"اليوم الثامن" تقدم قراءة في ملامح المشهد الأدبي..

الأدب والفن.. مضامين بارزة في أدب قضية الجنوب.. (ورقة بحثية)

حين انفجرت ثورة الجنوب السلمية التحررية في يوليو 2007م رافق الأدب والفن هذه الثورة من أول وهلة، وصدعت أناشيد عبود خواجة الثورية الحماسية التي ألهبت مشاعر الجنوبيين، وأرعبت فرائص المحتلين، وظهر عدد من الشعراء الشعبيين الجنوبيين صوروا بأشعارهم ملامح القضية وعدالتها وما جرى للجنوبيين من مآسي الاحتلال.

فتاة جنوبية ترسم على وجهها علم بلادها وفي الخلف متظاهرون - تصوير أوراس عبدالله

عدن

مدخل :" قال الصحفي سامي غالب في صحيفة النداء، وهو يحاور الرئيس الراحل فيصل بن شملان: إن القضية الجنوبية حين بدأت تنتج شعرًا وأغانيًّا وأناشيد، فإن ذلك يعني وصولها إلى أعماق الوجدان ولم تكن قضية سياسية على سطح المشهد السياسي؛ وفي الحقيقة أنها لم تصل إلى أعماق الوجدان لأنها في الأصل لم تبارح الوجدان ولا أعماقه، ومع هذا فقد كان هذا الصحفي المثقف صاحب بصيرة، يدرك قيمة الأدب وأهمية حضوره في مسار الثورة.

ورحم الله الشاعر التامي محمد حسين العطيلة حين هتف في أول السبعينات محذرًا من الوحدة حيث قال:

وحدة مع من 

والمشايخ في اليمن???

من هو لها يضمن

تقع بيضاء هلول??

الشعب يشتيها

وبايدفع ثمن

والرجعية يشتوا

يغلوها غلول.

وابن عمه مساعد الفارعي رحمه الله حين ارتجز بعد حرب 94 قائلًا:

وحدة سياسة

بالغبار اتلبسه

روادها خمسة

بيجنون الذنوب

صارت بناء عكسة

مشينا هرمسة

لما استوت نكسة

على شعب الجنوب

د. عبده يحيى الدباني

د. سالم الحنشي

باحثان أكاديميان لدى مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات 

 

وتأسيسًا على ما تقدم نحبُّ أن نذكر هنا بأن عددًا من أدباء الجنوب ومثقفيه قد تداعوا إلى لقاء كرسوه لبحث عملية جمع أدب قضية شعب الجنوب، ونرى أن خريطة جمع أدب قضية شعب الجنوب يمكن أن تنطلق من ذلك الأدب الجنوبي الذي كتب قبل استقلال الجنوب 1967م، ذلك الأدب الذي كان جنوبي الهوى والهوية والهم والوطن، فبعض أشعار لطفي أمان وعلي محمد لقمان ومحمد عبده غانم وعلي أحمد باكثير ومحمد سعيد جرادة وإدريس حنبلة وغيرهم، على الرغم ما في شعر هؤلاء من نزعة يمنية عامة بل ونزعة قومية وإنسانية فإن هناك أشعارًا اختصَّ بها الجنوب موطنًا وقضيةً وثورةً؛ ومن ثم التعريج على ذلك الأدب الجنوبي  في ظل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بما له وما عليه، حيث شدا بالأناشيد الوطنية والثورية خلال تلك المراحل عدد من فناني الجنوب المشهورين كالمرشدي وأحمد قاسم والعطروش ومحمد صالح عزاني ومحمد سعد، وكل هذا سيكون تمهيدًا نظريَّا وتاريخيًّا لأدب ثورة شعب الجنوب الراهنة، إذ وظفت كثير من تلك الأناشيد الثورية والوطنية السابقة في هذه الثورة، أما مرحلة ما بعد الوحدة المغدور بها لا سيما ما بعد حرب احتلال الجنوب فإن الأديب الجنوبي قد صُدِمَ صدمة كبيرة بما حدث حين رأى حلمه الوحدوي الجميل يتحطم أمام عينيه، ويتحول إلى كوابيس حقيقية، فانطوى على نفسه يبكي مأساته وبراءته ومثاليته ولم يسلم أدباء الجنوب ومثقفوه من المطاردة والتقاعد القسري والترغيب والترهيب والإهمال، حتى إن الشاعر  عبدالرحمن إبراهيم (رحمه الله) تعرض للضرب المبرح ذات يوم نظرًا لموقفه الشجاع من حرب صيف94م التي اجتاحت الجنوب ودمرت دولته؛ وغير ذلك من الإجراءات والمعاملات والسياسات التي أصابت الأدب والأدباء في الجنوب في مقتل، حتى لقد قال الدكتور عبدالعزيز المقالح: إن تلك الحرب لم تستطع أن تفصل بين الشمال والجنوب ولكنها استطاعت أن تفصل بين الشاعر والقصيدة.

لقد تمَّ الاستيلاء على مقرات الأدباء في عدن خاصة والجنوب عامة وعلى مقرات لفئات إبداعية جنوبية أخرى، فأغلقت دور السينما ودمرت المسارح، وتم البسط عليها وتحويلها إلى إقطاعيات خاصة، وقد كان المبدعون في الجنوب شعراء وفنانون وفرق غنائية ومسرحية، يحظون برعاية الدولة ودعمها قبل الوحدة، فتغير وضعهم بشكل كامل بعد حرب 94م.

وعلى الرغم من كل ذلك لقد شهدت تلك المدة ظهور أدب جنوبي مقاوم لتلك السياسة الاحتلالية التي قضت إلى الأبد على الوحدة السلمية التي تحققت في مايو 1990م، فكانت مساجلات الشعراء الشعبيين بين من يقف في صف الجنوب وشعبه المقهور والشعراء الذين يقفون بصف الوحدة أو الموت، التي تخرج مغناة بأصوات جنوبية معروفة كحسين عبدالناصر وعلي صالح اليافعي، تشعل الحماس بين فئات الشعب الجنوبي، وكان يتلهف الشارع الجنوبي لإصدار كل كاسيت جديد يتم نشره وتوزيعه سرًا، وكانت فئات الشعب الجنوبي من المثقفين والضباط المسرحين قسرًا يسعون بكل شغف ومهما كلفهم من ثمن إلى اقتناء كل إصدار، وجعله سمير مجالسهم اليومية والمناسباتية.

ولم يقتصر الأمر على المساجلات(بدع ورد) وإنما هناك من الشعراء من سارع إلى محاولة طمأنة الشعب الجنوبي في محنته التي تعرض لها بعد حرب 94 مباشرة، ويواسيه، ويرى بأن عليه أخذ النفس، ومعاودة الكَرَّة من جديد لأخذ حقوقه المسلوبة هويَّةً وأرضًا، رغم أن أولئك الشعراء في المراحل السابقة قد غنوا وشدو بالوحدة، ومثلت الوحدة موضوعًا شعريًّا بارزًا في أشعار بعضهم؛ لكن هم الشعراء أصحاب الفكر والرؤية والروِّية في استقراء الواقع ومآلاته أكثر من غيرهم، لهذا يبشرون بما ستؤول إليه الأوضاع مستقبلًا، فهذا الشاعر الشعبي الكبير شائف محمد الخالدي في زامل له بعد حرب 94 يصور الوضع في عدن مستنكرًا، قائلًا:

طالت سُبُلكم يا الفروخ المنتهش 

 

 

وأصبح لكم داخل عدن قاله وقِيل

 

كنتم تحطون الجنابي في كرش

 

 

واليوم رشاشات في السوق الطويل

 

ومع هذا التحول في حياة أولئك الغزاة، وما يشعرون به من زهو الانتصار، يحث الخالدي شعب الجنوب إلى عدم الاستسلام للواقع واليأس من تغييره، فيقول:

إياك يا شعب الجنوب أن ترتبش

 

 

شفها مراحل مثلما عابر سبيل

 

محد بها دائم على حيلة وغش

 

 

لَوَّل رحل وآخر مراعي للرحيل

 

 

وقد عملت الأصوات الغنائية التي لحنت وغنت هذه الأشعار على نشرها بين فئات واسعة من شعب الجنوب، وإن كانت الوسائل المتوافرة حينها، التسجيل في الاستيديوهات على أشرطة الكاسيت، صعبة الانتشار على رقعة الجنوب العربي بكله في ظل سلطة الرغيب المتمثل في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية للمحتل، إلا أنه بعد التطور التكنلوجي الحديث وانتشاره مع نهاية العقد الأول من هذا القرن أدَّى إلى وصول كل هذه الأغنيات الوطنية والحماسية إلى كل شخص جنوبي وصل إلى يده وسيلة هذا التواصل(التلفون).

ورافق أشعار تلك المدة زوامل حماسية تسعى إلى تهيئة شعب الجنوب إلى الانتفاض والانتقام مما تعرض له من خديعة ومكر بالوحدة المغدور بها، وكان تأثير هذه الزوامل قويًّا لاسيما بين فئة الشباب الذين كانوا يرددونها في شروحهم التي تقام في المناسبات الاجتماعية كحفلات الزواج، والصلح في القضايا القبلية العامة وإقامة الأنساب، والاحتفالات الموسمية، وانتشرت زوامل سيارة كانت بمثابة فاتحة تلك الشروح، يبتدأون بها كل شرح، ويعيدون ترديدها بين حين وآخر في مقام شرحهم الواحد، كقول الشاعر الشعبي أحمد الوحش:

قال أحمد الوحش واشبان يافع كـل يـجهـز لـــعـمــره بنـدقـــية

لـمــا نــرد الـعـبــارة بــــاب صـنـعـاء (اليافعي رطل والزيدي وقية)

وأشعارٌ أخرى تحث على الاستبسال والإقدام في التضحية لأجل الوطن، وتصور بأن الحرب سجال يومًا بيوم، وليست الغلبة فيها لطرف واحد في كل موقعة، كقول السليماني:

قال السليماني توكلنا 

 

 

ما يقتل إلا من كمل يومه

 

الحرب يوم لي ويوم لك

 

 

والقبيـلـة كـل عـلـى سـومـــــــه

 

وحين انفجرت ثورة الجنوب السلمية التحررية في يوليو 2007م رافق الأدب والفن هذه الثورة من أول وهلة، وصدعت أناشيد عبود خواجة الثورية الحماسية التي ألهبت مشاعر الجنوبيين، وأرعبت فرائص المحتلين، وظهر عدد من الشعراء الشعبيين الجنوبيين صوروا بأشعارهم ملامح القضية وعدالتها وما جرى للجنوبيين من مآسي الاحتلال، وما يتوق إليه شعبنا من مستقبل مستقل في ظل عودة دولة الجنوب المدنية الحديثة، وظهر في خضم هذا الحراك السلمي عددٌ من الفنانين الشباب الذين صدحوا بأصواتهم الغنائية بالأشعار الوطنية والحماسية إلى جانب ربان سفينة الثورة الغنائية عبود خواجة، كماجد السعدي والسالمي ورمزي محمد... .

ولا يزال ينبوع هذا الشعر منطلقًا وحاضرًا في كل منعطفات الثورة وساحاتها ومناسباتها وأيامها، وهناك شعر فصيح رافق القضية وعبر عنها مثل أشعار كريم سالم الحنكي، وجنيد محمد الجنيد، ومبارك سالمين، وجمال الرمرش وسعيد علي نور وغيرهم، ولم تغب الرواية عن المشهد الجنوبي في عدن خاصة إذ نشر الدكتور حبيب سروري روايته الشهيرة(طائر الخراب) وغيرها من الأعمال السردية في هذه القضية، وهناك شعراء شعبيون كثر من مثل ابن شجاع أبو لحمدي وثابت عوض اليهري وأبو راضي باتيس والمكعبي والبجيري وأبو حمدي ومطيع المردعي والشهيدين الشاعرين نبيل الخالدي وسيف علي الدباني والشاعر  الطفل الأعجوبة رعد الحالمي وغيرهم كثير.

وهناك مضامين بارزة في أدب قضية الجنوب فمن هذه المضامين بيان غدر الطرف السياسي في الوحدة وكشف نواياه الشريرة الانتقامية ضد الجنوب ومن المعاني أيضًا التعبير عن طبيعة المجتمع الجنوبي وعن هويته والتمسك بهذه الهوية والتغني بتاريخ الجنوب وتثوير الشعب وتنويره في سبيل النهوض بقضيته العادلة وزرع الثقة فيه بأنه صاحب حق وبأن شركاء الوحدة قد نكثوا العهود وحولوا الوحدة إلى احتلال.

وكان أجمل ما في هذا الأدب الثوري الجنوبي قوة الإيمان بالنصر التي ترددت اصداؤها في الشعر والنثر والأجمل من ذلك أن هذا الأدب جاء موحدًا وطنيًّا وثوريًّا ولم تتنازعه القوى السياسية الجنوبية المختلفة لأنه ارتبط بالشعب وقضيته ومعاناته وليس بالنخب السياسية، وكثيرًا ما دعا الأدب إلى توحيد الطاقات الاجتماعية والقوى السياسية موجهًا الجميع إلى ضرورة الولاء الوطني للجنوب، وقد نهض بإقامة الحجة على الاحتلال وعلى فشل الوحدة وموتها في مهدها، وقد استطاع أن يفكك الخطاب الإعلامي والديني الذي كان يروجه الاحتلال في تخدير الشعب، كما استطاع أن يكسر حاجز الخوف لدى الناس من بطش الاحتلال وأساليبه، وكشف سياسة الترغيب والترهيب التي اعتنقها، مثلما عبر هذا الأدب عن معاناة شعب الجنوب في ظل الاحتلال وفي ظل ثورته السلمية التحررية وما لاقاه من بطش وعسف وقتل وتنكيل واعتقالات وغيرها.

كما استطاع هذا الأدب الجنوبي الثوري التأثير إلى حد ما في شعب الشمال بعدالة ثورة الجنوبيين ومشروعيتها وبما جرى عليهم من إقصاء وظلم وغيرهما.

ولم ينس الشعراء والأدباء في خضم الثورة أن يرثوا الشهداء رثاء صادقًا ويستلهموا العبرة من هذه التضحيات ويوظفوها في أدبهم من أجل إذكاء شعلة الثورة كما رسموا في أشعارهم الخريطة الجنوبية، إذ تعانقت مناطق الجنوب في القصائد والأناشيد معززة التصالح والتسامح والمحبة والوئام ووحدة المصير وغير ذلك من المضامين الأدبية.

ولا ننسى ما كان للمقالة السياسية من دور في بلورة القضية الجنوبية ورسم معالمها وتوضيح مشروعيتها لاسيما تلك المقالات الملتهبة التي كانت تنشرها صحيفة (الأيام) التي تُعدُّ بحق منبر القضية الأول.

وكانت إلى جانب ذلك النكت السياسية والنوادر والقصص التي تبين مساوئ نظام الاحتلال واختلاف ثقافة الشعبين وعاداتهم وتقاليدهم، وتبشر الجنوبيين بالخلاص من الاحتلال وإن طال الزمن.

ومع انطلاقة الحرب الثانية على الجنوب في 2015م كان الأدب حاضرًا في رصد المواقع وتلك الدوائر الحربية في مختلف الجبهات، يصورها ويبيِّن موضوع الخلاف الديني المذهبي والدنيوي الذي اتسمت به هذه الحرب، فنجد القصص والأشعار التي قيلت من قبل الشعراء سواء الواقفين إلى جانب صف الجنوب عن بُعد من الجبهات أو المشاركين الفعليين في تلك الجبهات، كالشاعر الشهيد/ محمد محسن السليماني، الذي استشهد في جبهة جعولة، وقال في أثناء تلك الحرب:

كوني شهادة يا مزارع جعولة

 

 

أنتِ ارصدي وكل واحد با يشوف

 

أمـا نصـلي بـعدهم فـي سربلة

 

 

أو بـا يـصلـوا بعدنا ضمّ الكفوف

 

وأشعار حماسية كثيرة تستحث الشعب وتحفزه للذود عن الدين والأرض والعرض.

وبعد هذه الحرب ودحر الغزاة عن عدن هبَّ أدباء الجنوب ومثقفوه إلى التفاعل بوساطة وسائل التواصل الاجتماعي فأنشئت الجروبات التي عملت على ضمِّ الأدباء والمثقفين والتعارف فيما بينهم والتعريف بهم.

وتمثل مدينة عدن الجميلة حاضنة انطلاق هذه الإبداعات الجنوبية، فبعد رسم أروع البطولات والملاحم في صد العدو الغاشم بكل ترسانته العسكرية المدربة وفق فنون التدريب الحديثة في الأكاديميات العسكرية الشرقية والغربية، امتشق الأدباء والمثقفون أقلامهم، ليرسموا أروع الإبداعات الفنية في هذه المدينة، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي الوسيلة الأولى لأدباء عدن وكتابها التي بوساطتها بدأت تتشكل ملامح الأدب الجنوبي، فشرعوا في التجمع في تلك الوسائط ونشر إبداعاتهم، وأخذوا في التعارف فيما بينهم، وكأنهم قد أتوا من أماكن سحيقة تبتعد عن بعضها بعض بفواصل معقدة، والتسابق بنشر إبداعاتهم الفنية فيها، وكان يولي تلك الوسائط التواصلية كوكبة من نقاد الفنون المختلفة _ في هذه المدينة _ عنايتهم، يرافقهم مجموعة ناشئة من خريجي كليات جامعة عدن، وطلاب الدراسات العليا، وبدأنا نطالع في هذه المواقع الأدب الخاص بالقضية الجنوبية، فكانت تلك الوسائط منبر إعلامي أدبي، لسيل وفير من الأدب والأدباء المغمورين ونشر منجزاتهم الإبداعية سواء تلك التي كانت في حوزتهم محدودة النشر أو الجديدة التي تواكب الأحداث والمستجدات اليومية في خريطة مسيرة الثورة التحررية، وطالعنا كثير من القصائد والقصص والروايات التي موضوعها أرض الجنوب وشعبه ومآثر أبنائه البطولية في الحرب.

وأخذت هذه الاهتمامات تتجاوز وسائل التواصل الاجتماعي وتخرج إلى الفضاء الجغرافي المتمثل في المقرات والقاعات رويدًا رويدًا، ومع تشكيل اتحاد أدباء وكُتَّاب الجنوب بدأت تقام صباحية شعرية هنا، وتارة حفلة توقيع كتاب وتوزيعه هناك... .

ويبزغ في هذه الأثناء أدب شباب الجنوب العربي، ويكاد أن يكون هذا الإشراق لأدب الشباب الأول من نوعه في هذه البلاد منذ قيام الوحدة المشؤومة التي أدت إلى وأد كل إبداع ونشاط جنوبي، إذ عانى شباب الجنوب العربي ومبدعوه من الأدباء سنوات كثيرة من التهميش، وإن كان بعض منهم قد ظل في كفاح وإصرار لإبراز مواهبهم وإبداعاتهم في ظل ذلك التعتيم، إلا أنهم لا يكادون أن يذكروا أو يظهروا على السطح ناهيك عن أن يمثلوا ظاهرة تعكس خصوصية الأرض التي يعيشون عليها، وكان كل إبداع وإعلام يسلط على أرض المنتصر في حرب 94 حصرًا.

فكانت حرب 2015م بمثابة محطة فاصلة بين تاريخ بائس مضى، وحاضر أشع بنوره في سماء بلاد الجنوب خاصةً والجزيرة العربية عامةً، وينبأ بمستقبل زاهر وواعد بمختلف الإبداعات والإنجازات التي سترسم ملامح الوطن وخصوصيته وهويته الحقيقية، إن استغل الاستغلال الأمثل ولقي الرعاية والاهتمام الجيد.

وفي خضم هذا الحراك الثقافي والأدبي بدأت الإبداعات الأدبية تخرج نسخًا ورقيةً، تحوي بين دفتيها إبداعات خاصة بقضية الجنوب ومسيرة ثورته التحررية بشقيها السلمية والحربية، كديوان الشاعر رائد القاضي(الله يرحمه) الموسوم بـ(رماد البروق) الذي أسهم في تكلفة طباعته ونشره(اتحاد أدباء وكتاب الجنوب) في دار حضرموت للدراسات والنشر عام 2020م، والذي توجد فيه عدد من القصائد الوطنية التي موضوعها الوطن وقضاياه، وتتناول مسيرة الثورة الجنوبية التحررية عامة، كقصيدة(إخوة يوسف) 2014م، التي يبيَّن فيها زيف وتلفيق نظام الاحتلال(دعاة الضلال) كما يسميهم، وكيف عمل غدرهم بالعهد والاتفاق على تمزيق حلم الوحدة فأصبحت كابوسًا بعد القضاء عليها بالحرب، ولمساندة شعبهم في نصرهم الزائف لم يعد هناك مجال للاعتذار أو الحوار مع شعب الجنوب الذي صار يغتلي ويتأهب لاسترداد حقه المسلوب، ويختمها على لسان شعب الجنوب مخاطبًا شعب الشمال، بقوله:

أخا الجرح، لم يبقَ من شوقنا

 

 

سوى وجع نازفٍ واعتلال

 

ولم يبقَ إلا دمٌ يغتلي

 

 

ويصرخ بالشعب، قم للنضال

 

ألا تسمعُ الزحفَ يا صاحبي؟

 

 

يبشر طغيانكم بالزوال

 

  وقصيدة (رماد البروق) 2018م، التي محورها الأساس الشهداء الذين رووا بدمائهم الزكية تربة الوطن، وقصيدة(سجل الآن) 2017م، التي تصف واقع حال شعب الجنوب وجلاديه من الغزاة، ودوَّامة الحرب المتواصلة التي أنتجها نظام هؤلاء الطغاة، ويختمها بإعلان البشارة، قرب الانفراج والخلاص من هذا الواقع البائس، قائلًا:

سجل الآن

أنَّا على عتبات الصباح

الجديد

وما زال الأدب في الجنوب يرسم ملامح الهوية والأرض الجنوبية في مسار ثورة الجنوب التحررية، ونجد هذا الحضور يترسم من خلال تدوين تلك المآثر البطولية للمقاتلين في الجبهات، وفي مديح القيادات والأبطال، وفي رثاء الشهداء، وبهذا الاتجاه نجد الأدب يدون من خلال تلك الكتب والكتيبات التي تنشر في محافل التأبين لأولئك الأبطال، فكثير من تلك القصائد الرثائية تشتمل على وصف الوطن والهدف الذي ضحى الشهيد من أجله والمآثر البطولية التي سجلها في عدد من المواقع(الجبهات) على طول الوطن وعرضه، ودور الشهيد في مسيرة الحراك السلمي، وحضور فعالياته المختلفة، وعمله على مبدأ التصالح والتسامح الجنوبي، وآماله وطموحاته في شكل الدولة المستقبلية، والاستبسال بالنفس رخيصة في سبيل حرية الوطن واستقلاله.

وآخر ما يمكن الإشارة إليه في هذا المقام، هو ملامح المشهد الأدبي الجنوبي الحالي المتمثل في وجود كوكبة كبيرة من الأدباء الجنوبيين مبدعين ونقادًا، يرسمون هوية وخصوصية الأدب الجنوبي حاضرًا ومستقبلًا، ويتمثل هؤلاء في أكاديميين وطلاب جامعيين وخريجين يكتبون الشعر والقصة والرواية ويمارسون النقد، وهناك من يجمع بين أكثر من موهبة، ويتميز هذا المشهد بالحضور النسوي اللافت، فهؤلاء يمثلون المشهد الحاضر في هوية الأدب الجنوبي وخصوصيته، ونمتنى أن تهتم جهات الاختصاص برعاية الأدب والأدباء وفناني الجنوب، فبهذه الجوانب الإبداعية تؤرخ وتتميَّز هويات الشعوب وتُحصَن، وتظل شاهدًا على مرِّ الأزمان وإن تبدلت الأحوال تحت أي ظرف كان.

ونجدها مناسبة هنا أن ندعوا جميع المهتمين بهذا الأدب شعرًا ونثرًا والمبدعين أنفسهم وناشطي الحراك السلمي والدوائر الثقافية في المجلس الانتقالي الجنوبي وفروعه إلى الاهتمام بجمع هذا الأدب.