومة الشرعية بعدم إشراك المجلس الانتقالي الجنوبي وبعض المكونات الأخرى والاكتفاء بالتحاور بين هاتين القوتين يتحرك اليوم لاستئناف المسار السياسي بضغوط باتت ذات بُعد خارجي وذات أجندات دولية أدركت أخيرا طبيعة الحرب وأدوات تحريكها وتوجيهها سياسي.
جهود المبعوث الأممي تسير نحو إطلاق مفاوضات جديدة في السويد وبدعم الدول الكبرى، في إشاره ضمنية إلى توافق دولي وقرار اتُّفق عليه لحسم أمر الحرب في اليمن بغض النظر عن الكلفة والمكاسب التي سيخرج بها كل طرف. وبغض الطرف عن طبيعة التسوية وعن شكل الخارطة السياسية ليمن ما بعد الحرب وما بعد التسوية، فإن الجنوب ستظل هي المسألة الشائكة والقضية المرحّلة إلى دوامات صراع قادم بين الشمال والجنوب نظرا لاجتزاء تطلعات شعب الجنوب والتعامل معها كهامش في إطار صراعات الشمال وكقوة حزبية أو جماعة سياسية لا تمثل استقلالية ولا تحمل مشروعا وطنيا معترفا به.
الأمم المتحدة وأمريكا وبريطانيا وفرنسا تسعى إلى مفاوضات يمنية دون «إطار جريفيثس» وتحضّر لتسوية لم تعد المرجعيات الثلاث ملزمة أو ضرورة فيها، ما يعني أن كل الأطراف اليمنية وكذلك الجنوب ستكون مع هذه التحركات أمام مفترق طرق وأمام مصير منتظر يرجح معه تصاعد حدة التوتر في حال تم فرض حلول تتجاوز الإرادة الشعبية في الجنوب أو لم تتعامل مع الوضع في الشمال بواقعية سياسية تعيد التوازن بين القوة القبلية والأحزاب السياسية وما بينهما المذهب الديني الذي يحرك القبيلة والحزب كواقع متأصل في الشمال.
فشل جريفيثس في رسم الإطار العام للمفاوضات كان نتيجة لعوامل عدة بينها الضغط الذي تمارسه الشرعية اليمنية وجماعة الحوثي على المبعوث الأممي بوضع تصورات تقليدية وشروطا مسبقة لآلية الحوار وطبيعة المفاوضات ومقترحات الحل، وتعثر المحاولة الأولى في جنيف كان نتيجة لهذه النمطية اليمنية، ما دفع الأمم المتحدة والدول الداعمة إلى تبني مفاوضات جديدة تحيد عن هذه التصورات وعن الشروط المسبقة والمقترحات التي أثبتت فشلها خلال فترات ماضية، ما يعني أن المبادرة الخليجية والقرارات الأممية ستكون أمام تحدّ واضح فيما سيطرح على المتفاوضين في السويد.
تجاوز المرجعيات قد يأتي من خلال سعي بريطانيا إلى استصدار قرار جديد من مجلس الأمن، بهدف تحييد القرارات السابقة - لا إلغائها - والعودة للتعامل مع الواقع اليمني والجنوب من نقطة قريبة من الصفر فرضتها المتغيرات والتغيرات في موازين القوى التي أنتجتها العمليات العسكرية لعاصفة الحزم بناء على توزيع خارطة السيطرة ومناطق النفوذ للقوى اليمنية والجنوبية المتصارعة؛ وهو ربما ما تشير إليه مبادرة وزير الدفاع الأمريكي جميس ماتيس بشأن «الحكم الذاتي» في مناطق السيطرة.
هذه ليست المرة الأولى التي تتجاوز فيها الأمم المتحدة قراراتها في اليمن، إذ فرض نظام علي عبدالله صالح والقوى الشمالية في العام 1994م واقعا جديدا على الجنوب باجتياحه عسكريا وحكمه بالقوة فتعاملت الأمم المتحدة مع هذا الوضع كأمر واقع تجاوز قراري مجلس الأمن (924) و (931) اللذين دعيا طرفي الحرب (الشمال والجنوب) إلى العودة إلى طاولة الحوار لتسوية الأزمة قبل أن تحسم عسكريا.
وبعيدا عن تكهنات ما سينتج عنه مشروع القرار الذي تقدمت به بريطانيا فأن تجاوز القرارات (المرجعيات) السابقة بما فيها المبادرة الخليجية لا يعني بالضرورة اعترافا بقضية الجنوب أو إعادة الأزمة إلى أسها وجوهرها كصراع بين الشمال والجنوب أو وحدة بين دولتين وفشلت.. تجاوز المرجعات يعني إعادة التعامل مع الشأن اليمني ببراجماتية دولية خاضة لمصالح ونفوذ لا تأخذ بالضرورة مصلحة الجنوب ولا حتى الشمال أيضا، ما يعني أن استقلال الجنوب سيكون في طيات قرار دولي إن وجدت أرضية جادة وقوى سياسية واقعية تتعامل مع العالم ببعد استراتيجي وأفق منفتح على نفسه وعلى محيطه الإقليمي.
«الحكم الذاتي» الذي طرحته المبادرة الأمريكية لا يحمل- مبدئيا- أي جديد يحقق لشعب الجنوب شيئا من تطلعاته نحو تقرير المصير وتحديد مستقبله السياسي إن أُعطي للجنوب بناء على الطريقة اليمنية أو وفقا لرغبات حكومة الشرعية، بل قد يكون المسمار الأخير في نعش الجنوب إن لم تتعامل معه قوى الجنوب وفي مقدمتها المجلس الانتقالي بمسؤولية تضمن إبقاء المشروع الوطني السياسي للجنوب وهدف الاستقلال في الواجهة، وإن لم يحسم أو رفض التعاطي معه في هذه المرحلة.. بمعنى أن القبول بتسوية لا تضمن لشعب الجنوب حق تقرير المصير وفقا للقانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة ،في أدنى الأحوال، هو إعادة «إهداء» الجنوب للشمال بطريقة مشرعنة دوليا.
دون إعادة النظر في الخارطة الجيوسياسية للشمال والجنوب، وبالقفز على التركيبة الديموغرافية لن تكون هناك أي حلحلة حقيقية للأزمة والحرب، ولن يحقق أي قرار دولي استقرارا في المنطقة، وبالتالي تظل كل الجهود والقرارات التي تتجاوز (الخارطة والتركيبة) تسير في حلقة مفرغة تؤسس لمزيد من الصراعات والأزمات في اليمن.