بعد اتفاقية ثنائية..

الحكومة المالية تطلق سراح 46 جنديًا والصين تملىء فراغ التنمية في القارة السمراء

موقع مالي الرابط بين شمال القارة الأفريقية ووسطها وغربها يجعلها حجرا أساسيا ضمن إستراتيجية الصين في القارة السمراء.

تزايد النفوذ الصيني في مالي بالتزامن مع تراجع هيمنة باريس على البلاد وعلى أفريقيا يثير قلق الرئيس الفرنسي ماكرون

مالي

وافقت الحكومة المالية على إطلاق سراح 46 جنديًا من كوت ديفوار (ساحل العاج) كانوا محتجزين لديها منذ خمسة أشهر؛ بعد اتفاقية ثنائية تم التوصل إليها بحضور وسيط من توجو ووفد من كوت ديفوار.

وأكدت رئاسة مالي - في بيان - أن "الوفد الوزاري الأيفواري وصل مع وسيط توجولي لإجراء محادثات مع الحكومة المالية، حيث تم تنظيم الزيارة بعد أن أرسل الرئيس الإيفواري الحسن واتارا مؤخرًا رسالة إلى رئيس مالي العقيد أسيمي غويتا من أجل تخفيف التوترات المتصاعدة بشأن تلك الأزمة".

وفي ختام الاجتماع، أكدت رئاسة مالي أن الاتفاقية "تعزز السلام" بين البلدين من أجل "تجاوز هذا الحدث"، وأن الوثيقة التي اتفق الجانبان على التوقيع عليها لا تدعو إلى إطلاق سراح العسكريين فحسب، بل ستكون بمثابة بيانًا لتعزيز العلاقات بين كوت ديفوار ومالي، إلا أنه لم يتم التوقيع على نص الاتفاقية بعد.

تجدر الإشارة إلى أن مالي احتجزت 49 جنديا من كوت ديفوار في 10 يوليو الماضي، واتهمتهم بأنهم "مرتزقة"، ووجه المدعون الماليون لجميع المحتجزين اتهامات بالتآمر ومحاولة الإضرار بأمن الدولة.

وتم الإفراج عن ثلاث مجندات في سبتمبر كبادرة إنسانية، وظل بقية الجنود ظلوا رهن الاحتجاز في عاصمة مالي.. إلا أن كوت ديفوار ذكرت أنها أرسلت جنودها في إطار دورات روتينية متناوبة؛ لتقديم خدمات دعم لبعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي، مطالبة جارتها بإطلاق سراحهم.

وقالت صحيفة الشرق الأوسط السعودية في الوقت الذي تواجه مالي فيه وضعاً أمنياً هشاً تحت تأثير «تهديدات الإرهاب»، تزداد المخاوف من انزلاق الأمور إلى وضع «أكثر هشاشة وفوضوية» في ظل تهديدات تواجه اتفاق سلام بين النظام في باماكو، وجماعات متمردة مسلحة، وُقع عام 2015. وجمَّد تحالف لجماعات مُسلحة في شمال مالي، الخميس الماضي، مشاركته في محادثات سلام قائمة على أساس اتفاق الجزائر العاصمة عام 2015، بسبب ما وصفه بـ«غياب الإرادة السياسية لدى الحكومة العسكرية في الدولة الواقعة في غرب أفريقيا».
وقال التحالف الذي يُطلق عليه اسم «الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية»، في بيان، إنه «لن يعود إلى الطاولة إلا إذا أجريت المحادثات في بلد محايد وبوساطة دولية». ومن شأن هذا الإعلان تقويض الاتفاق الموقع في الجزائر العاصمة قبل أكثر من 7 سنوات بين الحكومة المدنية التي كانت في السلطة في ذلك الوقت، والجماعات المسلحة، لاستعادة السلام في الشمال، بعد سعي المتمردين للانفصال عن العاصمة باماكو عام 2012.
وينص الاتفاق على مزيد من الحكم الذاتي المحلي، ودمج المقاتلين فيما يسمى «الجيش المعاد تشكيله».
وشهدت مالي انقلابين عسكريين منذ أغسطس (آب) 2020. وسحبت فرنسا آلاف الجنود من مالي هذا العام، بعد ما وصفته بـ«تحالف مالي مع مجموعة (فاغنر) العسكرية الروسية». واعتمدت الحكومة جدولاً زمنياً انتقالياً للسماح للمدنيين بالعودة إلى السلطة في مارس (آذار) 2024. لكن الأزمة السياسية تتزامن مع أخرى أمنية خطرة، مستمرة منذ اندلاع حركات التمرد الانفصالية والإرهابية في الشمال عام 2012.
وقدَّم التحالف رسالة إلى وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، طالب خلالها الجزائر، ووسطاء دوليين آخرين بـ«اجتماع طارئ» في «مكانٍ محايد» للبحث في اتفاق السلام.
واجتمع «أعضاء الوساطة الدولية» في مالي، منتصف الشهر الحالي، للشروع في «تقييم واضح للوضع الحالي، لتنفيذ الاتفاق المنبثق عن مسار الجزائر»، حسب وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية.
وحسب الوكالة، بحث أعضاء الوساطة الدولية الأسباب التي أدت إلى توقف أشغال الدورة الـ47 للجنة متابعة الاتفاق، وأبدوا أسفهم حيال التطورات التي اعترضت طريق هذه الديناميكية الإيجابية التي سُجلت في الشهور الماضية.
ورفض السيد بن بيلا، عضو «المكتب التنفيذي للحركة الوطنية لتحرير أزواد»، ما وصفته بعض وسائل الإعلام، بـ«انسحاب» الحركات من الاتفاق، ووصف الإجراء الذي اتخذ بـ«تجميد المشاركة في المحادثات».
وقال بن بيلا: «قدم التحالف عدة بيانات للوسيط، أكدنا فيها تعطيل الجانب المالي لتنفيذ بنود الاتفاقية. واحتجاجاً على عدم تفاعل رعاة الاتفاق مع تصرفات السلطة الانقلابية في مالي، اتخذنا قرارنا بتجميد مشاركتنا في المحادثات»؛ مضيفاً: «الاتفاق يقترب من الانهيار، ونحن لن نظل أسرى له إلى الأبد، فقد مضى على التوقيع ما يقرب من 8 سنوات، ولم يُنفذ حتى 2 في المائة من النصوص».
وتابع: «ينبغي تنفيذ الاتفاق بحذافيره، أو العودة إلى طاولة المفاوضات من جديد. وكل طرف يطرح ملاحظاته على الاتفاق وتنفيذه سلباً أو إيجاباً»، مشدداً: «في حال عدم حدوث ذلك سيعود العنف من جديد بشكل مؤكد».
بدوره، قال أحمد سلطان، الخبير في شؤون الحركات المتطرفة إن «الوضع في مالي متفجر للغاية، والمجلس العسكري الحاكم غير قادر على مواجهة كل من تنظيمي (داعش) و(القاعدة)، حتى قبل هذا التطور الخطير المرتبط بتهديد الاتفاق مع المعارضة».
ورأى سلطان أن «من المنطقي ألا تكون هناك إرادة من السلطة الحاكمة في مالي للانخراط في صراع مسلح مع مقاتلي الأزواد، وعلى الرغم من عدم تلاقي الأزواديين مع (داعش) و(القاعدة) آيديولوجياً، فإنه في ظل هذه التطورات قد نشهد ازدياداً للعنف من كل الأطراف، يستهدف السلطة الحاكمة في باماكو».

ومع انسحاب فرنسا عسكريا من مالي، وإعلانها وقف مساعدتها التنموية، وجدت الصين الأبواب مشرعة أمامها لتعزيز تواجدها الاقتصادي في ذلك البلد الأفريقي دون منافسة شديدة من الدول الغربية، خاصة في ظل حضور عسكري متزايد لحليفتها روسيا في المنطقة.

وكانت وزارة الخارجية الفرنسية أعلنت في الثامن عشر من نوفمبر وقف باريس المساعدات التنموية التي تقدمها لمالي، بعد ثلاثة أشهر من انسحابها العسكري منها.

ولم تنتظر الصين صدور هذا القرار لتسريع تواجدها الاقتصادي في مالي، ضمن رؤية أوسع تشمل مبادرة الحزام والطريق في أفريقيا، بل بادرت بوضع اللبنة الأولى لتعاون أوسع.

وفي الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي افتتحت النسخة الأولى للمنتدى الاقتصادي الصيني المالي في العاصمة باماكو، بمناسبة مرور 62 عاما على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

وعكس تنظيم أول منتدى للتعاون الصيني المالي رغبة بكين في إطلاق مرحلة جديدة من التعاون مع مالي بعد الصدمة التي تلقتها في 2015، وتسببت في تراجع الدور الصيني في البلاد، وإحجامها عن ضخ استثمارات كبيرة، في بلد مازال يواجه تحديات أمنية تهدد وجود الدولة برمته.

تزايد النفوذ الصيني في مالي بالتزامن مع تراجع هيمنة باريس على البلاد وعلى أفريقيا يثير قلق الرئيس الفرنسي ماكرون

ففي 2014 أعلنت الصين عن مشاريع في مالي بقيمة 11 مليار دولار، تشمل إنشاء خط للسكك الحديد بين مالي وميناء كوناكريا في غينيا، وتطوير خط السكك الحديد بين باماكو وميناء داكار بالسنغال ومشاريع أخرى متعلقة بالبنية التحتية واستخراج الحديد الخام وتحويله إلى صلب.

غير أن هجوما تبناه تنظيم المرابطون التابع “للقاعدة”، استهدف فندقا في بامكو، تسبب بمقتل 20 شخصا بينهم ثلاثة مدراء تنفيذيون في شركة صينية للسكك الحديد، تسبب في تجميد هذه المشاريع الإستراتيجية التي كان بإمكانها فك العزلة عن بلد مغلق جغرافيا وليست له منافذ بحرية إلا عبر دول الجوار وبالأخص السنغال وغينيا، وتنشيط حركة التجارة الخارجية مع الصين ودول العالم.

فموقع مالي الرابط بين شمال القارة الأفريقية ووسطها وغربها، يجعلها حجرا أساسيا ضمن إستراتيجية الصين في القارة السمراء.

ودفع سعي الحكومة الانتقالية في مالي للبحث عن شركاء جدد بعد أزمتها مع فرنسا وفرض المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” عقوبات دبلوماسية واقتصادية على باماكو (ألغتها لاحقا)، باريس إلى تضييق الخناق أكثر على مالي.

فمنذ تدخلها العسكري في البلاد في 2013، لم يسبق وأن استخدمت فرنسا المساعدات الاقتصادية كسلاح ضد الحكومة الانتقالية في باماكو، إلا مؤخرا بعد اتهامها لمالي بالاستعانة بمقاتلين من شركة فاغنر الروسية، ما يكشف أن تدهور العلاقات بين البلدين وصل إلى مرحلة القطيعة.

وردت باماكو بعدها بأيام بفرض “حظر فوري على جميع الأنشطة التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية العاملة في البلاد بتمويل فرنسي أو مادي أو دعم فني، بما في ذلك في المجال الإنساني الذي له صلات بفرنسا”.

وتكمن جرأة المجلس العسكري الذي استولى على السلطة بمالي في 2020، في تحدي الضغوط الفرنسية ومن ورائها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في الدعم العسكري والدبلوماسي الذي توفره لها روسيا، وأيضا المساعدات المالية والتنموية.

وتجلى هذا الدعم أكثر، عندما استخدمت روسيا والصين الفيتو ضد نص تقدمت به فرنسا يدعم عقوبات “إيكواس” ضد مالي في يناير الماضي.

وبعد أسبوع واحد فقط من وقف فرنسا مساعداتها التنموية، أعلنت مالي توقيعها مذكرة تفاهم مع الصين لتركيب وحدتي غزل، واحدة في مدينة كوتيالا (شرق) والأخرى في باماكو، برأسمال 200 مليون دولار، من شأنهما توفير 5 آلاف منصب عمل.

إذ يمثل القطن الصادرات الرئيسية لمالي، ومن شأن إنجاز المصنعين رفع مداخيل البلاد من العملة الصعبة في هذا القطاع.

كما تشارك شركات صينية في استخراج الذهب، الذي تمثل صادراته المصدر الثاني للدخل في مالي بعد القطن.

وتعد الصين اللاعب الرئيسي في جميع مشاريع البنية التحتية من طرق ومطارات ومبان عامة وثقافية ورياضية وصحية، بحسب مجلة “الصين مغازين”، بنسختها الفرنسية.

الرسالة التي يريد ماكرون إيصالها للأفارقة أنهم إذا كانوا يعتقدون أن فرنسا دولة استعمارية فإن الصين وروسيا ليستا أقل إمبريالية منها

وأشاد السفير الصيني لدى باماكو تشين جيهونغ بالبعض مما أنجزته بلاده في مالي على غرار “بناء مستشفى مالي، والجسر الثالث في باماكو، وحرم جامعة كابالا، ومركز التدريب المهني”.

وقال جيهونغ في منتدى التعاون الصيني المالي “في المستقبل القريب، سيتم الانتهاء من مشاريع جديدة مثل محطة الطاقة الكهرومائية في جوانا، المرحلة الثانية من الحرم الجامعي لجامعة كابالا، المشروع التجريبي لكهربة القرى عن طريق الطاقة الشمسية”.

ويثير تزايد النفوذ الصيني في مالي بالتزامن مع تراجع هيمنة باريس على البلاد بل وعلى أفريقيا، قلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي صرح على هامش قمة الفرنكفونية بتونس التي عقدت يومي التاسع عشر والعشرين من نوفمبر أن “عددا من القوى، التي تريد أن تنشر نفوذها في أفريقيا، تفعل ذلك للإضرار بفرنسا وبلغتها، ولنثر بذور الشك. لكن وأهم من كل ذلك السعي وراء مصالح بعينها”.

ولم يحدد ماكرون من هي الدول التي تسعى للإضرار بفرنسا ولغتها، لكن لا شك أن الصين إحداها.

إذ يحاول الإعلام الفرنسي تركيز الأضواء على المشاكل بين المزارعين والتجار الماليين والصين، على غرار الآثار البيئية السلبية لعمليات استخراج الصين للذهب، خاصة تأثيرها على خصوبة الأراضي الصالحة للزراعة.

والرسالة التي يريد ماكرون إيصالها للأفارقة أنهم إذا كانوا يعتقدون أن فرنسا دولة استعمارية فإن الصين وروسيا ليستا أقل إمبريالية منها.

ففرنسا وإن انسحبت عسكريا وتنمويا من مالي، إلا أنها ترغب في خوض معركة إعلامية ضد الاستثمارات الصينية لتأليب السكان ضدها، كتلك التي شنتها الدعاية الروسية على باريس عندما كانت قواتها متواجدة بكثافة في مالي (2013 – 2022).