قراءة تحليلية في "حق تقرير المصير"..
الجنوب.. حق الشعب في تقرير مصيره وفقاً للمواثيق الدولية والاعلانات العالمية
المقدمة : في ظل الأوضاع التي مرت بها دولتنا منذ اعلان فك الارتباط في 21 مايو م 1994م والتي تعرض فيها المدنيين إلى الآلاف من الانتهاكات التي ارتكبتها الأطراف المتصارعة والتي ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا في ظل غياب الوعي الكافي لدى المقاتلين والناس عامة حول حقهم في تقرير المصير وحقوقهم أثناء الحرب وكيفية حمايتهم. وعليه وجب تقديم التوعية اللازمة بحقوق الإنسان وأهمية حمايتها أثناء الحروب بحسب ما نصت عليه الشريعة الإسلامية ثم القوانين الوضعية والمواثيق والمعاهدات الدولية المتمثلة بالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان .هادفين من هذه التوعية نشر ثقافة احترام إنسانية الإنسان، وتوعيته بالقوانين التي تعطيه الحق في تقرير مصيره .
حق الشعب الجنوبي في تقرير مصيره وفقاً للقانون الدولي
ان حق تقرير المصير أهم الحقوق الاساسية وجوهر حقوق الانسان ونصت عليه واكدته كل المواثيق الدولية والاعلانات العالمية. وهذا الحق يستند الى مبدأ حق الشعب في ممارسة سيادته على اقليمه و حكمه على ارضه، و ذلك نتيجة لافتقار ذلك الشعب إلى الحرية والمساواة التامة بالحقوق و الحريات، و الاشتراك في الحكم و الإدارة، كما يتمتع بكيانه و تمايزه اللغوي و الثقافي و الاجتماعي و العرقي المغاير عن السلطة الأجنبية التي يرزح تحت احتلالها أو سيطرتها ، سواء أكانت استعماراً ام انتداباً أم دولة نتجت بترتيب استعماري، بمعنى أن الشعوب التي تناضل من اجل دفع الظلم و العدوان و الاستبداد و التكبر و تناضل من اجل ايضاً التحرير و السيطرة الفعلية على ثروات اقليمه يجب ان تحصل على حقها القانوني في تقرير مصيرها. حيث حرص القانون الدولي على مبدا حق تقرير المصير، وجعله حق مشروع ومتاح لجميع الشعوب المضطهدة، اذ نصت الجمعية العامة للأمم المتحدة في المادة (2) من القرار رقم (1514) على أن لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد مركزها السياسي وتسعى بحرية الى تحقيق انمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وفي هذا المعنى تعمق الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب وذلك في نص المادة (19) منه على مبدأ مساواة الشعوب في الكرامة والحقوق وعدم تبرير سيطرة اي شعب على الاخر، فجاء فيها ((ان الشعوب كلها سواسية وتتمتع بنفس الكرامة ولها نفس الحقوق، وليس هناك ما يبرر سيطرة شعب على شعب اخر)).
ايضاً نصت المادة الاولى من القرار (1514) من ميثاق الأمم المتحدة على ان إنكار حق الشعوب في تقرير المصير هو إنكار لحق اساسي ولم تقل لمبدأ من المبادئ وقد نصت على التالي ((ان اخضاع الشعوب لاستعباد أجنبي وسيطرته واستغلاله يشكل انكاراً لحقوق الانسان، وينقض ميثاق الأمم المتحددة و يعيق قضية السلم والتعاون الدوليين)). وتجدر الاشارة إلى أن ميثاق الاطلسي الصادر في عام 1941م، جاء في الفصل الأول منه ما يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الاخرى الملائمة لتعزيز السلم العام. ايضاً ما جاء في الفصل التاسع والذي هو بعنوان التعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي، بحيث نصت المادة (55) من ميثاق منظمة الأمم المتحدة على أن (رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم المتحدة مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها وتعمل الأمم المتحدة على: - أ- تحقيق مستوى أعلى للمعيشة وتوفير اسباب الاستخدام المتصل لكل فرد والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي. ب- تيسير الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية و مايتصل بها، وتعزيز التعاون الدولي في أمور الثقافة و التعليم. ت- ان يتشيع في العالم احترام حقوق الانسان والحريات الاساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس واللون او اللغة او الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق والحريات فعلاً. كما أوصت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1952م أن مبدأ حق تقرير المصير ملزم لكل دولة عضواً فيها و عليها الاعتراف به لأي شعب، بحيث نصت على أن كل الدول الاعضاء في منظمة الأمم المتحدة عليها وجوب الالتزام بحق تقرير المصير لكل الشعوب و الأمم، إضافة الى أن الاعلان الخاص يمنح الاستقلال للدول و الشعوب المستعمرة و الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1960م فضلاً عن اللجنة الخاصة لتصفية الاستعمار، و في عام 1962م اعتمدت الجمعية العامة الإعلان المتعلق بحق الشعوب غير القابل للتصرف في السيادة على ثرواتها. و وفقاً لما سبق فأن حق تقرير المصير يعتبر حق مكفول لكل الشعوب و المجموعات الإنسانية بغض النظر عن العرق او اللون او الانتماء أو الدين أو الثقافة، وأصبحت ممارسة هذا الحق واقعاً عملياً في كل الشعوب و المجتمعات و خاصة الدول الغربية، اذ تلجا تلك الدول الى اجراء استفتاء شعبي عام لتحقيق مطالب شعوبها في تقرير المصير و الاستقلال و قد مثلت الاستفتاءات الطريق الامثل لذلك، واصبحنا نشاهد الكثير من الاستفتاءات في دول العالم حول الكثير من القضايا الاساسية والمصيرية و التي كان اخرها الاستفتاء في بريطانيا للخروج من الاتحاد الاوروبي و الذي كان موضع احترام و ترحيب من الجميع داخلياً و خارجياً .هذا الواقع الممارس في الدول الغربية و الذي يعبر عن اسمى و اعلى مراتب الحرية و الديمقراطية، يعتبره الكثير في العالم العربي وخاصة الانظمة العربية الديكتاتورية نوع من التمرد و الخيانة و الجريمة و العصيان و ترفضه وتحاربه و مستعده أن تخوض الحروب من اجل وقفه ومنعه، وهذا يعود الى ثقافة الاقصاء و الافناء و رفض الاخر التي تسود المجتمعات العربية افراداً و شعوباً وحكاماً. اتفاقية فيينا للعام 1969م والتي تتعلق بالمعاهدات بين الدول، وبالأخص المادة (60) والتي تنص على ((انقضاء المعاهدة أو إيقاف العمل بها التي تخول أحد الأطراف الاحتجاج وإعلان انقضائها أو إيقاف العمل بها كلياً أو جزئياً عند اخلال الطرف الاخر ببنود المعاهدة الثنائية)). وبما ان الاتفاق الثنائي اقل شأناً من المعاهدة كما هو الحال في اتفاقية اعلان الوحدة بين دولتي الجنوب والشمال، فان ذلك يمنح الجنوب فرصة استعادة مقعد جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية في الأمم المتحدة. المادة (52) من الاتفاقية تنص على ان المعاهدة تصبح باطلة في حالة اكراه طرف لطرف بالتهديد او استخدام القوة وهو ماتم في عدوان اليمن العسكري على الجنوب في العام 1994م واحتلاله بالقوة، وكذلك الاجتياح الثاني في العام 2015م، إضافة الى فرض نظام الجمهورية العربية اليمنية على الجنوب وتغيير الدستور المتفق عليه ومجلس الرئاسة وغيرها من الأمور، إضافة الى المعاهدة الإجرائية ومنها المادتان (27 – 28)، فالقوانين الدولية كلها تصب لمصلحة القضية الجنوبية.
نماذج واقعية
وقد مثلت تجربة جنوب السودان نموذجاً، فبعد حرب اكثر من ثلاثين عاماً بين حكومة السودان و الجنوبيين السودانيين لمطالبهم عبر استفتاء عام والذي مكنهم من حق تقرير المصير و الاستقلال، وعلى صعيد اخر واجهت مطالب الاكراد عبر سنوات رفضاً شديداً من الانظمة العربية والحكومة العراقية لأبسط الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية و الاجتماعية حتى ارتفعت مطالبهم الى مطلب أساسي في حق تقرير مصيرهم واستقلالهم حتى نالوا الاستفتاء الشعبي. وشعب الجنوب لا يقل شاناً عن جنوب السودان و كردستان العراق ، بل ان لشعب الجنوب دولة مستقلة ذات سيادة تسمى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ومعترف بها عالمياً ومن افضل البلدان موقعاً جغرافياً، وبنوايا حسنة و طيبة دخل بوحدة مع الجمهورية العربية اليمنية، إلا ان النوايا و المأرب و الاطماع التي كان يحملها ابناء الجمهورية العربية و سلطتهم على الجنوبيين افشلت تلك الوحدة، بعد ان تعرض ابناء الجنوب للإقصاء و التهميش و القتل و النهب والسلب، حينها طالب الشعب الجنوبي بالمساواة في الحقوق المدنية و السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و العسكرية إلا ان تلك المطالب رُفضت، حتى شنت حرب شرسة في صيف 1994م على شعب الجنوب من قبل علي عبدالله صالح الرئيس السابق لليمن وقوى النفوذ الشمالية من قبائل و حزب الاصلاح وبفتوى تكفيرية احلت بها دماء ابناء الجنوب افتى بها مشايخهم برئاسة الزنداني و الديلمي، وتم احتلال الجنوب ارضاً وانساناً، ونهبت ممتلكات و ثروات دولته، وتعرض ابناء الجنوب للإقصاء و التهميش وتسريحهم من الوظائف المدنية و العسكرية من نظام علي صالح و سلطته. وبعد معاناة مستمرة، خرج وانطلق شعب الجنوب يثور سلمياً للمطالبة بحقوقهم في 7/7/2007م ولكن تم مواجهتهم بكل وسائل القوة من قبل السلطة الحاكمة والمحتلة حيث تعرضوا لكل انواع القتل والجرح والقمع والاختطاف والاسر وظل الشعب محافظاً على سلمية ثورته رغم كل الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها، وظلت الثورة في الجنوب في تصاعد مستمر حيث خرجت حوالي عشرين مسيرة مليونية للجماهير في ذلك السياق، واقيمت كافة الفعاليات للتعبير عن ارادة شعب الجنوب و المطالبة بفك الارتباط و استقلالهم الثاني عن جمهورية اليمن في ظل تجاهل دولي و صمت عربي لكل مطالب شعب الجنوب الحر وغض الطرف عن كل الجرائم و المجازر التي ارتكبها نظام صنعاء و حلفائه بحق شعب الجنوب من قتل و قصف و تدمير لكل شيء، للإنسان و الهوية بالجنوب، وصارت الانسانية منهارة ومعدومة، وحرم شعب الجنوب من كل الخدمات الأساسية، و رغم كل تلك الانتهاكات الجسيمة إلا ان شعب الجنوب ظل محافظاً على سلمية ثورته و ظل الشعب في اعتصام مفتوح بساحة الحرية بخورمكسر بالعاصمة عدن، و ناشد العالم العربي و الاسلامي للوقوف مع قضية شعب الجنوب و نصرته و وقف مجازر نظام صنعاء، و لكن لا حياة لمن تنادي . و في ظل استمرار الاحتلال الشمالي لأراضي الجنوب و نهب ثرواته، شنت حرب جديدة على الجنوب في عام 2015م و تم احتلاله بالقوة مرة أخرى، و ارتكبت المجازر و الابادة الجماعية ضد سكان الجنوب على مرأى ومسمع من العالم و الامم المتحدة. وأدى ذلك إلى سقوط الالاف من الشهداء والجرحى بنيران القوات الشمالية ونزوح وتشريد عشرات الالاف من الاسر وقصفهم حتى وهم في طريقهم للنزوح، و بعد كل التضحيات تحررت كل محافظات الجنوب من الاحتلال الشمالي، و بعد التحرير خرج شعب الجنوب بمليونية و تم اعلان عدن التاريخي في 4/5/2017م الذي نص على تشكيل قيادة للشعب و تمثيله امام المحافل الدولية و هو المجلس الانتقالي الجنوبي المعبر عن ارادة شعب الجنوب والحامل الوحيد للقضية الجنوبية لاستعادة دولته كاملة السيادة و عاصمتها عدن.
وبعد كل المعاناة و الظلم و الاضطهاد التي تعرض لها شعب الجنوب و بعد ان اصبح له ممثل و كيان يقوده لبر الامان وبعد تشكيل مؤسسات الدولة الدستورية، وصار للمجلس الانتقالي صوتاً مسموعاً في المحافل الدولية وشريكاً اساسياً مع التحالف العربي في محاربة المد الفارسي باليمن و شريكاً عالمياً بالسلم و الامن الدوليين، أليس من حق شعب الجنوب تقرير مصيره دامه مسيطر على ارضه وله قيادة موحدة، لهذا لابد من منحه حق تقرير مصيره و ادارة شؤونه عبر استفتاء شعبي جنوبي بأشراف دولي او اي وسيلة اخرى من الوسائل الديمقراطية التي يقرها القانون الدولي ، ليستعيد دولته الحرة المستقلة بحدودها السابقة اسوة بكل شعوب العالم.
نشاطات الدائرة ذات العلاقة
قامت دائرة حقوق الانسان منذ تأسيسها بالعديد من الاعمال والأنشطة المتعلقة بفك الارتباط وتقرير المصير، واعدت عدة تقارير ذات العلاقة بهذا الجانب ومنها على سبيل المثال: • اقامت الدائرة عدة ورش عمل توعوية لرجال الامن شملت الكثير من المفاهيم في التعامل والسلوك الأمني المتميز والتي تضمنت تنمية انتمائهم للجنوب وقضيته العادلة.
• نظمت الدائرة عدة دورات تدريبية للعديد من فئات المجتمع خصوصاً فئة الشباب حول كثير من المظاهر السلبية على المجتمع الجنوبي والتي تؤثر على النسيج الاجتماعي الجنوبي وقضية الجنوب واستعادة الدولة ككل.
• تحصل أعضاء إدارات حقوق الانسان في المحافظات والمديريات والناشطين الحقوقيين والمجتمعيين على دورات نظمتها دائرة حقوق الانسان في الأمانة العامة تهدف الى التوعية بمجالات حقوق الانسان وحق شعب الجنوب في استعادة دولته وتوضيح الانتهاكات التي تعرض لها خلال الفترات السابقة وكيفية رصدها وتقديمها امام الجهات الدولية كدلائل مساعدة في استعادة الدولة الجنوبية.
• أصدرت دائرة حقوق الانسان عديد من النشرات الدورية بشكل مستمر تهدف الى التوعية بحقوق شعب الجنوب التي حرم منها منذ قيام الوحدة عام 1990م.
الخاتمة
إن حق تقرير المصير للشعب الجنوبي هو حق مقدس ومشروع يجب على المجتمع الدولي والاقليمي الوقوف الى جانب الشعب الجنوبي ودعمه في هذا الحق ليتوج بإقامة دولته الجنوبية الديمقراطية الحرة و المستقلة التي تعبر عن تطلعاتهم وحقوقهم ومطالبهم العادلة و المشروعة وكرامتهم و حريتهم، فمنح تقرير المصير للشعب بالجنوب واستعادته لدولته يعتبر انتصاراً لقيم الحرية و الديمقراطية، وهو انجاز لنضالاته وتضحياته عبر سنوات طويلة من الكفاح والنضال من اجل استعادة دولته الحرة بكامل السيادة وعاصمتها عدن.
فمفهوم فك الارتباط واستعادة الدولة الجنوبية هو المفهوم الصحيح والأكثر ملائمة لقضية الجنوب، كون الجنوب كان دولة ذات سيادة ودخلت في اتفاق شراكة (وفشل هذا الاتفاق) وتحول من شراكة بالتراضي إلى احتلال بالقوة والحرب. ومقترح الاستفتاء من الممكن العمل به لاحقا فيما بعد وهذا إذا ارادت الأمم المتحدة التأكد من أن اغلب شعب الجنوب يريد هذا المطلب ولا يريد الاستمرار في إطار هذه الوحدة فقط، وليس الاستفتاء على الوحدة بحد ذاتها.
- رئيس دائرة حقوق الإنسان في الإمانة العامة للمجلس الانتقالي الجنوبي