العلاقات الدفاعية التركية–الأميركية..

انفراج تاريخي وشيك: هل تعود تركيا لبرنامج F-35 بعد سنوات من أزمة S-400؟

في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها النظام الدولي، برزت العلاقات الدفاعية بين الولايات المتحدة وتركيا كأحد أبرز ملفات التوتر داخل حلف شمال الأطلسي خلال العقد الأخير، خصوصًا بعد أزمة منظومة الدفاع الجوي الروسية "إس-400" واستبعاد أنقرة من برنامج مقاتلات "إف-35".

التقارب الشخصي بين ترامب وأردوغان يحيي فرص التعاون الدفاع

أنقرة

ظهرت مؤشرات إيجابية تلوح في الأفق قد تمهّد لتخفيف حدة واحدة من أعقد الأزمات في العلاقات الدفاعية بين الولايات المتحدة وتركيا خلال العقد الأخير. فقد أكّد السفير الأمريكي لدى أنقرة، توم باراك، أن التقارب الشخصي والسياسي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان أتاح فتح نافذة جديدة لمعالجة القضايا العالقة التي أدت إلى استبعاد تركيا من برنامج مقاتلات الجيل الخامس إف-35. ووصف باراك العلاقة بين الزعيمين بأنها أشبه بـ«الصداقة الوثيقة» وأنها إيجابية، معتبرًا هذا الارتباط الشخصي نقطة تحول مقارنة بفترات التوتر السابقة بين البلدين. وأشار إلى أن المناخ الإيجابي الذي وفرته علاقة الرئيسين سمح بعقد أكثر المحادثات ثمرًا منذ نحو عقد من الزمن، في إشارة واضحة إلى تحول ملموس في المزاج الأمريكي تجاه أنقرة بعد سنوات طويلة من التوتر الدبلوماسي الناجم عن شراء تركيا منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400.

تعود جذور الأزمة إلى قرار تركيا خلال الولاية الأولى لترامب شراء منظومة الصواريخ الروسية إس-400 عام 2017، وهو ما اعتبرته واشنطن تهديدًا مباشرًا لأمن تكنولوجيا مقاتلات إف-35 المتطورة. حذّرت الولايات المتحدة مبكرًا من أنها ستمنع تركيا من الحصول على مقاتلات F‑35 إذا مضت قدماً في صفقة S-400. وقد ارتكزت المخاوف الأمريكية على احتمال استخدام المنظومة الروسية لجمع معلومات دقيقة عن قدرات المقاتلة الشبحية، ومن ثم وصول هذه المعلومات إلى موسكو، مما قد يكشف أسرار التكنولوجيا الحساسة للطائرة ويحيّد تفوّقها. وأكد الجنرال الأمريكي تود وولترز صراحةً أن واشنطن لن تسمح بتعايش صواريخ S-400 الروسية مع طائرات F‑35 في تركيا. ورأى مسؤولون أمريكيون أن منظومة كهذه قد تستخدمها تركيا أو روسيا لكشف نقاط ضعف المقاتلة الشبح، خصوصًا بعدما بدأ عسكريون أتراك باختبار رادارات S-400 ضد مقاتلات إف-16 أمريكية الصنع.

نتيجة لذلك، استُبعدت تركيا من برنامج F‑35 في 2019 رغم كونها شريكًا صناعيًا واقتصاديًا رئيسيًا فيه. وقد دفعت أنقرة ثمنًا يتجاوز 1.25 مليار دولار مقدّمًا لشراء هذه المقاتلات، بل وشاركت شركاتها الدفاعية في تصنيع أجزاء منها. وكما قال الرئيس أردوغان آنذاك: “إننا ننتج أجزاء عدة من المقاتلة الأمريكية في تركيا... نحن شركاء في هذا المشروع ولسنا مجرد مشترٍ، نحن أيضًا شريك صناعي”. لكن إصرار أنقرة على إتمام صفقة S-400 وتفعيلها أدى إلى طرد تركيا من البرنامج، حيث فوّض الكونغرس وزارة الدفاع بتخزين المقاتلات المخصصة لتركيا التي كانت قيد التصنيع أو التدريب. ولم تفلح محاولات إيجاد حل وسط – مثل عرض واشنطن تخزين منظومة S-400 دون تشغيلها – في ثني أنقرة؛ فقد رفضت تركيا التراجع وشرعت في تشغيل النظام الروسي رغم التحذيرات. هذا التطور دفع العلاقات الدفاعية الثنائية نحو مسار من الشكوك المتبادلة والضغوط الدبلوماسية، وخلق حالة من الاحتقان داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إذ انعكس الخلاف على مستويات التنسيق العسكري والاستراتيجي بين الحلفاء. وقد حذّر وزير الدفاع التركي حينها من أن حرمان بلاده من الـF‑35 سيقلّل بشكل كبير من قدرات الناتو الدفاعية، معتبرًا أن عرقلة مشاركة تركيا في المشروع لا يخدم مصلحة تركيا ولا الولايات المتحدة ولا الحلف. بالمقابل، رأت واشنطن وحلفاؤها أن وجود منظومة روسية في تركيا لا يمكن التهاون معه حتى لو كان الثمن فقدان شريك صناعي؛ إذ قالت المندوبة الأمريكية في الناتو كاي هتشيسون: “إذا مضت تركيا قدمًا في شراء الصواريخ الروسية، فسيتم استبعادها من برنامج F‑35، فلا يمكننا ترك برنامج F‑35 يتأثر أو يختل استقراره بوجود تلك المنظومة الروسية”.

بعد سنوات من السياسات الأمريكية المتشددة والرفض القاطع لأي تساهل بشأن أزمة S-400، دخلت واشنطن وأنقرة مرحلة جديدة من المحادثات تختلف عن المرحلة السابقة. يعكس ذلك مقاربة أمريكية أكثر براغماتية في التعامل مع الملف التركي. فالتصريحات الأخيرة للسفير باراك تؤكد أن معظم الملفات الخلافية قد تم حلّها أو في طريقها للحل قريبًا، وأن ما تبقى منها يمكن تسويته خلال الأشهر القليلة المقبلة. وأوضح باراك أن القضايا العالقة بين البلدين – والتي ظلت تتراكم طوال عشر سنوات – تشمل ملفات حساسة مثل عقوبات قانون CAATSA المفروضة على تركيا، وصفقات شراء مقاتلات إف-16 وإف-35. لكنه لفت إلى أن الرئيس ترامب يعتبر هذه العقوبات بلا معنى، ويدرك مدى تقدم تركيا في الصناعات الدفاعية ودورها في دعم أوكرانيا بالطائرات المسيّرة. هذا التصريح يُظهر تغيرًا مهمًا في النظرة الأمريكية؛ فبدلًا من التمسك بالعقوبات كأداة ضغط، يُبدي الجانب الأمريكي استعدادًا لإعادة تقييم جدواها وتجاوزها إن لزم الأمر، تقديرًا لدور تركيا الاستراتيجي.

وأكد السفير باراك أن المفاوضات مستمرة لحل ما تبقى من خلافات، كاشفًا أن الرئيسين ترامب وأردوغان ناقشا خلال لقائهما الأخير في البيت الأبيض ست قضايا جوهرية ظلت عالقة لنحو عقد وتم حل معظمها. ومن بين تلك القضايا قضيتان تتعلقان بمنظومة S-400 الروسية، الأولى هي تشغيل المنظومة وقد جرى التوصل إلى حل لها، والثانية هي مسألة ملكية المنظومة وهي الأصعب نسبيًا. أي أن الجانبين يبحثان عن صيغة تضمن السيطرة على منظومة S-400 أو تحييدها بطريقة لا تضر بأمن تكنولوجيا الـF‑35، ربما عبر ترتيبات فنية أو رقابة مشتركة، بحيث لا يبدو أي طرف وكأنه تراجع عن موقفه السيادي. ورغم تعقيد هذه التفاصيل، عبّر باراك عن قناعته بأن جميع المسائل العالقة ستُحل خلال 4 إلى 6 أشهر، مما سينقل العلاقات إلى مرحلة جديدة كليًا. وشدد على متانة العلاقة بين البلدين والتزام كل منهما تجاه الآخر خلال عملية التفاوض، في دلالة على وجود إرادة سياسية صلبة لدى واشنطن وأنقرة لطي صفحة الخلافات.

ساهم هذا الانفراج الوشيك في إعادة تشكيل قراءة واشنطن لأهمية تركيا داخل منظومة حلف شمال الأطلسي. فبعد فترة طويلة من الفتور، بدأت الولايات المتحدة تُدرك مجددًا الدور المركزي الذي تلعبه أنقرة في التوازن الإقليمي، خاصة مع تصاعد التحديات الأمنية في الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط. أشار السفير باراك إلى أن تركيا هي أكبر حليف للولايات المتحدة في الناتو بعد الاتحاد الأوروبي، منتقدًا عدم منحها الاحترام اللازم من جانب الأوروبيين وسعي أوروبا لاستبعادها من الاتحاد الأوروبي. كما نوّه بأن تركيا تمتلك ثاني أكبر جيش في الحلف وموقعًا جيوسياسيًا بالغ الأهمية بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. هذا الاعتراف الأمريكي المتجدد يعكس إدراكًا بأن تركيا شريك استراتيجي لا يمكن تجاوزه في صياغة السياسات الدفاعية والأمنية للحلف والدول الحليفة. فأنقرة بحكم موقعها والتحولات الجيوسياسية من حولها، باتت لاعبًا لا غنى عنه لضبط إيقاع التوازنات الإقليمية. ويبدو أن صانعي القرار في واشنطن راجعوا حساباتهم إزاء الكلفة الاستراتيجية لاستبعاد تركيا من مشروع دفاعي ضخم يضم معظم دول الناتو، لاسيما وأن ذلك الإقصاء دفع أنقرة خلال السنوات الماضية إلى توثيق صلاتها الدفاعية مع روسيا والصين بشكل غير مسبوق.

وعلى وقع الحرب الروسية الأوكرانية والأزمات الإقليمية الأخرى، برزت حاجة غربية ملحّة لاحتواء تركيا داخل البيت الأطلسي ومنع انزلاقها أكثر نحو المعسكر الروسي. ظهر ذلك في لهجة باراك المنتقدة لتردّد الأوروبيين في تسليح تركيا: فقد تساءل مستنكرًا كيف يُطلب من تركيا الدفاع عن أوروبا ضمن الناتو، بينما تُحرم في الوقت نفسه من امتلاك أفضل المعدات العسكرية خوفًا من روسيا، واصفًا هذا التناقض بـ"الجنون". مثل هذه التصريحات تشير إلى تحول في التفكير الأمريكي – وربما الأطلسي عمومًا – بحيث يجري تغليب البراغماتية الاستراتيجية على الخلافات السياسية. فبدل معاقبة تركيا ودفعها نحو موسكو، هناك إدراك بأنه من الأفضل استعادة تركيا إلى محور التعاون الكامل داخل الناتو لتعزيز الجبهة الغربية في وجه التحديات المشتركة.

يبدو أن المقاربة الأمريكية الجديدة في التعامل مع أنقرة تستند إلى عدة عناصر رئيسية. أولها إعادة تقييم ثمن خسارة تركيا كحليف عسكري في برنامج بحجم F‑35؛ فهذا المشروع يمثل تعاونًا تكنولوجيًا ودفاعيًا غير مسبوق بين الحلفاء، واستبعاد شريك بحجم تركيا منه أضعف الشراكة وألحق ضررًا اقتصاديًا بالطرفين (بما في ذلك شركات أمريكية كانت تستفيد من إنتاج الأجزاء في تركيا). ثاني العناصر هو استثمار العلاقة الشخصية بين ترامب وأردوغان كقناة اتصال مرنة تتجاوز التعقيدات البيروقراطية المعتادة. فهذه الصداقة أتاحت حلحلة ملفات استعصت طويلًا على الدبلوماسيين، وخلقت أجواء ثقة على أعلى مستوى ساعدت في تفكيك بعض العقد. أما العنصر الثالث فهو الرغبة الأمريكية في احتواء النفوذ الروسي المتنامي في المنطقة عبر إعادة تركيا إلى الحضن الأطلسي بالكامل. فبعد أن أثبتت أزمة أوكرانيا أن أنقرة لاعب أساسي – سواء في دعم أوكرانيا عسكريًا بطائرات مسيّرة أو في التوسط باتفاقات الحبوب – وجدت واشنطن أنه من الأجدى تضييق الفجوة مع تركيا بدل توسيعها. ويدرك الأمريكيون أن حل أزمة S-400/إف-35 سيقطع الطريق على موسكو في استغلال الخلاف التركي الغربي، ويعيد توجيه بوصلة أنقرة الاستراتيجية نحو الغرب.

بطبيعة الحال، لا تزال التسوية المنتظرة بحاجة إلى حلول تقنية وسياسية مبتكرة. إذ ينبغي إيجاد صيغة تضمن عدم تهديد منظومة S-400 لسرية تكنولوجيا F‑35. ربما يشمل ذلك وضع قيود على تشغيل الـS-400 أو إشراف أطلسي على استخدامه في تركيا، لمنع أي احتمال لتسريب بيانات حساسة. كما قد يتطلب الأمر ترتيبًا خاصًا بملكية أو تموضع المنظومة – كأن تُخزّن أو تُنقل خارج الأراضي التركية – بحيث تستطيع أنقرة القول إنها لم تتخل تمامًا عن صفقتها مع موسكو، وفي الوقت نفسه تطمئن واشنطن بأن الخطر على مقاتلاتها الشبحية زال. هذه المعادلة الدقيقة هدفها إرضاء الطرفين دون أن يظهر أي منهما بمظهر المتراجع عن مواقفه السيادية، وهو تحدٍ معقد يتطلب حنكة سياسية عالية ومرونة تفاوضية غير مسبوقة. ومع ذلك، تعطي التصريحات الأمريكية انطباعًا بأن الإرادة السياسية المشتركة متوفرة لإيجاد حل عملي وواقعي؛ فقد أقرّ باراك بأن ملف استبعاد تركيا من برنامج F‑35 لم يعد مغلقًا كما ظُنّ في الماضي، وأن هناك تصميمًا على فتح صفحة جديدة من التعاون.

إذا ما تم التوصل إلى حل توافقي لهذه الأزمة المعقدة، فإن تأثيراته لن تقتصر على مسألة المقاتلات وحدها، بل ستتجاوز ذلك إلى أبعاد استراتيجية أوسع. فيما يلي أبرز الانعكاسات المتوقعة:

من شأن إنهاء الخلاف حول S-400 وF‑35 أن يزيل إحدى أكبر نقاط الخلاف بين تركيا وبقية أعضاء الحلف. فقد شكلت هذه الأزمة مصدر احتكاك غير مسبوق داخل الناتو خلال السنوات الماضية، وانعكس ذلك سلبًا على التنسيق والثقة بين أنقرة وحلفائها. الحل المرتقب سيُبدد هذا الاحتقان ويعيد اللحمة إلى الصف الأطلسي، مما يعزز من تماسك الحلف في مواجهة التهديدات المشتركة. وقد أكّد مسؤولون أتراك مرارًا أن خلاف S-400 هو قضية ثنائية مع واشنطن ولا ينبغي أن تؤثر على تضامن الحلف الأطلسي، وبالتالي فإن حلها سيزيل شوكة عالقة في خاصرة التحالف.

 أي تسوية ناجحة سترسّخ دور تركيا كفاعل أساسي في معادلات الأمن بالشرق الأوسط وشرق المتوسط وحتى البحر الأسود. إذ ستجد أنقرة نفسها وقد استعادت زخم الشراكة الدفاعية مع واشنطن، ما يمكّنها من لعب أدوار أكبر في ملفات إقليمية معقدة مثل الأزمة السورية، وأمن البحر الأسود في ظل الحرب الأوكرانية، والوضع في ليبيا. وكانت تركيا بالفعل طرفًا مؤثرًا في هذه الساحات خلال الأعوام الماضية – سواء عبر وجودها العسكري ونفوذها السياسي أو عبر جهود الوساطة كما في الملف الأوكراني – وسيعني التقارب الأمريكي التركي المزيد من التنسيق في إدارة هذه الأزمات. كذلك، قد يُنظر لتركيا بعد حل الخلاف كموازن استراتيجي لا غنى عنه لضبط تحركات قوى إقليمية أخرى (كإيران مثلاً)، مما يعزز ثقلها الجيوسياسي لدى صانعي القرار في واشنطن وبروكسل على حد سواء.

قد يفتح الاتفاق المرتقب الباب أمام حقبة جديدة من الشراكة الدفاعية بين البلدين، يتم فيها إعادة بلورة قواعد التعاون العسكري بشكل يخدم المصالح المشتركة. فمن جهة، يمكن أن تستأنف تركيا مشاركتها في برامج مقاتلات الجيل الخامس – سواء باستعادة مقاتلاتها الأربع المحتجزة من طراز F‑35 أو بالحصول على بدائل متقدمة – وبالتالي تعزيز قدرات سلاح الجو التركي ضمن المنظومة الأطلسية. ومن جهة أخرى، قد تُستأنف مشاريع التصنيع المشترك ونقل التكنولوجيا التي جُمّدت عقب الخلاف، مما يعود بالنفع على قطاع الصناعات الدفاعية التركي والأمريكي معًا. كما أن التنسيق في مجالات مثل التدريبات العسكرية المشتركة وتبادل المعلومات الاستخباراتية قد يشهد دفعة قوية إلى الأمام. وإجمالًا، سيعكس تجاوز الخلافات السابقة قدرة الطرفين على توحيد الجهود مجددًا لخدمة مصالح استراتيجية مشتركة، سواء في تطوير القدرات الدفاعية أو في مواجهة التحديات الأمنية إقليمياً ودولياً.

لا شك أن أي اتفاق محتمل سيكون بمثابة اختبار حقيقي لقدرة البلدين على تجاوز خلافات عميقة وفتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية. فإعادة بناء الثقة بين واشنطن وأنقرة لن تعني فقط حل مشكلة F‑35، بل تشير إلى استعداد الحليفين للعمل معًا ضمن إطار الشراكة الاستراتيجية الأطلسية وبالمرونة المطلوبة أمام التحديات الإقليمية والدولية. إنها فرصة لإظهار أن تحالفًا عمره عقود كحلف الناتو قادر على استيعاب تباينات المصالح بين أعضائه الكبار، إذا توافرت الإرادة السياسية والتفاهم الشخصي بين القادة. وفي السياق الأوسع، يمكن اعتبار هذه التسوية نموذجًا عمليًا لكيفية إدارة الأزمات بين القوى الكبرى وحلفائها؛ نموذج يمزج بين الحلول التقنية (كإيجاد ضوابط فنية لاستخدام السلاح الروسي)، والترتيبات الأمنية (لحماية الأسرار العسكرية للحلف)، والعلاقات الشخصية بين الزعماء (لتليين المواقف المتشددة)، بما يحقق توازنًا عمليًا بين احترام السيادة الوطنية من جهة والوفاء بالالتزامات الحليفة الدولية من جهة أخرى.

التصريحات الأمريكية الأخيرة تعكس تحوّلًا ملموسًا في مواقف واشنطن، وتشير إلى أن ملف استبعاد تركيا من برنامج F‑35 لم يعد قضية مغلقة كما كان يُعتقد في السنوات الماضية. فهناك اليوم إرادة سياسية مشتركة لإيجاد حلول عملية وواقعية تضمن مصالح الطرفين. ورغم أن الطريق نحو التسوية النهائية لا يزال معقدًا ويتطلب خطوات مدروسة لضمان عدم الإضرار بمصالح أي طرف، فإن العلاقة الشخصية بين ترامب وأردوغان تمنح بارقة أمل في إمكانية الوصول إلى صيغة توافقية. مثل هذه الصيغة، إن تحققت، قد تصبح نموذجًا لتوازن المصالح بين الولايات المتحدة وتركيا، وتعيد إطلاق التعاون الدفاعي والاستراتيجي بين البلدين على أسس أكثر مرونة وبراغماتية.

في المحصلة، تقف العلاقات الأمريكية التركية عند نقطة تحول حاسمة. أي تقدم في حلحلة هذا الملف الشائك من شأنه تعزيز الاستقرار الإقليمي وإعادة ضبط ديناميات التحالف داخل الناتو. كما سيعيد تثبيت دور تركيا كعضو مؤثر قادر على الموازنة بين مصالحه الوطنية والتزاماته الدولية، في مشهد يعكس قدرة الحلفاء التاريخيين على إدارة الأزمات بطريقة تحقق التوازن بين المصالح الاستراتيجية والسيادة الوطنية والتعاون المشترك. التحالف التركي الأمريكي مرّ بمنعطفات حادة في العقد الأخير، لكنه يُثبت اليوم أنه قادر على تصحيح المسار عندما تقتضي الضرورة الاستراتيجية ذلك. ويبقى نجاح هذه الجهود رهنًا بحسن ترجمة التفاهمات السياسية إلى خطوات تنفيذية ملموسة، تضع مصالح التحالف فوق خلافات الماضي وتؤسس لمرحلة جديدة من الشراكة الوثيقة بين أنقرة وواشنطن.