يجسد ثقافة فولكلورية اجتماعية خاصة
قصة العشق الموريتاني للشاي
يقال إنه كان الأجدر للشاي أن يظهر في موريتانيا بدلًا من الصين، لما يكنه الشعب الموريتاني لهذا المشروب من شغف، حتى أصبحت قصة أبناء شنقيط مع الشاي الأخضر تجربة عتيقة، لها آدابها وقواعدها وأصولها، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من هوية الثقافة الموريتانية.
ويكفي أن الهدية التي ودعت بها موريتانيا ضيفها، عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة المغربية، كانت عبارة عن كيلوغرامين من الشاي، عربونًا على انقشاع الأزمة الدبلوماسية الأخيرة بين البلدين، وهو ما يبرز رمزية هذا المشروب لدى الموريتانيين.
في موريتانيا الشاي أولًا وأخيرًا
لا تخلو المجالس الموريتانية من الشاي، إذ به تطيب النفوس ويحلو الحديث على رشفاته المنغمة، ويتساوى في عشقه بين الشنقيطيين، الصغار والكبار، النساء والرجال، الوجهاء والفقراء، ويقدمه الموريتانيون بفخر للضيوف والسفارات والأجانب، كتقليد اجتماعي يحيل إلى جزء كبير من الهوية الموريتانية.
لذلك لم يكن غريبًا أن يكون %99 من المستطلعين، في دراسة أعدها الباحث عبدو سيدي محمد عن الشاي في موريتانيا، قد صرحوا بمداومتهم على شرب الشاي، حيث أظهرت الدراسة أن %64.4 من المستجوبين يتناولون الشاي أكثر من ثلاث مرات يوميًا، بينما %27 يتناولونه مرتين في اليوم، و8.44% يتناولونه مرة واحدة فقط في اليوم الواحد.
كما يحرص الموريتانيون على تجسيد طقوس دقيقة في إعداد الشاي، حيث يلتزم القائم على الشاي أو «آتاي» كما يحب الموريتانيون تسميته، بالطريقة الموريتانية العتيقة في إعداد الشاي. وتقول الذاكرة الشعبية الموريتانية إن الشاي لا يحلو إلا مع ثلاثة، الجمر ويقصد إعداده تحت الفحم، والمهل ويعني بذلك عدم التسرع في إعداده وشربه، والجماعة أي أنه يحتاج إلى مائدة الأهل والأحباب التي تجتمع على الشاي.
فضلًا عن ذلك، يتطلب من معد الشاي في موريتانيا، والذي يلقبونه «القيَّام»، أن يكون خبيرًا بهذه الحرفة البديعة وملمًا بآدابها، فيستحسن أن يطيل في إعداده، ويجعل نفسه آخر من يشرب كأسه، ولا يملأ الكؤوس عن آخرها، كما يفضل أن يتذوق الشاي ليتأكد من مذاقه قبل سكبه للآخرين، علاوة على أن يكون متسمًا بلياقة الهندام وحسن العشرة والطرافة والكياسة، لتحلو معه جلسة الشاي.
وتتناول الأسر الموريتانية الشاي عادة في الصباح والمساء وليلًا، ويقدم لإكرام الضيوف وفي الأعياد والمناسبات، مثلما تحرص العائلات على اقتناء أواني الشاي من كؤوس وأباريق مهما غلا ثمنها، وتمثل جلسة الشاي لدى الموريتانيين فرصة للمزاح والأحاديث العائلية والتعارف، وجلسة للنقاش في أمور الحياة والمعيشة والدين.
وفي هذا الجانب، يتحدث الكاتب الموريتاني عبد الله البو، فيقول «يمزج الموريتانيون الشاي بنكهة المزاح والغبطة والتواصل وشيء من الكرم كثير، فطري، طبيعي لا يكدره مكدر. ويفوح شذى النعناع من الكؤوس معلنًا الانتصار الأخير على الضيق والتبرم والضجر. نعم قد نستورد الشاي».
فبات الشاي في موريتانيا يجسد ثقافة فولكلورية اجتماعية خاصة، لها طقوسها وعاداتها ومحترفوها، تؤثث المجالس الموريتانية، وتُنظم لأجلها القصائد.
بداية تعرف الموريتانيين بالشاي
رغم ولع السكان الموريتانيين بالشاي، إلا أنه لم ينتشر بين الناس كما الحال عيه اليوم إلا في فترة متأخرة، حيث كان تناوله حكرًا على النخبة من ذوي الجاه واليسر، ويذكر الرئيس الموريتاني السابق المختار ولد داداه في مذكراته قائلًا عن الشاي قديمًا: «لم يكن خلال عهد صباي ومراهقتي يستعمل إلا على نطاق ضيق جدًا، فهناك أقلية من التجار وكبار الوجهاء التقليديين الذين كان بوسعهم وحدهم شربه عدة مرات فى اليوم».
ويعتقد بعض المهتمين بالتاريخ الموريتاني أن الشاي ظهر في موريتانيا خلال منتصف القرن الـ19، من بين هؤلاء الباحث الفرنسي الخبير بالشأن الموريتاني ألبير لريش، الذي رجح دخول الشاي لموريتانيا في الفترة ما بين 1858 و1875. فينقل ألبير عن حامدن أن التاجر السباعي عبد المعطي وهو من أولاد البڮار كان أول من استورد مادة الشاي إلى موريتانيا وكان ذلك سنة 18755.
وجاء الشاي لموريتانيا من الشمال عن طريق السفن الهولندية والبرتغالية، الراسية بإسبانيا والمملكة المغربية، ليمر عبر الأخيرة إلى موريتانيا، حيث كانت الحركة التجارية نشطة خلال تلك الفترة في عهد الأمير أحمد ولد امحمد، الذي كان على تواصل مع بلدان الشمال.
ولا تزال موريتانيا تستورد الشاي إلى اليوم من بلدان عدة، حيث لا تمكن بيئتها الصحراوية من زراعة هذا النبات، وإن أصبح موروثًا أصيلًا لموريتانيا.
وكشأن العديد من الأشياء الجديدة التي دخلت البلدان الإسلامية، دخل الشاي فقه النوازل عند الفقهاء الموريتانيين، واختلفوا في شأنه بين محلل ومحرم، حيث يذكر الرئيس الموريتاني الراحل المختار ولد داداه، بأنه «جرت حرب المناظرات الفقهية بين فقهاء يرون حرمة استعمال الشاي بوصفه مضيعة للوقت والمال، وآخرين لا يرون مسوغًا لذلك التحريم ويرفضون حجج خصومهم»، قبل أن يتلاشى هذا الجدل ليصبح الشاي شائعًا بين كل الفئات الموريتانية.
تغزل الموريتانيين بالشاي
قاد عشق الموريتانيين للشاي إلى تخصيص له قصائد المديح من الشعر الفصيح والزجل الشعبي، امتنانًا لهذا المشروب الذي يعوضهم وحشة الصحراء، وطربًا بنشوة تناوله التي لا تضاهيها نشوة مشروب، بل يذهب البعض منهم إلى الدعوة لتخصيص مهرجان للشاي في موريتانيا، كاحتفال بهذا الفولكلور الشعبي.
ويقول الشيخ ولد سيديا متغزلا بكؤوس الشاي:
يُقيمُ لنا مولايُ والليلُ مقمرٌ … وأضواءُ مِصباح الزجاجة تُزْهِرُ
وقد نسَمَت ريحُ الشمال على الرُّبى … نسيما بأذيال الدجى يتعَثرُ
كؤوسًا من الشاه الشهيِّ شهيةً … يطيب بها ليل التمام فيقصُرُ
ووصل عشق الشعراء الموريتانيين إلى مقارنته بالعلم.
أما أحد الشعراء الموريتانيين فقد وصل به الأمر إلى مقارنة الشاي بالعلم، فأنشد:
فلا عيش يطيب بغير علم … وكأس في العظام لها دبيب
فلولا الكأس ما شرحت صدور … ولولا العلم ما عرف اللبيب
فيما الشاعر أبو مدين بن الشيخ أحمدو بن سليمان الديماني يقول في أبيات منافحا عن الشاي:
ألا فاسقني كأساتِ شاي ولا تذرْ … بساحتها من لا يعين على السمر
فوقت شراب الشاي وقت مسرة … يزول به عن قلب شاربه الكدر
لكن من جهة أخرى، ترى بعض الأوساط المثقفة في موريتانيا ضرورة حظر تناول الشاي ومنع استيراده في موريتانيا حتى إشعار آخر.
وذلك لما له من إسهام في ضياع الوقت والمال والصحة، إذ تتراوح جلسات الشاي المديدة لدى الأسر الموريتانية مرتين في اليوم إلى ست مرات، كما يقتطعون جزءًا مهمًا من مدخولهم الشهري المتواضع لشراء الشاي والسكر، أضف إلى ذلك أن إدمانه الشديد يشكل مضاعفات صحية يحذر منها الأطباء.
غير أن عامة الموريتانيين لديهم رأي آخر، ففي حضرة الشاي تنجلى الهموم وتسر الوجوه ويحلو الحديث.