إرضاء الأذواق..
المهرجانات الصيفية والأصوات المحلية.. تسلط الضوء على التجارب الثقافية العربية
مهرجانات تونس هذا العام أرضت أذواق الجميع ولم ترض الهدف الذي أنشئت من أجله وهو الارتقاء بالذائقة العامة
من واجب كل دولة أن تدعم إنتاجها الفني المحلي وتحفز المبدعين وتخلق حركية فنية وثقافية لها تأثيرها الحضاري البعيد والقريب، ولكن تتحول أحيانا المناداة بالاكتفاء بالإنتاجات المحلية إلى نوع من الانغلاق، وهو ما يمكن تلافيه بتأسيس تصورات منفتحة تقوم على التأثير والتأثر.
الذين يشعرون بـ”الغبن الثقافي” في تونس يستشهدون في لومهم وعتابهم للجهات التي تناستهم، بمثل تونسي قادم من قاع الخابية كما يقال وهو “قنديل باب منارة ما يضوي كان ع البرّاني”، أي لا يضيء إلا للأجانب والوافدين.
وقصة هذا المثل الشعبي ذائع الصيت، والذي يستحضره التونسيون كلما شعروا بالجحود وظلم ذوي القربى، تأتي من وجود مصباح خارج باب هذا الحي الشعبي العريق “باب منارة” أي خارج المدينة العتيقة، وليس داخلها كباقي الأبواب، فبدلا من وضعه داخل الباب ليضيء على أهل المدينة، وضع المصباح خارجا ليضيء طريق المارة والعابرين من سكان الأحياء البعيدة الأخرى.
مهرجانات تونس هذا العام أرضت أذواق الجميع ولم ترض الهدف الذي أنشئت من أجله وهو الارتقاء بالذائقة العامة
لا يقتصر الاحتفاء بالثقافة الأجنبية الوافدة على تونس وحدها، بل ينطبق على بلاد عربية أخرى، شعر مبدعوها أنهم مهمشون ومنسيون في بلادهم، مقابل الترحيب الزائد بالأصوات الأجنبية، وما يسببه ذلك من حساسيات لدى المثقفين المحليين، بالإضافة إلى ما ينتج عن ذلك من هدر للأموال المرصودة بالعملة الأجنبية لتلك الفعاليات الثقافية.
يضاف إلى هذا كله، شعور بالدونية والاستصغار مقابل الأصوات الوافدة في مجالات الموسيقى والغناء والمسرح على وجه التحديد، وكان من الأجدر تشجيع المواهب المحلية لما تمثله من ثروة وطنية وجب الافتخار بها ومساندتها.
ومن هذا المنطلق، جاء المثل العربي الأكثر وضوحا وتعميما وهو “مزمار الحي لا يُطرب”، أي أن عدم تقدير الناتج المحلي من الفنون والثقافة، يكاد يكون سمة غالبة في كل البلدان العربية، وذلك على الرغم من الشعارات التضامنية الرنانة من عروبة وغيرها، فكأنما الأمر يتعلق بنزعة قُطرية مبطنة.
الحقيقة أن الأمر هنا يتحمل الوجهين، فهو من ناحية دعوة إلى الاهتمام بالإنتاجات الفنية المحلية، والتي هي بمثابة الواجب لدى الدولة الحريصة على الاعتزاز بثقافتها، وهو من ناحية ثانية انغماس في الانغلاق ورفض للانفتاح والاطلاع على ثقافة الآخر على سبيل التواصل الكوني، كأرقى مهام ورسائل الثقافة في أجل وأرفع مستوياتها.
الجدل الذي يثار كل موسم في المهرجانات لا يتأسس على قناعات ومفاهيم فنية بل تحركه مصالح وانفعالات
السؤال الأجدر بأي مثقف عربي أن يطرحه على نفسه هو: كيف يقبل ويمتدح الجهات الأوروبية والأميركية الداعمة لثقافات الشعوب الأخرى، وبالمقابل، يستكثر على دولته استقبال واستضافة أصوات من العالم العربي والدول المجاورة؟
أي تناقض يقع فيه المثقف العربي حين يسعى لأن تتبناه جهات أوروبية ثم لا يقبل أن تستضيف سلطات بلاده الثقافية تجربة فنية شقيقة ومتميزة؟ ما هذا التناقض الصارخ والازدواجية المعتمدة على الكيل بمكيالين، أي حلال عليّ أن أعرّف بتجربتتي في العالم وحرام عليك أن تعرض فنك في بلادي.
يبدو أن المسألة أعقد من أن تفهم في سياق أحادي الجانب، ذلك أنها تتعلق أيضا بمدى صدقية وكفاءة لجان اختيار واستضافة العروض الوافدة، كما أنه لا يمكن استبعاد الفساد الإداري المتفشي في إدارة المهرجانات، بالإضافة إلى تدني الذائقة لدى الفئات العريضة من الجمهور، خاصة أثناء المهرجانات الصيفية.
أما الحديث عن “سخاء الجهات الأجنبية” في تبني التجارب الفنية والثقافية العربية، فأمر يزداد تشابكا وتعقيدا في ظل الإملاءات السياسية وغيرها.
بالعودة إلى تسليط الضوء على تجارب ثقافية عربية فإن المهرجانات الصيفية في بلد عربي مثل تونس، قد جاءت متنفسا للجمهور بعد سنتين من توقف جميع التظاهرات الثقافية والفنية بسبب جائحة كورونا، التي تسببت في هذه الفترة في حالة شلل كاملة للحياة الفنية والثقافية، حيث تم إلغاء عدة عروض عالمية وعربية كبرى، وهو ما فسح المجال للمراهنة على المنتوج المحلي وإعادة الاعتبار إلى المبدع التونسي الذي فقد بريقه في السنوات الأخيرة، ما جعل الجمهور المتعطش لجميع الفنون يتدفق بأعداد ضخمة في جميع العروض.
وتشهد مهرجانات هذه الصائفة دعما لافتا للأصوات التونسية، حيث اعتبرت الناقدة الفنية ليلى الزكراوي، في تصريح لوكالة أنباء عربية، أن مختلف المهرجانات دعمت الأصوات التونسية خلال هذا الموسم الصيفي نظرا إلى الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، موضحة أن التعويل على الفنان التونسي يعتبر تشجيعا له ودعما له، خاصة وأنه في السنوات الأخيرة تم تهميش الفنان المحلي مقابل استضافة فنانين من الخارج بأسعار خيالية.
ويحتد النقاش في هذا الأمر بين مؤيد لتبجيل الفنان المحلي وإعطائه الأولوية في الظهور، وبين منفتح على التجارب الوافدة، خاصة تلك التي حققت نجاحات متميزة وتحظى بتأييد جماهيري واسع بغض النظر عن أي نزعة شوفينية ضيقة.
ولا يختلف اثنان في أن الأشقاء المصريين هم الأكثر حظا عربيا في اعتلاء المسارح ودور العرض العربية، ثم يأتي من بعدهم اللبنانيون، لكن التظاهرات الفنية العربية بدأت تتسع وتنفتح على تجارب متميزة في الخليج والعراق.
هذا الجدل الذي يثار كل موسم في المهرجانات، لا يتأسس على قناعات ومفاهيم فنية صرفة، بل تحركه مصالح مالية بدرجة أولى، وسرعان ما ينطفئ بانطفاء أضواء المسارح الصيفية وعودة المصطافين إلى بيوتهم، أي أنه ليس ظاهرة صحية، وللأسف الشديد.
تخمة في العروض وارتفاع في الكم على حساب النوع. هو العنوان العريض لمهرجانات هذا العام في تونس وغيرها من البلدان العربية، والأموال هي المحرك والمقصد والدف. ولا شيء غير منطق الربح والخسارة، فحتى جهات الإشراف أصبحت تداري أصوات الغوغاء ولا تهتم للمعايير الفنية والذوقية.
أما عن التنوع فيمكن أن نطلق عليه تسمية “من كل قطر أغنية: إرضاء لكافة الأذواق” التي أصبحت غاية تدرك، ولكن في اتجاه واحد.
مهرجانات تونس هذا العام أرضت أذواق الجميع ولم ترض الهدف الذي أنشئت من أجله، وهو الارتقاء بالذائقة العامة وخدمة الثقافة البعيدة عن المصالح المادية والفئوية الضيقة.