تكريس وجوده للقبض على راية الخلافة..
تقرير دولي: تنظيم داعش ينافس القاعدة على دور حيوي في اليمن
لن تهدأ المطاردة بين تنظيمي داعش والقاعدة، بعد أن انتقلت عناصرهما إلى أماكن مختلفة، ويتمنّى كل تنظيم تكريس وجوده للقبض على راية الخلافة بالطريقة التي يريدها، ويجبر القوى الأخرى على الرضوخ لطموحاته. ودخلت على هذا الصراع جهات متباينة، تحاول ضبطه وتغيير دفّته لصالحها، وتوظيفه في سياق السعي للهيمنة على القرار السياسي. ويعتبر اليمن أبرز هذه الجبهات التي يشهد فيها التنافس بين داعش والقاعدة تصعيدا يرى فيه الحوثيون فرصة لإدامة الفوضى.
أعقبت مقتل زعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب قاسم الريمي، في غارة أميركية في 31 يناير الماضي سجالات إعلامية بين القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كشفت مدى التنافس بينهما في اليمن كساحة محورية لا غنى لكليهما عنها في سياق خطط استعادة الحضور وإعادة بناء القوة في الشرق الأوسط والتمدد نحو أفريقيا.
تميزت علاقة تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في اليمن بمدّ وجزر تحدّدهما مسارات الحرب في هذا البلد بين الحوثيين وقوات الجيش اليمني المدعومة من التحالف العربي، كما عمليات الحرب على الإرهاب التي تشنها القوات الأميركية، من وقت لآخر، لاصطياد رؤوس أنصار القاعدة في جزيرة العرب، ثم رؤوس الدواعش بعد أن دخلوا على خطّ الصراع في اليمن.
في السنوات الماضية، دفع الضغط الشديد القاعدة وداعش إلى الانتقال بعلاقتهما من التنافس على التموقع في البلد واستقطاب أتباع داخل مناطقه القبلية، إلى التنسيق والتعاون في مواجهة خطر مشترك خصوصا بعد الضربات الموجعة على يد قوات التحالف والقوات اليمنية والطائرات الأميركية دون طيار.
لكن ذلك لم يصل حدّ توحيد الجبهات، حيث شهدت السنوات من 2016 إلى 2019، تنافسا حادا كان انعكاسا للتنافس الأوسع بين التنظيمين من الشرق الأوسط (سوريا بشكل رئيسي) وصولا إلى أفريقيا وآسيا. وكانت بداية التنظيم في اليمن مع تفجيرين انتحاريين في مسجدي بدر والحشوش بصنعاء (مارس 2015)، لكن وحشية داعش نفّرت منه اليمنيين خلافا لتنظيم القاعدة.
وبعد انهيار تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، تحول اليمن إلى ساحة صراع دموي بين التنظيمين. ووقعت اشتباكات بينهما في عدة مناطق.
تماسك التنظيم
نشطت الحرب الرقمية بين القاعدة من جهة، وتنظيم داعش الذي كشف مؤخرا عن طبيعة العلاقة بينه وبين القاعدة في اليمن إثر تعليق الأخير على مقتل زعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب قاسم الريمي.
أعلنت مؤسسة الملاحم، الذراع الإعلامية لتنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب، مسؤولية التنظيم عن الهجوم الذي خطط له وقاده الريمي على القاعدة الجوية الأميركية في بينساكولا بفلوريدا في ديسمبر 2019. اللافت في هذا الإعلان أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب لم يعتد الاحتفاء بزعيمه الريمي، المكنى أبوهريرة الصنعاني، مقارنة بالحرص على ذكر مآثر سلفه ناصر الوحيشي، المكنى أبوبصير، الذي قتل في يونيو 2015، وإعادة بث خطاباته، على الرغم من احترافية الريمي ودهائه الحركي والعسكري.
واعتبر الخبراء في الحركات الجهادية أن ذلك دليل على وجود انشقاقات في صفوف القاعدة باليمن. وعززت البيانات الصادرة عن التنظيم تجذّر الخلافات على وقع تباين الآراء حول الأسلوب المتبع في القيادة. وحاول التنظيم التغطية عليها إعلاميا بعد مقتل قائده الريمي كي يبدو متماسكا أمام تنظيم داعش الساعي بقوة للنفاذ مجددا إلى الساحة اليمنية.
وصفت قنوات داعش الريمي بـ”المرتد” في سياق الرد على موقف القاعدة من قتل خليفة داعش أبوبكر البغدادي. ويحمل موقف داعش ازدواجية، فمن جهة رأى في مقتل الريمي فرصة له، ومن جهة أخرى يعتمد في تدريباته العسكرية على منشورات وشروحات الريمي الحركية. ويتبادل أعضاء داعش على مدوّناتهم وقنواتهم شرح الريمي لكتاب “مختصر سياسة الحروب”.
وحرصَ تنظيم القاعدة على ألّا يؤتي توظيف داعش للحدث ثماره، وحاول تدارك الخلاف بين أجنحته حول قيادة قاسم الريمي، معلنا الاحتفاء به دون إثبات مقتله أو نفيه. ويخفي التلاسن بين القاعدة وداعش مساعي الأجنحة المتنافسة داخل تيار السلفية الجهادية لإثبات نفسها وتفوقها ميدانيا، بهدف أن تحظى إحداها قبل الأخرى برعاية وتمويل القوى والأطراف المؤثرة وأصحاب المصالح في الداخل اليمني.
قنوات تنظيم الدولة الإسلامية وصفت زعيم القاعدة في جزيرة العرب قاسم الريمي بـ"المرتد" في سياق الرد على موقف القاعدة من مقتل أبوبكر البغدادي
وبالتزامن مع معايرة داعش للقاعدة بفقدان قيادة عسكرية متمرّسة، في وزن قاسم الريمي، الذي تنسب إليه العديد من العمليات النوعية ضد أهداف غربية ومحلية، وابتكاره فكرة الطرود المفخخة والقتل الناعم بالعطر، كان التنظيم ينشر على قنواته والحسابات المؤيدة له أخبارا عن هجمات يشنها فرعه في محافظة البيضاء وسط اليمن على خمسة مواقع عسكرية للحوثيين.
حرصت الحسابات التابعة لداعش على وسائل التواصل الاجتماعي على التوجه لقادة التنظيم بـ”رسالة المجاهدين إلى قبائل البيضاء”، بالتزامن مع نشر فيديو الهجوم الذي أسفر عن تدمير آليات عسكرية وأسر إثنين من جماعة أنصار الله الحوثية، وفيها أن حرب التنظيم موجهة فقط إلى الروافض، وليس كما يزعم قادة القاعدة ضد قبائل أهل السنة، داعية قبائل البيضاء التي شهدت في يوليو 2018 معارك دامية بين التنظيمين، إلى دعمه في حربه ضد الشيعة.
يريد هذا الخطاب خلط الأوراق الداخلية، وتأكيد أن التنظيم لم يتخلّ عن ثوابته، ولن يكون أداة في أيدي القوى المتصارعة على النفوذ في اليمن، والحفاظ على مساحة واضحة من استقلالية القرار، أملا في عدم التشكيك في أغراضه.
الخروج من الحصار
يسعى داعش إلى مزاحمة القاعدة في اليمن بغرض الخروج من الحصار المطبق عليه في كل من سوريا والعراق عبر التمركز داخل جغرافيا معقدة وبيئة مواتية يترعرع فيها التنظيم باجتذاب مقاتليه الفارين من معاقل انهياره، علاوة على الانتفاع بموقع حيوي يمثل عامل إسناد لخطط انتشار التنظيم في الدول المجاورة.
يبحث داعش عن مركز نشاط له إمكانية بقاء عالية عبر الدخول كطرف في صراع ممتدّ بموقع استراتيجي تتهافت عليه القوى الدولية والإقليمية، وهو ما يتيح له اللعب على تناقضات المصالح بين القوى الفاعلة ومواصلة الحضور في مشهد الأحداث كأداة لعرقلة الاستقرار وإدامة الاضطرابات بعد فشله في مشروع الخلافة.
يتطلع داعش من خلال المزايدة على القاعدة من جهة اتهامه بالتساهل في أمور الشريعة والوهن في عقيدة الولاء والبراء بجانب إثبات جدارة التنظيم ميدانيا وعسكريا، إلى استقطاب أعضاء القاعدة وصولا إلى مستوى حضور الأخير في اليمن من حيث عدد المنتمين إليه، والذي يتجاوز ستة آلاف شخص، ومن حيث المزايا المادية التي يتمتع بها من عوائد عمليات تهريب النفط بامتداد الساحل الشرقي اليمني، والضرائب التي يفرضها على بعض الشركات والمؤسسات في المناطق الواقعة تحت سيطرته.
يستند طموح داعش المتنامي على إحرازه تقدما ملموسا في نشاطه على أكثر من ساحة أفريقية، كانت في السابق حكرا على القاعدة، بالنظر إلى أن تأسيس فرع القاعدة في اليمن اعتمد بشكل كبير على نشاطه في أفريقيا، خاصة الصومال كساحة دعم لوجيستي ووقوع هذا البلد في منطقة جغرافية عالية القيمة.
صراع دموي بين التنظيمين في اليمن
يأمل تنظيم داعش أن تثمر اختراقاته لأفرع القاعدة في بعض الدول الأفريقية وتأسيسه لنشاط جهادي مواز مؤخرا في خلق حضور قوي له في اليمن على غرار تنظيم القاعدة الذي صنف فرعه هناك بأنه أقوى فروعه في العالم. وهو ما فشل فيه داعش في السابق، على خلفية عدم قبوله في اليمن بسبب وحشيته المفرطة ولعبه على الوتر الطائفي واستهدافه للأسواق والمساجد والمناطق المزدحمة.
يستغل داعش الضعف الطارئ على فرع القاعدة نتيجة عدم فاعلية القيادة، مهما كانت احترافيتها، جراء الضربات الجوية الأميركية التي تضع قيادات القاعدة على رأس قائمة أهدافها، ويُعد الريمي آخر القادة العسكريين المتمرّسين، لأن أغلب عناصر التنظيم حديثو عهد بالقتال في هذه المناطق، فضلًا عن ضعف تحصيلهم الشرعي.
وقلّصت استراتيجية التحالف العربي التي ركزت على استهداف مواقع الحوثيين وتمركزات القاعدة وخلايا داعش النائمة، من قنوات تمويل تلك التنظيمات، وقطعت الطرق عن قنوات الدعم الخارجية إليها.
لم تعد لتنظيم القاعدة شعبية لدى أبناء القبائل اليمينة نتيجة تعريضهم للخطر على وقع الضربات الجوية الأميركية، كما أن القاعدة صار ورقة جهادية سنية محروقة في أيدي الحوثيين لثبوت وجود تحالف وتنسيق ميداني وعملياتي يجمع بين القاعدة وإخوان اليمن من جهة، والحوثيين من جهة أخرى.
حال داعش ليس بأفضل من القاعدة. وإذا كان الأول قد تحطمت خلافته المزعومة، ما أفقد المتطرفين في اليمن الحماس في الانضمام إليه، فالثاني تم إجهاض مشروعه الرامي لإقامة إمارة إسلامية متشددة باليمن، بفضل تنسيق الجهود الحربية بين التحالف العربي والجهود الدولية لمكافحة الإرهاب.
لم يعد النشاط الجهادي في اليمن لداعش أو القاعدة يتم في إطار مشاريع ونماذج إمارة وخلافة تنافس إحداها الأخرى كما جرى في السابق، بل ينحصر طموح كليهما في الوقت الحالي في السعي لنيل الدعم المالي والتدريبي والتسليحي الذي تقدمه ميليشيات الحوثي الموالية لإيران، بغرض توطين المقاتلين النازحين وإسناد نشاطاتهما في أفريقيا.
يستفيد الحوثيون من نشاطات الجهاديين في اليمن من خلال تنفيذ هجمات إرهابية بالمناطق والمدن المحررة، بغرض خلط الأوراق أمام التحالف العربي وتقديم أنفسهم أمام المجتمع الدولي كشركاء في الحرب على الإرهاب.
ونشاط داعش الأخير في اليمن، بما تضمّنه من هجمات استعراضية ودعائية ضد الحوثيين، هو جزء من متطلبات المشروع الطائفي للتغطية على علاقاتهم الوطيدة بكل من القاعدة والإخوان، وتبرير إرهاب الميليشيات الحوثية والمضي في تنفيذ خطط الانقلاب والسيطرة على مؤسسات الدولة.
ينظر البعض إلى عمليات داعش المعلنة ضد المواقع الحوثية على أنها جزء من الاستعراض والتوظيف الإعلامي للمزايدة على القاعدة من جهة نقاوة الولاء لأهل السنة، فيما تخدم عملياته الحوثيين عبر استهدافها الجيش الوطني اليمني ومحاولة زعزعة الاستقرار في المدن المحررة وإجبار الشباب اليمني على الالتحاق به، كقتله لأربعة يمنيين بمحافظة البيضاء كانوا في طريقهم إلى مأرب بغرض الانضمام لصفوف الجيش.