التحول الرقمي اليمني يبدأ من الكريمي..
القطاع المصرفي في زمن الحرب: كيف حافظ بنك الكريمي على الثقة حين انهارت المؤسسات الأخرى؟
انطلق البنك من فكرة بسيطة لتحويل الأموال ليصبح مؤسسة وطنية تخدم أكثر من خمسة ملايين عميل، وتقدّم خدمات مصرفية رقمية متطورة، وتمويلات صغيرة تسهم في تمكين المرأة والريف وتحقيق الشمول المالي.
بنك الكريمي للتمويل الأصغر الإسلامي الثقة التي صمدت أمام الحرب - أرشيف
في سوق مصرفية مضطربة، وفي بلد تتقاذفه الحروب والانقسامات، استطاع بنك الكريمي للتمويل الأصغر الإسلامي أن يحجز لنفسه مكانة متقدمة بين المؤسسات المالية الأكثر استقرارًا في اليمن، ليصبح اليوم أحد أبرز شواهد النجاح المؤسسي في بيئة اقتصادية صعبة ومتقلبة. منذ تأسيسه، لم يكن طريق البنك مفروشًا بالورود، فقد وُلد مشروع الكريمي من رحم الحاجة والفراغ المصرفي، في زمنٍ كان الناس يتعاملون بالنقد اليدوي، ويعتمدون على المسافرين في نقل أموالهم. لكن ما بدأ كفكرة بسيطة لتحويل الأموال محليًا، سرعان ما تحوّل إلى تجربة مصرفية متكاملة، ترسم ملامح التحول المالي الرقمي في اليمن.
لم يكن تأسيس البنك خطوة تقليدية بقدر ما كان مغامرة حقيقية. فقد واجه المؤسسون في بداياتهم عقبات متعددة، أهمها إقناع الناس بجدوى التحويلات المصرفية عبر أنظمة إلكترونية في بلد لم يعتد مثل هذه الأساليب. ثقة الناس لم تأتِ بسهولة، وكان كل تحويل ناجح بمثابة معركة صغيرة ضد الشكوك والخوف من المجهول. ومع مرور الوقت، بدأت هذه الثقة تتراكم، وأصبح الكريمي جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية لليمنيين. لم يكتف البنك بعمليات التحويل الداخلية، بل تبنّى أسلوب العمل المؤسسي الدقيق، وسجّل بيانات عملائه يدويًا في البداية، ثم عبر الفاكس، قبل أن ينتقل إلى الأتمتة الإلكترونية، في نقلةٍ نوعية غيّرت شكل الخدمات المالية في البلاد.
منذ اللحظة الأولى، أدرك المؤسسون أن المستقبل للمؤسسات التي تواكب التقنية وتستجيب للتحولات، فعملوا على تطوير نظام رقمي قادر على استيعاب متطلبات السوق، في وقتٍ كانت فيه البنية التحتية اليمنية محدودة للغاية. ومع دخول القرن الحادي والعشرين، بدأ البنك رحلة التحول الرقمي الفعلية، ليصبح خلال عقدٍ واحد مؤسسة مالية متكاملة تدير آلاف العمليات الإلكترونية يوميًا. وقد مثّل هذا التحول قفزة نوعية في بلدٍ يعاني من ضعف الخدمات الأساسية وغياب الاستقرار السياسي.
غير أن مسار الكريمي لم يكن مستقيمًا دائمًا. فالأحداث السياسية والاقتصادية التي شهدتها البلاد منذ عام 2011، ثم الحرب في 2015، شكّلت امتحانًا قاسيًا لقدرة المؤسسات على الصمود. خلال تلك الفترات، انهارت بنوك، وأغلقت شركات، وتوقفت مؤسسات حكومية عن العمل، لكن أبواب بنك الكريمي بقيت مفتوحة، مواصلة تقديم الخدمات للمواطنين حتى في أكثر الفترات ظلمة. لم يكن ذلك قرارًا ماليًا فحسب، بل موقفًا وطنيًا يعكس فهمًا عميقًا لدور القطاع المالي في الحفاظ على الحد الأدنى من دوران الحياة الاقتصادية.
ولأن الكيانات التي تتأسس على قيم اجتماعية لا تنكسر بسهولة، فقد خرج الكريمي من تلك الأزمات أقوى وأكثر تنظيمًا. تحوّل البنك من مجرد مزوّد خدمة مالية إلى مؤسسة وطنية تلعب دورًا محوريًا في تمكين المجتمع وتيسير شؤونه المالية، خصوصًا خلال فترات النزوح الجماعي والحصار وتوقف الرواتب. في الوقت الذي كانت مؤسسات كثيرة تغلق فروعها، كان الكريمي يوسّع شبكة فروعه ليصل إلى مناطق نائية في الريف والجزر والجبال. وقد ساعده في ذلك شبكة من الوكلاء ومزودي الخدمات الذين أصبحوا جزءًا من منظومة مالية متماسكة تغطي معظم محافظات اليمن.
اليوم، يخدم بنك الكريمي أكثر من خمسة ملايين عميل، ويملك شبكة واسعة من الفروع والمكاتب داخل اليمن وخارجها. هذا الانتشار لم يكن نتاج توسعٍ عشوائي، بل نتيجة إستراتيجية واضحة قامت على بناء الثقة وتطوير الخدمة والاستثمار في التكنولوجيا. استطاع البنك، بفضل استقراره المؤسسي، أن يحافظ على موقعه في صدارة المؤسسات المالية المحلية، متفوقًا على منافسين أقدم منه زمنًا، وأكبر منه رأس مالًا. وربما السر في ذلك يكمن في فهمه العميق لطبيعة السوق اليمنية واحتياجات الناس، وقدرته على ابتكار حلول مالية بسيطة وفعّالة، تناسب مختلف الشرائح.
واحدة من أهم ميزات البنك كانت قدرته على الوصول إلى الفئات المهمشة التي لم يكن لها أي تعامل سابق مع البنوك. من خلال خدمات مثل “أم فلوس” الموجهة للقرى والأرياف، فتح الكريمي الباب أمام مئات الآلاف من اليمنيين للدخول في النظام المالي الرسمي لأول مرة. كذلك أسس البنك برامج خاصة بالمرأة، مثل برنامج “زمور ردة”، الذي يسعى إلى تمكين النساء اقتصاديًا عبر التمويلات الصغيرة وتدريبهن على إدارة المشاريع، في خطوة تعكس فهمًا متقدّمًا لدور المرأة في الاقتصاد المحلي.
في الموازاة، لعب البنك دورًا مهمًا في تنفيذ برامج التمويل الريفي وتمويل الطاقة الخضراء، استجابةً للأوضاع الاقتصادية الصعبة وانهيار منظومة الكهرباء العامة. قدّمت هذه البرامج حلولًا بديلة لأسرٍ كثيرة هجرت المدن وعادت إلى الأرياف بعد سنوات من الحرب. وخلال خمسة عشر عامًا، تجاوز عدد التمويلات التي قدّمها البنك واحدًا وتسعين ألف تمويل بقيمة إجمالية تفوق 176 مليار ريال يمني. وهذه الأرقام، رغم ضخامتها، لا تعكس فقط النشاط المالي، بل تُظهر أيضًا حجم الأثر الاجتماعي للمؤسسة في تحريك الاقتصاد المحلي وتحسين حياة المستفيدين.
يقدّم الكريمي نموذجًا متفرّدًا للمؤسسة التي تجمع بين الربحية والمسؤولية المجتمعية. فهو لا يقدّم القروض فقط، بل يسعى إلى تحسين بيئة العمل ودعم المبادرات الاجتماعية والرياضية والثقافية. كما عقد شراكات مع منظمات دولية، أبرزها مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي، لتطوير أنظمة العمل وتحديث البنية الإدارية والتقنية. ويظهر هذا الالتزام في الانضباط العالي داخل فروع البنك وثقافة العمل التي تعتمد على الوقت والدقة والاحترام، حتى بات الناس في بعض المدن يقيسون وقتهم بإغلاق أبواب الكريمي أو فتحها.
ولعل أبرز ما يميز الكريمي هو أنه لم يكتفِ بأن يكون بنكًا تقليديًا، بل أصبح منصة مالية رقمية تتطلع لتكون متاحة لكل يمني. في وقتٍ تتسارع فيه التقنيات وتزداد الحاجة إلى حلول مالية ذكية، يسعى البنك إلى تطوير نظام رقمي شامل يتيح للمواطن تنفيذ معاملاته المصرفية من هاتفه المحمول أو من أقرب نقطة خدمة. الهدف ليس مجرد مواكبة التطور العالمي، بل بناء نموذج وطني للتمويل الرقمي يمكنه أن يخترق العزلة التي فرضتها الجغرافيا والأزمات على المجتمع اليمني.
هذه الرؤية الرقمية لا تنفصل عن التزام البنك بالشمول المالي، وهو المفهوم الذي يسعى إلى تمكين كل مواطن، بغض النظر عن موقعه أو دخله، من امتلاك حساب مصرفي والوصول إلى خدمات مالية آمنة. عبر هذه الرؤية، يحاول البنك أن يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والنظام المالي، وأن يحوّل الثقافة النقدية التقليدية إلى ثقافة مصرفية حديثة تساهم في إعادة بناء الاقتصاد الوطني على أسس شفافة ومستدامة.
ومع توسع الشراكات الخارجية واعتماد البنك من قبل منظمات دولية لتنفيذ مشاريع إنسانية وإيصال المساعدات المالية إلى المناطق النائية مثل سقطرى وحجر الصيعر، اكتسب الكريمي بعدًا دوليًا، وبات شريكًا موثوقًا للمؤسسات المانحة في بيئة تعتبر من الأكثر تعقيدًا في العالم. هذا الدور الإنساني أضاف إلى البنك رصيدًا من الثقة لم تحققه أي مؤسسة مالية أخرى داخل اليمن خلال العقد الماضي، وهو ما يعزز صورته كمؤسسة وطنية مستقلة ذات التزام اجتماعي قوي.
ورغم البيئة الاقتصادية القاسية وتراجع سعر العملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم، استطاع الكريمي أن يوازن بين التوسع المدروس وضبط المخاطر، مستندًا إلى قاعدة مالية متماسكة وإدارة تتعامل بمرونة مع الأزمات. لم ينجرف البنك وراء المضاربات المالية أو التوسع المتهور في الإقراض، بل حافظ على سياسات متحفظة تضمن استدامة النشاط دون المساس بجوهره الاجتماعي. هذه القدرة على التوازن بين الربحية والاستدامة تمثل جوهر فلسفة التمويل الأصغر الإسلامي التي يتبناها البنك.
في النهاية، يمكن القول إن بنك الكريمي للتمويل الأصغر الإسلامي لم يعد مجرد مؤسسة مالية تؤدي خدماتها اليومية، بل أصبح جزءًا من البنية الاقتصادية والاجتماعية لليمن. هو اليوم مدرسة في المرونة والقدرة على التكيّف مع المتغيرات، وشاهد حي على أن الاستثمار في الثقة والابتكار يمكن أن يصنع فارقًا حتى في أكثر البيئات هشاشة. وبينما يواصل البنك رحلته نحو التحول الرقمي الكامل، يبدو أنه لا يسعى فقط إلى البقاء، بل إلى ترسيخ نموذجٍ مصرفي وطني يستمد شرعيته من خدمة الناس أولاً، ومن قدرته على تحويل الصعوبات إلى فرص.
بنك الكريمي اليوم هو مرآة لتاريخ طويل من المثابرة والمخاطرة المحسوبة، ورمز لتحولٍ حقيقي في علاقة اليمنيين بالمال والبنوك. ومع أن التحديات ما تزال قائمة، فإن تجربته تثبت أن العمل المؤسسي القائم على القيم يمكن أن يصنع اقتصادًا مختلفًا حتى في زمن الحرب. هو ليس فقط بنكًا يدير الأموال، بل مؤسسة تبني الثقة، وتعيد تعريف معنى “الخدمة” في مجتمعٍ أنهكته الأزمات، لكنها لم تكسر إرادته في السعي نحو الأفضل.


