صدور العدد الـ44 من مجلة الرابطة الاقتصادية..
تقرير: تحسّن صرف العملة اليمنية أمام العملات الأجنبية لن يخفض الأسعار إلا بتحقيق هذه الشروط
سبب الجمود في الأسعار يعود إلى غياب المعالجات الحقيقية لجملة من العوامل الأخرى، أبرزها تكاليف النقل المرتفعة نتيجة أوضاع البنية التحتية المتهالكة والطرقات المقطوعة بفعل الصراع المستمر منذ سنوات، إلى جانب الرسوم غير القانونية التي تُفرض في العديد من نقاط التفتيش على حركة البضائع

العدد الـ44 من مجلة الرابطة الاقتصادية
صدر مؤخرًا العدد الرابع والأربعون من مجلة الرابطة الاقتصادية، حاملاً معه جملة من القضايا والملفات التي تشغل الشارع اليمني، وفي مقدمتها قضية استقرار سعر صرف العملة الوطنية وتأثيرها المباشر وغير المباشر على الحياة المعيشية للناس. ويأتي هذا العدد في توقيت حساس، إذ يشهد اليمن حالة من الجدل الواسع حول جدوى الإجراءات النقدية التي اتخذها البنك المركزي في عدن، ومدى قدرتها على ترجمة التحسن الطفيف في سعر الصرف إلى واقع معيشي ملموس يتمثل في تراجع أسعار السلع والخدمات.
في افتتاحية العدد، ركزت هيئة تحرير المجلة على فكرة أساسية مفادها أن تحسّن سعر العملة لا يكفي وحده لتغيير الواقع، وأن انعكاس أي تحسّن نقدي على الأسواق يحتاج إلى بيئة اقتصادية وإدارية وتشريعية مساعدة. وأكدت الافتتاحية أن الأسعار بقيت على حالها رغم انخفاض الدولار والريال السعودي أمام العملة المحلية، وهو ما يكشف عن عمق التشوهات في السوق اليمنية، حيث لا تتحرك الأسعار وفق منطق العرض والطلب ولا وفق التحركات الرسمية المعلنة من السلطات النقدية، بل تتأثر بمنظومة واسعة من العوامل، تبدأ من تكاليف النقل والشحن، ولا تنتهي عند الجبايات المتعددة التي تفرضها السلطات المحلية والمراكز غير الرسمية في طول البلاد وعرضها.
ويشير التقرير المنشور في المجلة إلى أن تحسن سعر العملة أمام العملات الأجنبية، والذي ثبته البنك المركزي في عدن عند 425 إلى 428 ريالاً مقابل الريال السعودي، وحوالي 1637 ريالاً مقابل الدولار الأمريكي، جاء نتيجة إجراءات مشددة اتخذتها إدارة البنك خلال الأسابيع الماضية، حيث شددت الرقابة على شركات الصرافة وألزمتها بالسعر المعلن، كما أصدرت تحذيرات قوية للبنوك التجارية ومحلات الصرافة من أي تلاعب أو مضاربة بالسعر، مهددة بملاحقات وعقوبات صارمة. لكن، وبرغم هذه الإجراءات، لم يلمس المواطن في الأسواق أي انخفاض حقيقي في أسعار المواد الغذائية أو الخدمات الأساسية، الأمر الذي أثار موجة جديدة من التساؤلات والانتقادات في الشارع.
المجلة تناولت هذه المعضلة بجرأة، معتبرة أن سبب الجمود في الأسعار يعود إلى غياب المعالجات الحقيقية لجملة من العوامل الأخرى، أبرزها تكاليف النقل المرتفعة نتيجة أوضاع البنية التحتية المتهالكة والطرقات المقطوعة بفعل الصراع المستمر منذ سنوات، إلى جانب الرسوم غير القانونية التي تُفرض في العديد من نقاط التفتيش على حركة البضائع. كما أشارت المجلة إلى أن الإيجارات المرتفعة للمحلات والمخازن التجارية تشكّل عبئًا إضافيًا على التجار، يضاف إلى الأعباء الضريبية والجمركية التي غالبًا ما يتم تحصيلها بأكثر من صورة ومن أكثر من جهة، ما يضاعف كلفة السلع النهائية التي تصل إلى المستهلك.
ويرى خبراء اقتصاديون نقلت المجلة آراءهم أن المشكلة لا تكمن في القرارات النقدية وحدها، فالبنك المركزي يمكنه أن يتدخل ويحد من المضاربة ويحافظ على استقرار نسبي للعملة، لكن ما لم تتواكب هذه الإجراءات مع إصلاحات اقتصادية وإدارية شاملة، فإن أثرها سيظل محدودًا ووقتيًا. ولفتت المجلة إلى أن أي تراجع في الأسعار يتطلب بالضرورة تدخل وزارة الصناعة والتجارة لتفعيل الرقابة على الأسواق، ووضع تسعيرة مرجعية ملزمة للتجار، بالتنسيق مع الغرف التجارية والصناعية، فضلًا عن ضرورة تفعيل العقوبات التصاعدية على من يخالف تلك التسعيرات أو يحتكر السلع.
من جانب آخر، استعرض العدد الجديد من المجلة تقريرًا موسعًا حول الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي خرجت بها حلقة نقاش مشتركة بين الرابطة الاقتصادية ومركز مداد للدراسات، حيث أكد المشاركون أن الإصلاحات النقدية وحدها لا تكفي، وأن المطلوب هو حزمة متكاملة تشمل إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية، تعزيز الشفافية والحوكمة، مكافحة الفساد، وتحسين مناخ الاستثمار عبر قوانين واضحة ومؤسسات قضائية مستقلة. وأوضحت الحلقة أن معالجة الأوضاع المعيشية تتطلب النظر إلى البعد الاجتماعي للإصلاحات الاقتصادية، عبر شبكات حماية اجتماعية تضمن وصول الدعم إلى الفئات الأشد فقرًا وتضررًا من السياسات المالية، خصوصًا في ظل ارتفاع معدلات البطالة وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين.
المجلة لم تكتف بطرح المشكلات، بل قدمت أيضًا مجموعة من التوصيات، مثل الدعوة إلى تفعيل الرقابة البرلمانية والمجتمعية على الأداء الحكومي، وإعادة النظر في النظام الضريبي والجمركي بحيث يصبح أكثر عدالة وشفافية، بالإضافة إلى ضرورة إعادة الاعتبار لمبدأ الشراكة مع القطاع الخاص باعتباره المحرك الأساسي للنشاط الاقتصادي في البلاد. وأكدت المجلة أن القطاع الخاص لا ينبغي أن يُعامل باعتباره خصمًا للحكومة، بل شريكًا أساسيًا في التنمية وصمام أمان اقتصادي في ظل ظروف الحرب والانقسام.
وخصص العدد مساحة واسعة لمناقشة الدور الحيوي لوزارة الصناعة والتجارة في ضبط الأسواق، حيث استعرض الكاتب سالم الوالي في مقاله جهود الوزارة وخططها لإشراك الغرف التجارية في تحديد الأسعار المرجعية، ووضع آليات رقابية أكثر فاعلية، وصولًا إلى وضع نظام عقوبات متدرج يضمن التزام التجار وعدم ترك المجال مفتوحًا للمضاربة والاحتكار. المقال شدد على أن أي نجاح في خفض الأسعار يتطلب أيضًا تضافر جهود السلطة المحلية والأجهزة الأمنية لحماية الأسواق من التدخلات غير القانونية وضمان بيئة تنافسية عادلة.
وفي السياق ذاته، تناول العدد مقالًا للأستاذ الدكتور جلال حاتم بعنوان "الإصلاح الإداري بوابة الإنجاز الاقتصادي في الجنوب"، طرح فيه رؤية إصلاحية شاملة تقوم على إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية وتطوير نظام التعيينات والرقابة، إلى جانب التحول الرقمي والتأهيل المستمر للكوادر البشرية، معتبرًا أن أي إصلاح اقتصادي مستدام لا يمكن أن يتحقق دون إصلاح إداري عميق يضمن كفاءة الجهاز الحكومي وفاعليته.
خلاصة ما يطرحه العدد الرابع والأربعون من مجلة الرابطة الاقتصادية هو أن قضية سعر الصرف ليست سوى جزء من مشهد أكبر بكثير، وأن التركيز على الأرقام الرسمية للعملة دون النظر إلى البيئة الاقتصادية الكلية لن يقود إلى أي نتائج ملموسة يشعر بها المواطن. فالمطلوب هو معالجة جذرية للعوامل المسببة لغلاء الأسعار، بدءًا من كلفة الشحن والضرائب والجبايات، مرورًا بضعف البنية التحتية وغياب الرقابة الحكومية، وصولًا إلى إصلاحات مؤسسية تمكّن الدولة من أداء دورها الاقتصادي بكفاءة.
العدد بهذا المعنى لا يكتفي بوصف الواقع، بل يحاول رسم خارطة طريق لصانع القرار في عدن وصنعاء على حد سواء، ويؤكد أن النجاح في خفض الأسعار وتحسين مستوى المعيشة يتطلب ما هو أكثر من قرارات نقدية آنية، بل يحتاج إلى إرادة سياسية جادة ورؤية اقتصادية متكاملة تستند إلى الشفافية والحوكمة والشراكة مع القطاع الخاص. وبينما يبقى استقرار العملة شرطًا ضروريًا لأي نمو اقتصادي، فإنه ليس كافيًا بمفرده، ولا يمكن أن يحدث فارقًا حقيقيًا ما لم يُستكمل بجملة الإصلاحات الهيكلية التي طال انتظارها.
وبهذا الطرح، يضع العدد الجديد من مجلة الرابطة الاقتصادية النقاش في مكانه الصحيح، محذرًا من الإفراط في التفاؤل بمجرد تراجع مؤقت في سعر الصرف، ومؤكدًا أن الخلاص لن يأتي إلا من خلال إصلاح شامل يعالج أصل الداء لا أعراضه، ويوازن بين الاستقرار النقدي من جهة، وبين العدالة الاجتماعية وحماية المستهلك من جهة أخرى. وهي رسالة تحمل في طياتها دعوة ملحّة للحكومة والسلطات النقدية والقطاع الخاص والمجتمع المدني للتفكير والعمل معًا، من أجل اقتصاد يخفف أعباء المواطن بدلًا من أن يفاقمها.