"اليوم الثامن" تنشر مذكرات القيادي الاشتراكي (الحلقة الثانية)..
"جار الله عمر" يروي تفاصيل صراع صنعاء الدموي: "السعودية وراء اغتيال الرئيس الحمدي"
يورد جار الله عمر "أمر سالمين بخطّ يده وبقلمه بأن يرسلوا حقيبة ملغومة إلى الغشمي، واتّصل به وأبلغه «أنا سأرسل لك رسولاً وأعيد لك الجنود الّذين هربوا إلى الجنوب» والرّسول اسمه مهدي، وأثناء مقابلة الغشمي انفجرت الحقيبة وقُتل الغشمي والرّسول القادم من عدن".
الرئيسان الجنوبي سالم ربيع علي واليمني إبراهيم الحمدي - أرشيف
تواصل صحيفة اليوم الثامن نشر (الحلقة الثانية) من مذكرات القيادي الاشتراكي السابق جار الله عمر، الذي اغتيل برصاص عضو في تنظيم إخوان اليمن خلال مؤتمر سياسي في صنعاء قبل نحو عشرين عاماً :" بعد ما وصل إبراهيم الحمدي إلى السّلطة في صنعاء غيّر اتّجاهه السّياسيّ وبدأ يعمل ضدّ القوى التقليديّة ويُجري اتّصالات سرّيّة مع المعارضة في الجمهورية العربية اليمنية ومع النّظام في الجنوب.
وهنا حصل تطوّر مفاجئ إذ اختلف الحمدي مع السّعودية ومع القوى التقليديّة في الشّمال، وأراد التّفاهم مع الجنوب بصورة صريحة وقرّر زيارة عدن، وفي ليلة سفره إلى عدن دبّر نائبه أحمد حسين الغشمي وعدد من الضبّاط عمليّة انقلابيّة. دعوا الحمدي إلى حفلة غداء في منزل الغشمي وقتلوه مع أخيه عبد الله الحمدي الّذي كان قائد قوّات العمالقة، وصهره علي قناف زهرة، قائد سلاح المدرّعات. وقد أذيع في صنعاء أنّ عمليّة اغتيال قد وقعت وأنّهم وجدوا بناتٍ مقتولات بجانب الحمدي وشقيقه، ولكن كان معروفاً أنّ ضبّاط الجيش هم الذين قاموا بقتله بدعم من الملحق العسكريّ السعوديّ صالح المديان، وأرادوا أن يشوّهوا سمعته عندما أحضروا جثّتَي فتاتيْن إلى جانب جثّته مع أخيه.
هذا غير صحيح لأنّ الأطبّاء عندما شرّحوا الجثث وجدوا أنّ هناك فارقاً سبع ساعات بين وقت إطلاق النّار على البنات وإطلاق النّار على الحمدي وأخيه وصهره. كانوا يعرفون مدى شعبيّة الحمدي ولا يريدون أن يقولوا إنّهم قاموا بانقلاب عليه، لأنّه معروف أنّه دخل لتناول الغداء في منزل أحمد الغشمي. كانوا يريدون تشويه سمعته بأنّه كان مع البنات وأنّه قُتل على عشق وعلى دعارة إلخ.
هذا الحادث أوقع زلزالاً سياسيّاً في اليمن كلّه شمالاً وجنوباً. وخرج سالمين من عدن وشارك في التشييع إلى جانب الغشمي وصحْبه، وخلال مشاركته في دفن الحمدي، شاهد المتظاهرين وهم يرجمون الغشمي بالبيض الفاسد و«الشنابل» ويقولون له: أنت القاتل يا غشمي.
أمر سالمين بخطّ يده وبقلمه بأن يرسلوا حقيبة ملغومة إلى الغشمي في صنعاء. واتّصل بأحمد الغشمي وقال له «أنا سأرسل لك رسولاً وأعيد لك الجنود الّذين هربوا إلى الجنوب». وأرسلَ الرّسول إلى صنعاء، واسمه مهدي، وهو يحمل الحقيبة. وأثناء مقابلة الغشمي انفجرت الحقيبة وقُتل الغشمي والرّسول القادم من عدن.
عاد سالمين إلى عدن وأقسم على الانتقام للحمدي. و«إحنا عقدْنا عدّة اجتماعات في عدن مع سالمين ومع القيادات الأخرى»، وقرّرت القوى السياسيّة الحاكمة والقوى السياسيّة التي تمثّل الشمال، أنّ القوى السياسيّة والشعب في الشّمال مستعدّون للانتفاضة ضدّ حكم أحمد الغشمي، وقد أدّى هذا الأمر إلى تغيّر المزاج الشّعبي في الشّمال، حيث انتشرت ردود الفعل على قتله في كلّ المناطق وهرب العديد من أنصاره إلى عدن. وانتشرت القوّات التّابعة للجبهة الوطنيّة الديمقراطيّة ثانيةً، وساد التوتّر بين الشمال والجنوب. وبدأنا نحن مع سالم ربيع علي وعبد الفتّاح إسماعيل نعمل في حزب واحد على مستوى الوطن اليمنيّ كلّه. وفي آذار / مارس عام ١٩٧٩ وقّعت ستة أحزاب يساريّة على تكوين الحزب الجديد الذي هو الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ. لكنّ الخلاف استمرّ في عدن بين الجناحين. وفي أواخر ٢٤ حزيران / يونيو ١٩٧٨ أمر سالمين بخطّ يده وبقلمه بأن يرسلوا حقيبة ملغومة إلى الغشمي في صنعاء. واتّصل بأحمد الغشمي وقال له «أنا سأرسل لك رسولاً وأعيد لك الجنود الّذين هربوا إلى الجنوب». وأرسلَ الرّسول إلى صنعاء، واسمه مهدي، وهو يحمل الحقيبة. وأثناء مقابلة الغشمي انفجرت الحقيبة وقُتل الغشمي والرّسول القادم من عدن. وقامت ضجّة في الجامعة العربيّة الّتي أدانت ما حصل وحمّلت الجنوب بل سالمين وعبد الفتّاح المسؤوليّة شخصيّاً. لم يكن سائر أعضاء المكتب السياسيّ يعرفون بالقرار. وقد توتّر الجوّ في عدن. وطلبت اللجنة المركزيّة من سالمين أن يستقيل من منصبه. و«احنا كنّا في عدن». واستقال سالمين وجهّزوه للسّفر إلى إثيوبيا، لكنّ الحرس «حقّه» رفضوا أن يسافر وأطلقوا النّار على الحرس حيث كان بقيّة أعضاء المكتب السياسيّ مجتمعين. ووقعت الحرب في عدن وقُتِل سالمين. وهنا هدأ الخلاف في عدن، ولكن لم ينته التّوتر بين الشّمال والجنوب بل استمر، وبدأوا يحشدون الجيش من الشّمال والجنوب، «وأُرسلتُ أنا إلى الشّمال وقلنا إنّ النّظام خلاص مش حيسقط».
"اليوم الثامن" تنشر مذكرات القيادي الاشتراكي (الحلقة الأولى).. |
وقبل البدء بالحديث عن الحرب لا بدّ من التّعريف بالعناصر التي استجدت ومهّدت لاندلاعها. إنّ مناخ التّوتّر الذي تلا استشهاد الحمدي ثمّ اغتيال الغشمي وإعدام سالمين، رحمه الله، والذي كان رجل دولةٍ بامتياز، كلّ ذلك وضع اليمن كلّها في حالة صراع متعدّد الأطراف. أضف إلى التّوتر بين الدّولتين أنّ الصّراع كان قائماً في الشّمال ذاته، حيث عادت أجواء الحروب السّابقة بين الجبهة الوطنيّة وقوّات النّظام في صنعاء، وعاد مقاتلو الجبهة إلى الجبال وإلى الظّهور المسلّح في بعض المناطق التي كان للجبهة تواجد فيها، كما شهدت العديد من المدن والمناطق اليمنيّة عدّة مؤتمرات شعبيّة تدين عمليّة اغتيال الحمدي. وكان هناك جوّ شعبيّ معارض للنّظام القائم في صنعاء باعتباره مسؤولاً عن اغتيال الحمدي والانقلاب عليه. ومعروف أنّ الرئيس علي عبد الله صالح قد اختير رئيساً للجمهورية بعد مقتل الغشمي، وقد كان حينها قائداً للواء تعزّ، وهذا لم يغيّر من الأجواء القائمة حيث استمرّت المعارضة في الشّمال ضدّ نظام الرّئيس علي عبد الله صالح مثلما كانت من قبل ضدّ سلَفه.
محاولة انقلاب الناصريّين
وفي هذا المناخ حاول التّنظيم الوحدويّ الشعبيّ الناصريّ الذي كان يعمل تحت اسم «جبهة ١٣ يونيو» - وكان للحمدي عضويّة في التّنظيم الناصريّ غير معلنة - حاول التّنظيم أن يدبّر انقلاباً عسكريّاً في شهر تشرين الأوّل / أكتوبر ١٩٧٨ ضدّ الرئيس علي عبد الله صالح. وكانت المحاولة الانقلابيّة سلميّة حيث لم يُقتل أو يُعتقل أحد في هذه المحاولة، ورغم مشاركة العديد من وحدات الجيش إلّا أنّ الانقلاب فشل بعد ساعات من إعلانه وتمكّنَ الموالون لعلي عبد الله صالح في تعّز، وما أن سمع الأخير بخبر الانقلاب حتّى عاد ظهر ذلك اليوم إلى صنعاء ورتّبَ على فشل الانقلاب عدّة نتائج:
أولاً: اعتقال معظم قيادات التّنظيم الناصري، تنظيم ١٣ يونيو، بقيادة عيسى محمد سيف الّذي أذاع التنظيم أنّه مُعتقل. كما اعتُقل العديد من المدنيّين والعسكريّين منهم بعض الوزراء، وتمّ إعدام تلك القيادة المدنيّة والعسكريّة من التّنظيم الناصري بعد محاكمة سريعة لم تتوفر لها أبسط إجراءات المحاكمة العادلة محاكمة سريعة وملفّقة.
ثانياً: توسّع نطاق الاعتقالات ضدّ الأحزاب اليساريّة والوطنيّة، وبالذّات الأحزاب التي كانت تُعد للاندماج وتأسيس الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ مثل حزب العمل، الحزب الديمقراطيّ الثوريّ اليمنيّ، حزب الطليعة الشعبيّة المنبثق عن البعث، اتّحاد الشّعب الدّيمقراطيّ وهؤلاء كانوا ماركسيّين. ونُفّذ الإعدام أيضاً ببعض قادة الأحزاب اليساريّة الذين كانوا قيد الاعتقال، و«أُخفي العديد من أولئك القادة الذين لم يُعرف مصير بعضهم حتّى الآن». ومن القادة الذين كانوا في السجون إلى ما قبل الانقلاب بيوم واحد ولم يُعثر لهم على أثر: عبد الوارث عبد الكريم، عضو مكتب سياسيّ في الحزب الدّيمقراطيّ، وسلطان أمين القرشي، عضو المكتب السياسيّ في الطليعة الشعبيّة، ووزير سابق للتّنمية، والمقدّم علي مِنى جبران، قائد سلاح المدفعيّة وبجانبه ضابطان آخران هما طه فوزي وعلي خان، أو عبد العزيز خان، وهو قائد سياسيّ مدنيّ كان ينتمي للطليعة الشعبيّة وغيرهم من الذين «ما حدّ يعرف عنهم شي». كما توسّعت الحملة ضدّ أحزاب اليسار وتعرّض الكثير من المعتقلين منهم للتّعذيب. وكنتُ في تلك الفترة أتنقّل ما بين عدن ومناطق الرّيف في الجمهوريّة العربيّة اليمنية سرّاً وعبر الجبال.
ثالثاً: العديد من الذين شاركوا في الانقلاب من ضبّاط الجيش والمدنيّين من أنصار الحمدي ولم يعتقلوا، فرّوا بأسلحتهم ومعدّاتهم إلى عدن في الجنوب، وكان من أبرزهم المقدّم أنصار علي حسين والعقيد مجاهد القهالي الذي كان يتولّى قيادة بعض وحدات الجيش في عمران وما جاورها. واستطاع مجاهد القهالي أن يجلب معه إلى عدن الآلاف من القبائل بما في ذلك قبائل من شمال صنعاء والجوف وصعدة وغيرها.
حرب فبراير ٧٩ والمعارضة السوفييتيّة
كان وصول القبائل إلى عدن حدثاً تاريخيّاً بارزاً لأنّ قبائل شمال الشّمال قبل أن يحدث هذا التطوّر كان لديها موقف منخفض إزاء النّظام الاشتراكيّ أو النّظام القائم في عدن. وكانت الدعايات ضدّ هذا النّظام تؤثّر كثيراً في رؤية النّاس له، ووصول هؤلاء المواطنين إلى عدن وتغيير وجهة نظرهم نحو النّظام القائم في عدن غيّر موازين القوى في الساحة اليمنيّة. وعلى أثر ذلك أعيد تشكيل الجبهة الوطنيّة الدّيمقراطيّة التي كانت تعارض النّظام القائم في الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة من جديد، وانضمّ إليها المعارضون الجدد الذين كان من ضمنهم الناصريّون ومجاهد القهالي. بعد وصولهم إلى عدن، اشتدّت الحرب الإعلاميّة بين النّظام في الشمال والجنوب.
واضطربت الأوضاع من جديد، وتفاقمت لتصل إلى حرب شباط / فبراير ١٩٧٩، التي شارك فيها الجيش في الجنوب وأفراد المقاومة المسلّحة في المناطق الوسطى ومن شمال الشّمال. وطبعاً انتصر الجيش الجنوبيّ مع الجبهة الوطنيّة وفصائل المقاومة وتمكّنوا من الاستيلاء على مناطق واسعة في الشّمال، وهُزم الجيش الشماليّ وتشتّت شمله في الشّمال، وأصبحت الّطرق سالكةً إلى صنعاء. ولكنْ حدَثَ ما يشبه التدخّل الإقليميّ والدوليّ الرّافض لنتائج الحرب في أيّامها الأولى، ووقفت جميع الدّول الإقليميّة والعربيّة والدوليّة إلى جانب حكومة علي عبد الله صالح في صنعاء. واتّخذت جامعة الدّول العربيّة قراراً بوقف إطلاق النّار ولعبت المملكة العربيّة السعوديّة والعراق وسورية دوراً في اتخاذ ذلك القرار. واستعدّ الجيش العراقيّ والسوريّ للتّدخّل حيث كانت الحكومتان العراقيّة والسورية على وئام في تلك المرحلة وفُرض قرار وقف إطلاق النّار والحيلولة دون هزيمة الشّمال، وانتصار الجنوب في المعركة. وعملت الولايات المتّحدة الأميركيّة بطلب وتمويل من السعوديّة على إرسال السّلاح والمعدّات والذّخائر إلى صنعاء على وجه السّرعة، ودفعت السعوديّة ثمن الصّفقة. لكنّ الموقف الأكثر مفاجأةً وتأثيراً في مجرى الأحداث كان الموقف السوفييتيّ، حيثّ أرسلت القيادة السوفييتيّة في موسكو إنذاراً سريعاً إلى حكومة عدن يطالبها بإيقاف إطلاق النّار فوراً، وأبلغت موسكو حكومة عدن أنّ القيادة السوفييتيّة تعارض بقوّة إسقاط حكومة صنعاء.
لماذا؟ على اعتبار أنّ ذلك يهدّد السّلام العالميّ. ويبدو أنّه كان هناك تفاهم بين الاتّحاد السوفييتيّ وأميركا على ضمان استمرار الأوضاع القائمة في اليمن كما كانت عليه، وأنّ ذلك فرضٌ للتّفاهم لأنّ الشّمال كان منطقة نفوذ غربيّة والجنوب منطقة نفوذ شرقيّة، ولا بدّ من الحفاظ على الوضع القائم وإعادته إلى ما كان عليه. وقد أشفعت القيادة السوفييتيّة موقفها بموقف عمليّ تَمثّل بوقف تزويد جيش الجنوب بصورة فوريّة. ولمّا كان الاتّحاد السوفييتيّ هو المصدر الوحيد لتسليح الجيش الجنوبيّ فقد كان لهذا الضّغط تأثير حاسم في مجرى الحرب، خصوصاً بعدما نفدت الذّخائر، وبالذّات قذائف المدفعيّة والطّيران التي فرغت منها مخازن الجيش في الجنوب، وليس من مصدرٍ لتعويض ما نفد من الاتحاد السوفييتيّ. وكان الموقف السوفييتيّ مؤثّراً في الدّول الأخرى مثل كوبا وألمانيا الشرقيّة والصّين حيث التزموا بالموقف السوفييتيّ. وكان اتفاق الأميركان والرّوس قد أثّر في الصّين وغيرها، وكان للصّين سياسة خاصّة «لا مع السّوفييت ولا مع أميركا». ويبدو أنّ الأميركان أبلغوا السّوفييت أنّه في حال استمرار الحرب وعدم توقّف زحف الجيش الجنوبيّ نحو الشّمال فإنّ هذا سوف يقود إلى صراع بين القوّتين، وأنّ هذا خرق للتّفاهم بينهما.
أمّا لماذا لم تحْكِ القيادة الجنوبيّة مع الاتّحاد السوفييتيّ قبل الحرب؟ فلأنّهم كانوا يخشون بل كانوا يعرفون أنّ السّوفييت سيعارضون الحملة العسكريّة، كلونهم ملتزمين ببقاء نظامين في اليمن. بل كان السوفييت يعارضون حتّى نضال الجبهة الوطنيّة. ولهذا لجأت القيادة في عدن إلى وضع السّوفييت أمام الأمر الواقع ولم تفلح سياسة الأمر الواقع، فقد اتّخذ السّوفييت قراراً حاسماً ولا رجعة عنه. وزاد في الطّين بلّة أنّ فروع الأحزاب المدنيّة في الشّمال كانت تعمل على عقْد مؤتمرات لتوحيد نفسها وتعرّض قياداتها وأعضائها للاعتقالات. وهذا ما أربك فصائل المعارضة وبالذّات أجنحتها المدنيّة.
في ذلك الوقت، اجتمعت القيادة السياسيّة والعسكرية في الجنوب بقيادة الأمين العامّ عبد الفتاح إسماعيل وفي حضور علي ناصر محمد وعلي عنتر وصالح مصلح، أبرز القادة. وحضرتُ أنا أيضاً. أبلغنا عبد الفتاح بالتّطوّرات السياسيّة وبالموقف السوفييتي والعربي، واقترح على المجتمعين أن تقبل الدّولة في الجنوب وقف إطلاق النّار كموقف لا حياد عنه، والتّفاوض على مرحلة ما بعد الحرب. وهنا انقسم المجتمعون بين مـؤيّد ومعارض، وكنت أنا من بين المعارضين لوقف إطلاق النار، وهو الموقف الّذي اتّخذه أيضاً ممثلّو الجبهة الوطنيّة الدّيمقراطيّة والمقاتلون في الشّمال. أمّا القيادات الجنوبيّة فقد اعترض على الاقتراح من بينها كلٌّ من الشهيد علي عنتر الذي كان وزير الدفاع حينها، ووزير الداخليّة صالح مصلح قاسم وبعض القادة العسكريّين. لكنّ عبد الفتّاح حصل على تأييد باقي أعضاء المكتب السياسيّ من المدنيّين في الجنوب، وعندما اضطرب الموقف سُئل مسؤولو التّموين في الجنوب عمّا إذا كان لديهم ذخائر، فكان الجواب أنّ الذّخائر قد نفدت! وتحت إلحاح عبد الفتّاح الّذي كان رئيس مجلس الرئاسة والأمين العامّ للحزب، وافق المجتمعون على مقترح وقف إطلاق النّار. عارضتُ القرار واعتبرته نكسةً خطيرة بل أُصبت بالإحباط. لكنّ الواضح أنّ المنطق وحسابات المعركة المادّية والمنطقيّة كانت تقف إلى جانب عبد الفتاح إسماعيل والقيادة المدنيّة، وأنّ البديل الوحيد لتجنّب هزيمة عسكرية هو القبول بالضّغط الدّوليّ والعربي لوقف إطلاق النّار.
محادثات الكويت
عند ذاك، أعلن الجنوب استعداده لوقف إطلاق النّار. وأرسلت الجامعة العربيّة بعض وزراء الخارجيّة العرب للإشراف على وقف إطلاق النّار والاتّصال بالقيادتين. وتمّ الاتّفاق على عقد محادثات في الكويت بين الطرفين المتحاربين، وفي عدادهم ممثّل الجبهة الوطنيّة والذين كانت حكومة صنعاء لا تعترف بهم. كان هذا جزءاً من التّسوية مع حكومة صنعاء وعدن التي قالت لصنعاء لا بدّ من أن تقبلوا التّفاوض مع المعارضة. وفي شهر شباط / فبراير ١٩٧٩ سافرنا إلى الكويت. عُقدت المحادثات في قصر أمير الكويت. وكان وفد عدن برئاسة عبد الفتّاح إسماعيل، وإلى جانبه وزير الخارجيّة المرحوم محمّد صالح مطيع ووزراء آخرون، كما حضر من جانب الجبهة الوطنيّة سلطان أحمد عمر ويحيى الشامي وجار الله عمر. فيما رأَس وفد الشمال علي عبد الله صالح وبعض المدنيّين والعسكريّين. وكانت تلك أوّل مرة ألتقي بعلي عبد الله صالح. كان الجوّ العامّ متوتّراً ومثيراً للمشاعر، لكن الجميع في الّنهاية رضخوا للضّغط وباشروا بإجراء المحادثات. وكانت حكومة صنعاء تريد الوصول إلى هدنة عسكريّة مؤقّتة. لم يتقبّلوا الهزيمة. أمّا وفد حكومة الجنوب والجبهة الوطنيّة فكانوا يريدون الوصول إلى اتّفاق سياسيّ حول مستقبل اليمن، والدّخول في تحقيق الوحدة اليمنيّة لأنّ قوى الجنوب كانت تشعر أنّها في موقف عسكريّ أقوى. وبعد عدّة أيّام، يومين أو ثلاثة أيّام من المحادثات، كان اتّفاقٌ من ذو شقّين:
الأوّل: اتّفاق بين حكومتَي صنعاء وعدن ينصّ على توحيد اليمن بعد فترة انتقاليّة تستمرّ لمدّة عام وتتمّ الوحدة بناءً على الاتفاقيّات السابقة. وقد وقّع الاتّفاق عبد الفتّاح إسماعيل وعلي عبد الله صالح.
والثّاني: اتّفاق تفاهم بين المعارضة والسّلطة في صنعاء يقضي بإيقاف المعارك بين الجبهة والسلطة، وسحب قوّات الجيش الشّمالي من المناطق والقرى، وإقامة إدارة مدنيّة، وعدم ملاحقة أفراد الجبهة الوطنيّة، وإيقاف الحملات العسكريّة على القرى التي كانت للجبهة سيطرة عليها، وكذلك التّعويض عن الأضرار ولاحقاً انخراط أفراد الجبهة الوطنيّة في مؤسّسات الدّولة.
الاتّحاد السوفييتي تدخّل من جديد وطلب من الجنوب إيقاف عمل الجبهة الوطنيّة والمقاومة، والخضوع للحكومة الرسميّة في صنعاء والسّماح لها بالسّيطرة على المناطق التي سيطرت عليها الجبهة الوطنيّةفي ذلك الوقت «ما كانش مسموح للأحزاب ممارسة نشاطها السياسي». لكنْ بعد شهرين من ذلك الاتفاق، تبيّن أنّ حكومة صنعاء لم تلتزم بالاتّفاق ولم تكن جادّة لا مع النّظام في الجنوب ولا مع الجبهة الوطنيّة.
كانت تريد كسب الوقت فقط ولم تكن جادّة في الاتّفاق مع الجميع. أخذتْ تنظّم جيشها وتركّز على تصفية الجبهة الوطنيّة بعدما حصلت على الدّعم العسكريّ من أميركا وبعض الدّول الأخرى من ضمنها الاتّحاد السوفييتيّ. أضف أنها حصلت على مئات الملايين من الدّولارات من دول الخليج. طبعاً قوّات الجبهة كانت قادرة على المقاومة وتمكّنت، من إفشال العديد من الحملات العسكريّة.
لكنّ الاتّحاد السوفييتي تدخّل من جديد وطلب من الجنوب إيقاف عمل الجبهة الوطنيّة والمقاومة، والخضوع للحكومة الرسميّة في صنعاء والسّماح لها بالسّيطرة على المناطق التي سيطرت عليها الجبهة الوطنيّة. كذلك قابَلَ السّفير السوفييتيّ في عدن قيادة الجبهة، وكان لي معه عدّة لقاءات أبلغني فيها أنّ الاتّحاد السوفييتيّ يعارض أيّ نوع من أنواع الصراع مع الجيش في الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة. واستمرّ بالضّغط على حكومة عدن كي توقف دعمها للجبهة الوطنيّة.
- * تخلي صحيفة اليوم الثامن مسؤوليتها من أي معلومات مغلوطة ذكرت في هذه المذكرات.


