نهضة سنغافورة بين الأمس واليوم..

رحلة في اتجاه معاكس للشمس.. ما هي "الخلطة السرية" الكامنة وراء نجاح سنغافورة؟

نهضت سنغافورة من تحت ركام التخلف والفقر الى رحاب البناء والتطور في كل المجالات، و الدروس المستفادة من السياسات التي انتهجتها سنغافورة قابلة للتطبيق في مختلف الدول الأخرى، مهما كان حجمها، سواء أكانت صغيرة أو كبيرة

اسواق سنغافورة - أرشيف

د. علوي عمر بن فريد
كاتب وباحث تاريخي جنوبي يكتب لدى صحيفة اليوم الثامن

في أوائل العام 1980م سافرت من جده مع أحد الأصدقاء من التجار الحضارم الذي يستورد بضاعته من الصين وهونج كونج وسنغافورة ويبيعها بالجملة في ذلك الوقت.

اقلعت بنا الطائرة السنغافورية من مطار البحرين في الرابعة صباحا وبعد طيران لمدة 7 ساعات متواصلة وصلنا عصرا حيث اننا نسير في اتجاه معاكس للشمس من الغرب الى الشرق مع فارق التوقيت الذي يزيد عن 7 ساعات.

 أنهينا اجراءات الدخول الى المطار بسهولة ويسر ودون عراقيل ونزلنا في أحد الفنادق العالمية وقد لمسنا أن معظم سكان الجزيرة هم من الصينين حيث يبلغ عدد سكانها حوالي 3 ملايين نسمة من بينهم نصف مليون من المسلمين !!

  وقد احتلتها بريطانيا عام 1876م حتى نالت استقلالها عام 1957م وقد عرفت سنغافورة الدين الإسلامي منذ القرن الأول الهجري عن طريق التجار العرب المسلمين .

 ويبلغ عدد المساجد فيها آنذاك  ( 155 ) مسجدا وعدد مدارسها الإسلامية حوالي ( 90 ) مدرسة تستوعب 15% من أبناء المسلمين 

 ويتألف سكان سنغافورة من خليط بشري 57% من عناصر صينية و14% من عناصر ماليزية و 9% من الباكستانيين والهنود والإندونيسيين أما الحضارم فيبلغ عددهم حوالي (10) ألف نسمة! وعملتها المحلية الدولار السنغافوري وكل دولار أمريكي يعادل 3 دولارات سنغافورية , ويقع الحي العربي في منطقة ( كامبونج جلام ) وتباع فيه العطور والبخور والملابس العربية خاصة شارع مسقط وشارع العرب كما يوجد في الحي مسجد السلطان حسين كذلك يوجد في سنغافورة قصر الكاف التاريخي ! 

كما زرنا بعض مصانع الألبسة والأحذية والحقائب كما تجولنا في بعض الأحياء  ومنها الحي الصيني والهندي وكذلك نهر السامبان والبحيرة الشهيرة ( المانداي ) أما اشهر أحياء التسوق فهو حي " اورتشارد " وقد زرنا موقع الفراشات الملكية الجميلة ! , ومن أهم الأمور التي لفتت أنظارنا هطول المطر بغزارة وسرعان ما يختفي فلا تجد له أثرا في شوارعها نظرا لحسن تصريفها وتخطيطها ! , 

مائة دولار غرامة : تفرض بلدية سنغافورة على كل من يرمي عقب سيجارة في الشارع بدفع 100 دولار سنغافوري ! مما جعلها تمتاز بنظافتها الفائقة . 

وانا عندما أستعيد هذا المشهد اتحسر على حال المدن العربية التي لا يحترم بعض المواطنين والمقيمين فيها  الاعتناء بها أو المساعدة في نظافتها ومن المؤسف أن البعض منهم  لا  يرمون أعقاب السجائر في الشوارع فحسب بل يرمون علب العصائر الفارغة والمناديل والأكياس وكلما يخطر على بالك يقذفونه  من سياراتهم في الشوارع بلا مبالاة ولا مراعاة للذوق العام , كما يشوهون جدران المباني بالكتابات المقززة المسيئة !!

الحضرمي المسن : 

ظل حسن الطاهر الشاب الحضرمي الأصل وصاحب الخلق الطيب  يرافقنا منذ لحظة وصولنا وكان دليلنا ومرشدنا إلى المصانع وإلى الاماكن العامة وذات يوم واثناء توجهنا لأداء الصلاة في مسجد السلطان حسين قابلنا بعض المسنين من المهاجرين الحضارم في الجزيرة وقد لاحظنا تمسكهم بزيهم الحضرمي الأصيل كما لا زال الكثير منهم يتكلم باللهجة الحضرمية حتى خيل إلي إنني في المكلا أو شبام , وقد شكا لنا أحد أولئك المسنين من التجاوزات التي يقوم بها بعض الزوار العرب أثناء قدومهم  الى الجزيرة , مما ينعكس سلبا على النشء العربي والمسلم فيها !!َ

ونسبة الجمال في سنغافورة ليست عالية إلا فيما ندر حيث آن  معظم النساء لهن ملامح شرق آسيا مثل  بروز وجنات الوجه  مع أنف أفطس وعيون ضيقة وجبهة صغيرة .

الحضارم ونشر الإسلام : 

من أوائل التجار الحضارم الذين استقروا في جزيرة سنغافورة هو عمر بن علي الجنيد الذي كان يتاجر بالبهارات ثم قام ببناء أول مسجد في سنغافورة ويطلق عليه اليوم " مسجد عمر " كما قام الجنيد ببناء أول مدرسة إسلامية وجلب معلمين ساعدوا على نشر الدين الإسلامي في الجزيرة ويبلغ عدد ابناء حضرموت حوالي عشرة آلاف نسمة يعيشون في سنغافورة ويحملون جنسيتها ولا زالوا متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم العربية وباللهجة الحضرمية المتوارثة عبر الأجيال . 

ويصل عدد المساجد في سنغافورة اليوم إلى ( 155 ) مسجدا منها ( 58 ) مسجدا جامعا كما توجد فيها محاكم شرعية للفصل في النزاعات القائمة بين المسلمين من سكانها .

كيف كانت سنغافورة وكيف أصبحت اليوم ؟!

في مطلع الستينيات من القرن الماضي، ظهر على شاشة التلفزيون الشاب لي كوان يو وهو يبكي بحرقة بعد أن رفضت ماليزيا طلب حزبه بإعادة ضم جزيرة البعوض لها، وجزيرة البعوض هو الاسم الذي كان يطلق على سنغافورة، نظرا للقذارة التي تملأ شوارعها وحواريها، فمخلفات البيوت متراكمة على الأرصفة وأنظمة الصرف الصحي معطلة، حتى إن الأطفال يسبحون في بحيرات من مياهها والتي تغمر حفرا كبيرة في الشوارع وعلى الأرصفة، مياه الشرب ملوثة، والفساد ينخر في الجزيرة الصغيرة والبطالة وصلت لأرقام فلكية ودخل الفرد لا يتجاوز 3400 دولار في السنة، وتخلو ارضها محدودة المساحة  من أي موارد طبيعية.

كيف أصبحت سنغافورة، وهي مجرد جزيرة صغيرة في جنوب شرق آسيا، لا تملك أي موارد طبيعية، واحدة من أكثر الدول تطوراً في العالم؟ وكيف تمكّن نظامها الحكومي وبنية السياسات القائمة فيها من إنشاء أهم الاقتصادات وخلق أكثر المجتمعات نجاحاً على مستوى العالم في غضون بضعة عقود لا أكثر؟

ما هي "الخلطة السرية" الكامنة وراء نجاح سنغافورة؟

اته النظام القائم على الجدارة. فمن خلال مزيجٍ فريدٍ من السياسات التي تمنح الأولوية للجدارة والكفاءة والاستحقاق على أي صفة أخرى، تمكنت سنغافورة من تطوير نظام تعليمي مُنصِف للجميع، وخدمة مدنية عامة متقدمة تضمن فعالية العمل الحكومي،

تُعدّ جمهورية سنغافورة بلداً بالغ الصغر من ناحية المساحة. فمساحتها عند نيل الاستقلال عام 1965، لم تكن تتجاوز نصف مساحة البحرين، أو عُشر مساحة إمارة دبي. كما أنها لا تمتلك أي موارد طبيعية على أراضيها. فما من نفط البتة!، وما من غاز طبيعي ولا تملك أي ثروة معدنية يمكن التنقيب عنها. أضف إلى ذلك، أنها نالت استقلالها في وقت يعُجّ بالاضطرابات في منطقة تفتقر للاستقرار السياسي. ومما زاد الطين بلة، احتوائها على نسيج سكاني متعدد الأعراق. حيث يمثل الصينيون منه ما نسبته 75% بالمئة، في حين يمثل الملايو 15% والهنود 8%. وفيهم من  المسلمين والمسيحيين والهندوس والبوذيين والطاويين وغيرها من الأديان والطوائف.

واعتقد المراقبون الخارجيون  حينها أن سنغافورة لن تقوم لها قائمة، وأن سبب فشلها سينتج عن ضغط خارجي أو اضطراب داخلي. لكن وعكس كافة توقعاتهم، أصبحت سنغافورة الدولة الأكثر نجاحاً في تاريخ البشرية الحديث، حيث تمكنت من تحسين مستوى معيشة شعبها بوتيرة أسرع، وأكثر شمولية من أي دولة أخرى على الإطلاق.

ويقول كيشور محبوباني :

"أن الدروس المستفادة من السياسات التي انتهجتها سنغافورة قابلة للتطبيق في مختلف الدول الأخرى، مهما كان حجمها، سواء أكانت صغيرة أو كبيرة. إدارة رأس المال البشري على الطريقة السنغافورية صَمّمت سنغافورة سياساتها في اكتشاف المواهب البشرية والاستفادة منها، بناءً على عددٍ من الفرضيات الرئيسية. أولها هو أن بعض الناس أكثر موهبةً من غيرهم بحكم الطبيعة. وثانيها أن المواهب والقدرات الاستثنائية يمكن أن نجدها بين الفقراء كما نجدها بين الأغنياء دون فرق. وبناءً على هذين القاعدتين، من المنطقي إذاً افتراض أن الدولة قادرة على البحث بشكل استباقي وتطوير المواهب الموجودة في نسيجها السكاني. لتحقيق هذه الغاية، استعانت سنغافورة بعوامل هامة مثل الصحة وجودة الحياة التي من شأنها إطلاق الإمكانات البشريّة التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق إنجازات فردية وجماعية غير مسبوقة"

وهذا بحد ذاته  مكّن سنغافورة، تلك الأمة التي لا تملك أي ثروات طبيعية في متناول يديها، من مراكمة احتياطاتٍ من النقد الأجنبي تجاوز متوسطها بالنسبة للفرد، ما وصلت إليه كل دول العالم الأخرى تقريباً. وفضلاً عن تحقيق نمو اقتصادي مبهر، أسفرت السياسات القائمة على مبدأ الجدارة أيضاً عن استقرار اجتماعي وسياسي جديرٍ بالإعجاب. هكذا شعر الفقراء أن لديهم نصيباً متساوياً مع الأغنياء في تحقيق هذه النتائج الإيجابية التي ينعم بها الجميع. وهذا ما يفسّر لنا لماذا يُعتبر الحزب الحاكم في سنغافورة أطول الحكومات المنتخبة عهدةً على مستوى العالم. ذلك أن القيم والمبادئ التي ينبني عليها "نظام الجدارة" توفّر العديد من النتائج الإيجابية للأمة التي تطبقه، ليس أقلها إنماء الحس بالمواطنة وتعزيز الشعور بالهوية الوطنية. المزايا الحميدة للتعليم مثلت السياسات التعليمية المجموعة الأولى من السياسات العامة التي أسست البنية التحتية لنظام الجدارة في سنغافورة.