استعراض احداث نتائج مباحثات مشروع الوحدة عام 1966..

الدستور الأول لـ(جمهورية اليمن الجنوبية): دراسة تحليلية في تأثير أفكار الاشتراكيين اليمنيين على صياغته

"هذا ادعاء واضح من عبدالفتاح إسماعيل يغطي فيه استراتيجيته التي يسير عليه، وهو جعل أبناء الجنوب ملازمين الحياة في الريف، وإغراق مدن الجنوب بأبناء الشمال اليمني، حتى يخلو لهم السيطرة على مقدرات الدولة الجنوبية ومؤسساتها والتحكم في توجهاتها".

عبدالفتاح اسماعيل الجوفي يتوسط الرئيسين علي ناصر محمد وسالم ربيع علي - أرشيف

د. سالم الحنشي
مدير تحرير مجلة بريم الصادرة عن مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات
دراسة تحليلية نشرت في العدد الثاني من مجلة بريم

المقدمة: لقد صار شعب الجنوب بمثابة عائلة كبيرة في حزب وطني واحد ضد الاستعمار الخارجي (البريطاني)، فكان الصراع العسكري والسياسي موجهًا من هذه العائلة الشعبية الحزبية الوطنية ضد هذا المستعمر الخارجي، لكن هذا الصراع السياسي والعسكري شهد ضيقًا فيما بعد في صراعه ضد الأعداء الداخليين، إلى درجة أنه أصبح يبحث عن أنصار من الشعب، فأصبح يوجد من يقول إن الاستعمار لم يفعل ما فعله هؤلاء الذين أصبحوا يحكمون البلاد، وإن كان هذا التقدير لا يعي أهمية الحرية إلا أنه ينمُّ على أن الوطنين تصرفوا بالاستقلال وكأنه استقلالهم الذاتي عن حاجات المجتمع ومتطلبات تطوره أو تطويره، وهؤلاء بالقدر الذي أساءوا فيه إلى الشعب فقد ساءوا إلى أنفسهم، إذ أصبحوا خارج السور المجتمعي، وكأنهم زائدة دودية كانت تؤدي وظيفة حيوية للجسم الاجتماعي والسياسي، لكنها انقطعت في مرحلة لاحقة من التطور عن أداء وظيفتها، وجماهير الشعب بين المتسابقين إلى الأمام، إلى الطلية، وطلية الطليعة، لا تنسحق دائمًا أكثر من السابق، لكنها تظل دائمًا مثل(الزوج المخدوع) آخر من يعلم وأول من يتضرر، هكذا يعبر الباحث في التاريخ السياسي، الكاتب والصحافي العراقي/ علي الصرَّاف، الذي اهتم بالحياة السياسية في الجنوب اليمني وتابعها عن كثب، فأثمر ذلك الجهد كتابه(اليمن الجنوبي، الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة)...

من هذه الفكرة الجزئية التي يكاد أن يستخلص بها الصرَّاف مسار الثورة بعد الجلاء من الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1967م حتى يوم النكبة في مايو 1990م التي سحقت كل نضال، وكل ما شهده الزمن بين هذين التاريخين من مآسي وطموحات وإنجازات وإخفاقات.

 وتهدف هذه الورقة البحثية؛ لتتبع دور عبدالفتاح إسماعيل علي الجوفي، هذه الشخصية الوافدة إلى الجسم الجنوبي من بلاد الحجرية في تعز اليمنية، وما أدته من أدوار في مختلف المنعطفات والتحولات التي مرَّ بها الجنوب.

وقبل البدء في تتبع دور هذه الشخصية تحديدًا ممكن الإشارة إلى تشكيل الأحزاب في الجنوب الذي كان فكرة بريطانية خالصة أرادت من خلالها تشتيت الجهود الوطنية، واختراقها بتشكيل أحزاب مدعومة من قبلها تكون أهدافها وبرامجها هي أطماع بريطانيا في البقاء في البلاد، ومكوثها أكثر وقت ممكن، بل استمرارها حتى بعد الخروج من البلاد من خلال تلك الأدوات(الأحزاب)، وقد بدأ ذلك التشكيل متأخر نسبيًا، حين أدركت بريطانيا الخطر الذي يتشكل ويتنامى ضدها، وتعود بداية تشكيل تلك الأحزاب إلى بعد الحرب العالمية الثانية، وتوج ذلك بإعلان حاكم بريطانيا في عدن عام 1960م(أن عدن في حاجة إلى المزيد من الأحزاب السياسية). والهدف بعثرة جهود القوى الوطنية وامتصاصها في أحزاب عدة، وبعد هذا النداء تشكل 15 حزبًا في عدن وحدها، كثير منها يتألف من عدة أشخاص، ويتلقى دعمًا مباشرًا من الاستعمار، وكانت مواقفه من إعلان الثورة المسلحة من قبل الجبهة القومية في 14 أكتوبر 1963م تتناغم مع مطامع الاستعمار وتوجهاته في الجنوب.

وإن كانت الغاية من تشكيل الأحزاب بريطانية إلا أن الوطنيين قد استغلوا هذا التنفس وشكلوا أحزابًا غايتها التحرير والاستقلال وإن كان قد شابها من التنافر والتناحر ما حقق بطريقة غير مباشرة غاية الاستعمار منها؛ ولهذا يمكن جمع كل الأحزاب التي ظهرت حينها تحت ثلاثة تيارات، هي:

أولًا: تيار الأحزاب المحافظة والموالية لبريطانيا.

ثانيًا: تيار الأحزاب والمنظمات السياسية الوطنية.

ثالثًا: التيار القومي.

ويتبين من هذه التوزيعات أن تحتها مفخخات ستنفجر ضد بعضها إن لم يتشطر بعضها ويتجزأ ويتنافر بل يتناحر أعضاء كل حزب فيما بينهم.

وإن كان هذا التكاثر والتناسل قد حدث متأخرًا كما سبق الإشارة، وحتى نكون دقيقين في التوصيف بالنشأة، فإن أول ما يمكن الإشارة إليه من هذه التكتلات والتجمعات التي كان هدفها استقلال الجنوب عن بريطانيا، هو(مؤتمر المهاجرين الحضارمة) الذي عقد في المكلا عام 1927م ودعا إلى الاستقلال وتشكيل مجلس وطني يمثل الجنوب العربي. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية تأسس(نادي الأدب العربي)، وفي الوقت نفسه ظهر(نادي الإصلاح العربي)، وظهر(نادي الشعب) في لحج، وتأسست في حضرموت(جمعية الإخوة والمعاونة)، وكان أبرز التنظيمات(الجمعية الإسلامية الكبرى) التي تأسست عام 1949م وكانت تنظيم سياسي لعدن ضم مثقفين ورجال دين ودنيا، وكانت تتألف من الشيخ/ محمد سالم البيحاني، والقاضي علي باحميش، وسالم الصافي، وعبدالله بن صالح المحضار، ومحمد علي الجفري، ويرأسها المحامي الباكستاني الأصل محمد عبدالله.

وإن كان لا يهمنا من تلك الأحزاب والتجمعات ذكر أسمائها أو قياداتها وأعضائها، وأهدافها وبرامجها في هذه العجالة إلا أن التقديم بهذه التوطئة لنستوحي فكرة نشأة الأحزاب، ومتابعة توجهات الحزب الذي قاد مسار الثورة بعد الجلاء، الحزب ذات التوجه الماركسي. 

ويعدُّ عبدالله باذيب _ الذي كان من مؤسسي حزب رابطة أبناء الجنوب العربي عام 1951م _ هو أول من أنشأ حزبًا ماركسيًا في البلاد، وإن أصبح غيره هو المتزعم للماركسية فيما بعد لاسيما التوجه إلى الاشتراكية العليمة.

ويهمنا في هذه القراءة متابعة دور عبدالفتاح إسماعيل في مسار الثورة في الجنوب، ويمكن تناوله من خلال، الآتي:

المطلب الأول:

 دوره منذ انطلاق ثورة 14 أكتوبر 1963م حتى النصف الأول من عام 1969م

أول ظهور ممكن نجد فيه عبدالفتاح إسماعيل بحسب دراسة د. علي الصراف، هو في 1963م بعد انطلاق الثورة المسلحة في ردفان، إذ بعد اتساع الثورة هناك وما عانته من ضغط الضربات البريطانية اتخذ الثوار قرارًا بتوسيع الجبهات للتخفيف على ردفان من ناحية، ونقل الثورة إلى العاصمة عدن تحديدًا حتى تكون الأضواء الإعلامية مسلّطة عليها لدحض مزاعم بريطانيا أن الحاصل في ردفان هي مجرد تمردات قبلية، فاجتمع فرع حركة القوميين العرب في عدن برئاسة فيصل عبداللطيف الشعبي الذي كان رئيس الحركة في الجنوب والرئيس الإقليمي للحركة(في الجنوب والشمال)، رغم موقفه في البداية بعدم نهج الكفاح المسلح، والاستمرار بالكفاح السياسي، وقد كان حينها يشغل سكرتير وزارة التجارة في حكومة اتحاد الجنوب العربي، وربما لهذا السبب يرى أن يظل الشعب في نهج الكفاح السياسي، وإن كان له تبريرات حينها اثبتت الثورة المسلحة عدم صحتها، واضطراره إلى اتباع نهجها أيضًا _ وما أشبه الليلة بالبارحة في نضالنا، بين من يرى الخلاص من الاستعمار اليمني بأي ثمن ومن يرى التريث والتمهل والتكتيك بالدخول مع النظام المحتل وتوجهاته في بلادنا حتى نحصل منه على استقلالنا _ فتم الاجتماع في عدن في منزل عبدالفتاح إسماعيل لتقييم الثورة المسلحة في ردفان والاتفاق على بدأ العمليات العسكرية الفدائية في عدن، وهكذا كان نقل المعركة إلى المقر الرئيس للقوات البريطانية مدروسًا لإيصال رسالة الثوار بأن معركة ردفان ثورة شعب وليست تمردًا قبليًا كما دأب الاستعمار في وصف أي محاولة للشعب في الخلاص منه. 

وأنشئت منظمة للفدائيين في عدن توالى على رأستها عبدالفتاح إسماعيل، وعلي صالح عباد مقبل، سلطان أحمد عمر، عبدالله الخامري. وتبعت هذه المنظمة(مكتب العمل الفدائي) المركزي الذي تناوب على رأسته(1963 _ 1967م): محمد صالح مطيع، وعلي سالم البيض، وسالم ربيع علي.

ومنذ بداية عام 1963م ظهرت بوادر أولية لتمايزات فكرية وسياسية تميل نحو الماركسية لاسيما بين الشباب المنحدرين من أصول عمالية كادحة وبرجوازية صغيرة. واقتصرت على الطابع الشخصي المتعلق بالتثقيف الذاتي. ومع قيام الجبهة القومية وخوض الكفاح المسلح تبلور بين هؤلاء (مجموعة نضالية)، أطلق عليها القيادات الخلفية أو القيادة الثانية أو قيادة الداخل كناية عن تلك المجموعة الشابة التي أثبتت أهليتها السياسية والعسكرية والميدانية. وأبرز عناصرها: علي عنتر، وسالم ربيع علي، وعلي ناصر محمد، وعبدالفتاح إسماعيل. 

ومع تطور مسار الثورة المسلحة للجبهة القومية بدأت بعض الأحزاب التي كانت ترى في البداية بعدم الحاجة إلى الكفاح المسلح، التفكير في الدخول في الثورة مع الجبهة القومية لكن في تشكيل جبهوي جديد، فحاول عبدالله الأصنج عقد اجتماعات في القاهرة بعد عودته من مؤتمر لندن في تموز 1964م مع الرابطة والسلاطين إلا أن الجبهة القومية رفضت ذلك لرؤيتهم المسبقة بعدم الفائدة في خوض الكفاح المسلح، وحضور قوى مرتبطة بالحكومة العدنية الموالية لبريطانيا.

وبعد العودة إلى عدن خالي الوفاض سارع عبدالله الأصنج في تشكيل جبهة وطنية موحدة تحت قيادته، فأعلن في صنعاء في ظل حكومة أحمد محمد نعمان التي تشكلت في أيار عام 1965م عن تشكيل (منظمة تحرير جنوب اليمن المحتل) التي ضمت عددًا من السلاطين وعناصر من حزب الرابطة إلى جانب حزب الشعب الاشتراكي الذي كان يرأسه الأصنج نفسه.

ومع مطلع عام 1966م توجه الأصنج إلى القاهرة لإجراء مباحثات وصفت بالسرية والكتمان مع علي السلامي عضو اللجنة التنفيذية للجبهة القومية انتهت بإصدار بيان في 13 يناير يقول بأن ممثلي الجبهة القومية ومنظمة التحرير توصلوا إلى دمج المنظمتين، وتكوين منظمة جديدة باسم (جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل)، وقد وقع على البيان من الجبهة القومية الموجودين في القاهرة: طه مقبل، وسالم زين، إلى جانب علي السلامي، وأوكلت قيادة هذه الجبهة إلى عبدالقوي مكاوي الأمانة العامة، كما ضمت القيادة بحسب البيان كلا من: علي السلامي، وطه مقبل، وسالم زين، وسيف الضالعي، وعبدالفتاح إسماعيل، وعبدالله الأصنج، والسلطان أحمد الفضلي، والأمير جعبل بن حسين العوذلي، ومحمد سالم باسندوة، وعبدالله المجعلي.

فرفض عضوا قيادة الجبهة القومية قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف الشعبي هذه الاتفاقية واعتبراها إجراء غير شرعي، الأمر الذي أدَّى إلى احتجازهما في القاهرة ومنعهما من أي تصريح، ورفضت قيادات الجبهة القومية وقواعد الداخل هذا الدمج القسري.

ويقول عبدالفتاح إسماعيل إنه قد سافر إلى القاهرة لمحاولة شرح الموقف وإن سوء فهم قد حصل، وكانت هناك ثلاثة اتجاهات داخل الجبهة القومية، اتجاه وافق ووقع على الدمج دون قيد أو شرط ويمثله: علي السلامي وسالم زين، وطه مقبل.. واتجاه رافض بشدة ويمثله قحطان وفيصل الشعبي، واتجاه موافق من حيث المبدأ لكن بشرط إلا يدخل فيها السلاطين والأمراء وهو اتجاه قيادات الداخل والقواعد...

وهكذا تبدأ شخصية عبدالفتاح إسماعيل _ بحسب ما رصده الصرَّاف _ في المراوغة والمرونة في جسد الثورة في الجنوب، والعمل في هذه الثورة لحسابات بعيدة المدى، أي وفق خطة استرتيجية، والميل إلى كلما يمت لليمن الشمالي بصلة أفكارًا وأشخاصًا، ومحاولة زرع الشقاق والتنافر والعزل داخل جسد المجتمع في الجنوب، يؤكد ذلك ذهاب مجموعة من قيادات الجبهة القومية في الداخل من مناطق الجنوب إلى تعز لإبلاغ الأجهزة المصرية بعدم قبول الدمج وتجميد قيادات المجلس التنفيذي، وتشكيل قيادة جديدة من القيادات الثانوية على رأسها عبدالفتاح إسماعيل...

وقد ترددت القيادة الجديدة للجبهة القومية بين القبول والرفض، ولا شك أن محاولة القبول بالدمج يتبناها عبدالفتاح إسماعيل ويحاول بتنظيراته أن يشوش على قيادات الداخل الرافضة للدمج وبشدة، وكذلك قيادات الخارج قحطان وفيصل الشعبي فيحاول أن يعزلها عن الداخل والمجتمع الدولي بتصويره لها بالرفض القاطع للوحدة الوطنية، فجاء وفد عربي لمحاولة جمعهم والاتفاق على الدمج، فعقد اجتماع ضم قيادات الداخل والقيادات السياسية والعسكرية فكان الرفض الذي يؤيده فرع حركة القوميين العرب في الشمال أيضًا هو السائد، وهو ما يؤكد خلاف ما يراوغ به عبدالفتاح إسماعيل.

فجاءت الدعوة إلى عقد المؤتمر الثاني للجبهة القومية لحسم الخلاف، وعقد المؤتمر في جبلة في حزيران عام 1966م، وفيه رُفِع تقرير إلى القيادة بمصر يبلغها بقبول العمل في جبهة مشتركة لكن مع الأخذ بتحفظاتها وشروطها، ورفعت شعارًا يدعو لقيام جبهة وطنية مبنية على أسس صحيحة تحفظ لكل طرف من أطرافها استقلاله التنظيمي، وقد كان هذا بمثابة حل وسط بين الدمج، ورفض العمل مع حزب الشعب الاشتراكي، واتخذ المؤتمر قرار تجميد عضوية أعضاء المجلس التنفيذي السابق باستثناء مقعدي قحطان وفيصل عبداللطيف الشعبي، وهو ما يؤكد أن الجبهة القومية تعمل بمبدأ رفضها للدمج الذي تمَّ في القاهرة المصرية وذلك من خلال استهداف تجميد عضوية الموقعين على الدمج والإبقاء على عضوية الرافضين للدمج من القيادة التنفيذية للجبهة القومية في الخارج...

وانتخبت قيادة جديدة في هذا المؤتمر: عبدالفتاح إسماعيل أمينًا عامًا، ومحمود عشيش، أحمد الشاعر، علي سالم البيض، محمد أحمد البيشي، علي عنتر، فيصل العطاس، علي صالح عباد مقبل، سالم ربيع علي، سيف الضالعي، محمد علي هيثم، وعبدالملك إسماعيل.

ونتيجة لاعتراف جامعة الدول العربية بجبهة التحرير وبدأ بعض القيادات جولة دولية لكسب التأييد والحصول على المساعدات، أدَّى ذلك إلى أن يكلف هذا المؤتمر خمسة من قياداته بالذهاب إلى مصر لبدء جولة جديدة من مباحاثات الوحدة الوطنية، وهم: عبدالفتاح إسماعيل، وسيف الضالعي، وأحمد الصالح الشاعر، وعبدالملك إسماعيل، ومحمد علي هيثم، وعندما بدأت المباحثات في الإسكندرية كان الوفد المشارك باسم الجبهة القومية، مؤلفا من: عبدالفتاح إسماعيل، وسيف الضالعي، وطه مقبل، وسالم زين، وعلي السلامي(وهؤلاء الثلاثة هم الذين وقعوا على الدمج القسري مع منظمة التحرير (صرية اهرة المصريةة المصرية لدولي بتصويره لها رفض الوحدة الوطنيةشوش على قيادات الداخل الرافضة بشدة وكذلك قيادات ال(حزب الشعب الاشتراكي) وجمدت عضويتهم في قيادة الجبهة في المؤتمر الثاني الذي كلف عبدالفتاح ورفاقه للذهاب إلى مصر لإجراء المباحثات الوطنية هناك)، ومثَّل منظمة التحرير: عبدالقوي مكاوي، وعبدالله الأصنج، وعبدالله المجعلي، ومحمد سالم باسندوة، وعبدالله علي عبيد.

وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه مسبقًا قبول عبدالفتاح في العمل مع كل ما يمت لليمن في الشمال بصلة وإن كان على حساب الجنوب وجبهته الداخلية. ومع أن القيادة الجديدة للجبهة القومية كانت تسعى إلى تحويل جبهة التحرير إلى تحالف بين أطراف مستقلين، وإلى أن تحظى بنسبة الثلثين في الهيئة القيادية للجبهة، إلا أن نتائج المباحثات بسبب تغيير الوفد أسفرت عن الاتفاق على تشكيل تنظيم جبهوي مشترك وليس تنظيمًا موحدًا، وأن تحصل الجبهة القومية على ثلث مقاعد الهيئة القيادية، وأن تعمل جميع القطاعات المسلحة تحت قيادة مشتركة، واتخاذ قرار باعتبار جبهة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد لشعب جنوب اليمن، وقرار يخول المجلس الوطني للجبهة بتعيين أعضاء مجلس القيادة الثورية(العسكري)، ولكن إلى جانب الاستياء العاصف الذي أبدته قواعد الجبهة القومية وكادراتها الثانوية، فهناك من أخذ يفلسف الاتفاق، فكان هناك من رأى في الاتفاقية أنها تشكل خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، على اعتبار أن الجبهة القومية نجحت بالحصول على استقلالها التنظيمي والعسكري، وعلى استمرار الدعم الخارجي لها، مقابل الاعتراف بجبهة التحرير ممثلاً لشعب جنوب اليمن، فيما كان الرأي الآخر يقول بأنها خطوتان إلى الخلف وخطوة واحدة إلى الأمام؛ وذلك لأن الاعتراف بتمثيل جبهة التحرير وحصول الجبهة القومية على ثلث المقاعد يشكل تعريضًا للثورة إلى خطر التصفية، وإزاء ذلك فإن حفاظ الجبهة القومية على استقلالها التنظيمي لا يشكل معادلاً كافياً لهذا الخطر، وكان من بين أبرز القادة العسكريين الذين رفضوا الاتفاقية سالم ربيع علي وعلي عنتر إلى جانب ممثلي الفرع اليمني الشمالي لحركة القوميين العرب. ويمكن للمرء أن يقرأ، بقليل من التأني أن حركة المواقف والخيارات من اتجاه إلى آخر كانت تقترن إلى حد بعيد لا بما إذا كان ذلك يمثل اتجاهًا سياسيًا أكثر صوابًا أم لا، بل بما إذا كان هذا التوجه يتطابق مع خارطة التحالفات القبلية أو الشخصية أم لا.

وبعد هذا الاتفاق دعا قادة الجبهة القومية الذين كانوا في مصر إلى عقد اجتماع موسع في أيلول في تعز لعرض بنود الاتفاقية واتخاذ موقف بشأنها، وعقد الاجتماع ولم يتوصلوا إلى اتفاق حول هذه الاتفاقية، واتفقوا على عقد مؤتمر ثالث للجبهة القومية لتعزيز الخط المعارض للاتفاقية، وبعد هذا الاجتماع عادت قيادة المواقع في الجبهة القومية إلى مواقعها في مواصلة نشاطها.

وفي ليلة الاحتفال بالذكرى الثالثة لبدء الثورة المسلحة، في 14 أكتوبر 1966م نشط مجموعة من الفدائيين في توجيه ضربات عسكرية مهمة للقوات البريطانية في عدن، وأصدرت هذه المجموعة من الفدائيين في عدن بيانًا أعلنت فيه عودة الجبهة القومية إلى النشاط المستقل، وفي يوم 14 أكتوبر جرت في عدن مظاهرات طرحت شعارات ووزعت منشورات تدعو إلى انسحاب الجبهة القومية من جبهة التحرير.

فجاءت الدعوة إلى عقد مؤتمر جديد من أشد المتحمسين له سالم ربيع علي، وعقد المؤتمر الثالث في حمر في 29/ 11/ 1966م، وكانت أبرز قراراته إعلان الجبهة القومية مسؤوليتها في ممارستها الثورية خارج إطار جبهة التحرير، وسعي الجبهة القومية الدائم لأخذ المبادرة من أجل إقامة وحدة وطنية سليمة حسب أسس تضمن عملًا ثوريًا موحدًا في جنوب اليمن. ورفض هذا المؤتمر اتفاقية الإسكندرية، وضم مجموعة الفدائيين الذين أعلنوا في عدن عودة الجبهة القومية إلى نشاطها المستقل في القيادة العامة للجبهة القومية، وقرر المؤتمر إعادة عضوية القيادة العامة إلى كل من قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف الشعبي اللذين كانا محتجزين في القاهرة، وكرس المؤتمر استبعاد(طرد) الثلاثة _ علي السلامي، وطه مقبل، وسالم زين _ الذين وقعوا اتفاق الدمج في القاهرة، وشاركوا الوفد المباحثات في الإسكندرية وعضويتهم مجمدة منذ المؤتمر الثاني.

وبعد حدوث عدة صدامات بين الجبهتين نجحت القاهرة في الضغط على قيادة الجبهتين في التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح المعتقلين، وبدأ محادثات جديدة في القاهرة حول الوحدة الوطنية وتشكيل حكومة مؤقتة تتسلم السلطة من بريطانيا، فأعلن عبدالفتاح إسماعيل وعبدالله الخامري من بيروت رفضهما لهذا الاتفاق، رغم أنهما كانا مسافرين خصيصًا للمشاركة في مباحثات الوحدة الوطنية.

وعندما أعلنت قيادات الجيش والبوليس اعترافها بالجبهة القومية وتأييدها، وبانحياز الجيش إلى الجبهة القومية أعلنت بريطانيا اعترافها بالجبهة القومية ممثل شرعي وحيد لشعب اليمن الجنوبي. حينها دعت الجبهة القومية إنكلترا إلى عدم الاكتفاء بالاعتراف وإنما البدء بمفاوضات تسليم السلطة، ولهذا الغرض شكّلت الجبهة القومية وفدًا برئاسة قحطان الشعبي، وضم الوفد كلًا من: عبدالفتاح إسماعيل، وفيصل عبداللطيف الشعبي، ومحمد أحمد البيشي، وسيف الضالعي، وخالد محمد عبدالعزيز، والعقيد عبدالله صالح العولقي، وعبدالله عقبة(مترجمًا)، وأحمد علي مسعد (سكرتيرًا)، إلى جانب هيئة استشارية في مختلف المجالات ضمت المقدم حسين المنهلي، محمد أحمد عقبة، المقدم محمد أحمد السياري، د. محمد عمر الحبشي، ملكة عبداللاه أحمد، أبو بكر سالم قطي، عادل خليفة. وترأس الوفد البريطاني المفاوض اللورد شاكلتون وزير الدولة، وفي 29 نوفمبر 1967م وقع الوفدان اتفاقًا في جنيف، وافقت بموجبه بريطانيا على استقلال الجنوب العربي، وفي صباح الخميس 30 نوفمبر 1967م أعلنت الدولة المستقلة في الجنوب، فأصدرت القيادة العام للتنظيم السياسي _ الجبهة القومية في اليوم نفسه بيانًا أعلنت فيه أن الجبهة القومية هي السلطة العليا في الجمهورية، واتباع النظام الرئاسي للحكم، وتعيين قحطان الشعبي أول رئيس للجمهورية لمدة سنتين، وتكليفه بتشكيل أول حكومة وطنية...

وتشكلت أول حكومة في الجنوب من قيادات الخارج والقيادات السياسية التي برزت في العمل الثوري للجبهة القومية وليس العمل العسكري، فكان عبدالفتاح إسماعيل وزير الثقافة والإرشاد القومي وشؤون الوحدة اليمنية في هذه الحكومة.

وإذا كان الحديث عن قيادات الداخل وقيادات الخارج في إطار الجبهة القومية قد انتهى بالاستقلال وتشكيل حكومة وطنية، فإنه قد بدأ يظهر الحديث عن يمين ويسار مع بداية مواجهة معضلات إعادة بناء وتنظيم الدولة والمجتمع والاقتصاد، يختلفان في النظرة إلى سبل حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية، فكان الأول يدعو إلى التمهل في إجراء التغييرات ومراعاة أوضاع التخلف والفقر، والمحافظة على مؤسسات الدولة القديمة بعد إدخال التحسينات عليه، والقيام بعمليات التطعيم والتطهير بعناصر جديدة. ويدعو الثاني إلى تعميق فكرة واستراتيجية الطبقة العاملة والفلاحية الفقيرة، وبالتالي تقويض مؤسسات الدولة القديمة والبدء في إقامة الحزب الطليعي، وإنجاز مهمات اقتصادية جذرية، مثل الإصلاح الزراعي...

وكانت هناك تيارات تيار يؤيد قحطان بتوسيع صلاحياته ويؤيده فيصل عبداللطيف وتيار الجيش الذي كان يرى أن تحالفه مع الرئيس سيمكنه من إزاحة اليساريين الذين يطالبون بتطهير الجيش وإعادة بنائه من جديد..

والجانب الآخر المعارض لقحطان والتيارات الواقفة بجانبه كان يتوزع على عدة تيارات أهمها التيار الذي تمثله النواة الثورية للديمقراطية التي كان أعضاؤها أقرب الجميع إلى الاشتراكية العلمية، وكانوا يعقدون آمالا على التطور المقبل للتنظيم، وعلى توطيد القوى الثورية بنتيجة إجراء تحويلات وطنية ديمقراطية، وعلى التعاون مع ماركسيي الجنوب، وكان من بين أبرز أعضاء هذا التيار: عبدالفتاح إسماعيل، وعلي سالم البيض، وفيصل العطاس الذي تزعم مجموعة "ثورية جذرية" في حضرموت أقرب إلى هذا التيار، وأصدرت هذه المجموعة سلسلة قرارات تأميمية ومصادرة أراضي الملاك الكبار، في حضرموت وكانت سبب تفجير الثورة مع الجيش.

وتجربة إنجاز التحولات في حضرموت كادت أن تعصف بالقيادة في عدن، وكانت هذه تواصل عملية التأميم حتى لصغار الملاك، وبذلك تهدد الرأسمال الوطني، وهو ما أدَّى إلى خلاف مع الحكومة والعسكريين، حيث عدوها تحولات (شيوعية حمراء تزحف على مقدسات البلاد وتقاليدها)، فوجَّه قادة الجيش هجومهم على أبرز قيادة هذا التيار ومنهم: عبدالفتاح إسماعيل وزير الثقافة والإرشاد القومي وشؤون الوحدة اليمنية... .

لكن وبإقرار غالبية أعضاء القيادة العامة للجبهة القومية بأن التجربة في حضرموت غير صحيحة، وخاطئة من حيث انفصالها عن الظروف الموضوعية المحيطة بها محليًا وعربيًا وعالميًا، إلا أن موقف قيادة الجيش المتشدد من التجربة واتهام عدد من الأعضاء بالشيوعية، وتهديدهم بالاعتقالات آثار المخاوف أن يقوم الجيش بالاستيلاء على البلاد، لاسيما وقد ترافق ذلك مع إعلان قيادات الجيش عن رغبتهم في تشكيل تنظيم للجبهة القومية في الجيش، يكون كبار الضباط مسؤولين عنه فكريًّا وسياسيًّا وتنظيميًّا. وإن يكون الاتصال بالجيش من خلال هذا التنظيم، وقد حوت المذكرة التي قدمها الضباط في 27 كانون الأول 1967م بالإضافة إلى ذلك، مطلبًا يدعو إلى مشاركتهم في المؤتمر العام والقيادة العامة للجبهة القومية، وهو ما زاد المخاوف من الانقلاب على الثورة تحت يافطة الجبهة القومية، فعقدت القيادة العامة للجبهة اجتماعًا في 30 كانون الأول 1968م اتخذت فيه قرارًا بتطهير أجهزة الدولة القديمة والبدء بتطهير الجيش، لكن معارضة قحطان ومجموعته أحبطت أية إمكانية للبدء في التنفيذ. واتخذ الاجتماع قرارًا بالتحضير لعقد المؤتمر الرابع للجبهة القومية حسمًا للخلافات ولتقييم تجربة قيادة السلطة.

فتشكلت لجنة إعداد الوثائق من أربعة أعضاء، وهم: عبدالله الخامري وعلي صالح عباد مقبل وعبدالفتاح إسماعيل وفيصل عبداللطيف، وانعكست الخلافات بين القيادة على مستوى هذه اللجنة، فنشر الخامري مقالًا في افتتاحية جريدة الثوري في 30 كانون هاجم فيه نشاط أجهزة الدولة ودعا إلى (إعادة تركيب جذرية للدولة) واتهم الحكومة بالانتهازية.. وترافق نشر هذا المقال بدون العودة إلى القيادة العامة وأجهزة الحكومة بنشاط قام به علي صالح عباد وعبدالله الأشطل وسلطان أحمد عمر وعبدالله الخامري يدعو إلى إنشاء مجالس ومحاكم شعبية في البلاد، بالإضافة إلى قيامهم بإعداد وثائق للمؤتمر خارج إطار اللجنة التحضيرية، وهو ما عُدَّ خرقًا للتقاليد التنظيمية، وأدَّى إلى تجميد عضويتهم في القيادة العامة إلى حين عقد المؤتمر، وشكل قرار التجميد وعجز اللجنة عن التحضير وامتناع الحكومة عن تطهير الجيش أسبابًا وراء امتناع البيض عن المشاركة في اجتماعات القيادة العامة لحين انعقاد المؤتمر، وكذلك فعل عبدالفتاح إسماعيل بالإضافة إلى امتناعه عن المشاركة في اللجنة التحضيرية .

وأدَّى تعطيل أعمال اللجنة التحضيرية للمؤتمر إلى إغراق المؤتمر في دوامة مناقشات طويلة إلا أن اللجنة التحضيرية بادرت بتقديم أوراق بصفة شخصية في المؤتمر الذي عقد في 2 آذار 1968م. وبعد جدل استمر لمدة ستة أيام انتهى المؤتمر بإقرار مطالب قريبة من مطالب اليساريين إن لم تكن مطابقة لها، وانتخاب 41 عضوا للقيادة العامة غالبيتها من العناصر اليسارية، ومنهم: عبدالفتاح إسماعيل...

وبعد حوالي أسبوع من انتهى أعمال المؤتمر عقدت القيادة العامة الجديدة اجتماعًا لبحث نتائج المؤتمر واتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع قراراته موضع التنفيذ، فبرزت الخلافات بين الفريقين، وفي هذه الأثناء استشعرت قيادة الجيش بأن الخطر بات وشيكًا، وعندما أعلن فريق اليسار الدعوة إلى عقد اجتماع جماهيري لتأييد قرارات المؤتمر الرابع في 20 آذار، كان قادة الجيش قد أعدوا العدة لاعتقال تلك القيادة اليسارية، وأذاعوا بيانًا باسم الجيش والأمن وقطاع الفدائيين يدعو إلى مواجهة الخطر الشيوعي، وقد فشلت هذه الحركة لعدة عوامل أبرزها اندلاع المظاهرات في البلاد، واكتشاف أن قطاع الفدائيين لا علاقة له بهذه الحركة، وتحرك مجاميع مسلحة في الأرياف استعدادًا للدفاع عن الثورة... .

وإذ لم يكن قحطان الشعبي ومؤيدوه في القيادة العامة قد أعلنوا موقفًا واضحًا من هذا التصرُّف الذي قام به قادة الجيش، إلا أن اتضاح الفشل دفع قحطان الشعبي إلى اعتباره اجتهاد فردي مخلص ولكن خاطئ من قبل الضباط؛ وعلى هذا الأساس نجح في عمل التسوية بعودة الجيش إلى ثكناته وتسليم المؤسسات لسلطات الحكومة، ونجاح اليساريين هذا أجبر قحطان على إجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية والإدارية، وطرد بعض ضباط الجيش الذين غالوا في عدائهم للجبهة القومية في محاولة منه لنيل قدر من التأييد الشعبي، وكذلك الحال أجبرت قيادة الجيش على لعب دور وطني في الدفاع عن حدود الجمهورية لنيل تأييد شعبي وإظهار الإخلاص للثورة والوطن الذي بدأ أنه في موضع شك.

ثم توالت الأحداث باتجاهات أخرى بدعم من السعودية واليمن في الشمال لمن خرجوا من البلاد سابقًا، ودعم تمردات قبلية، فتماسك الجيش في عدن وأنظم إليه أنصار الجبهة القومية، وبدأوا في دحر تلك التمردات، وكان عبدالفتاح إسماعيل يتعالج حينها في بلغاريا فعاد في آب 1968م، وبعد أن حثَّ على تجديد الكفاح المسلح، وعاد وقرر مع باقي زعماء الجناح اليساري أنه من الأفضل أن يسعى اليسار إلى وفاق جديد مع الرئيس والعمل على الإطاحة به من داخل الحكومة، وإقرار اليساريين بارتكاب خطأين وتداركهما كان سبب عودتهم إلى العمل داخل صفوف الجبهة القومية والحكومة، وهذا التدارك ضروريًا لتصويب مسيرة الحكم، وهذان الخطآن، هما: إن قرارات المؤتمر الرابع قد استفزت العديد من القوى داخل الجبهة القومية وخارجها، لسوى تقدير القوة الذاتية التي بنوها على غالبية أعضاء المؤتمر دون الاعتبار للقوى الأخرى وهي كثر، دون أن تكون قوة(الجانح اليساري) موحدة وقائمة على أساس تصور فكري سياسي موحد وشامل. وسوء هذا التقدير الذاتي أدَّى إلى عدم تقدير القوى المواجهة، والمبالغة في إمكانية العودة للكفاح المسلح في مواجهة أعداء ليسوا هم أنفسهم الأعداء السابقين، حيث كانت القوى غير القوى السابقة، فكانت قوى واسعة ومن الصعب مواجهتها عسكريًّا.

وبهذه التحولات وتبدل التحالفات، وظهور قوى متعددة تتقاطع في التكتيكات وتختلف في الغايات، كانت الكفة الأرجح لليسار الذي أدرك أخطائه وعمل سريعًا على معالجتها، وكان يمتلك قدرًا عاليًا من المناورة، وفي هذا الإطار يقول عبدالفتاح إسماعيل إن عدم نضج العوامل الذاتية والموضوعية للانتفاضة جعل جناحهم اليساري يلجأ إلى إعادة تنظيم صفوفه داخل التنظيم السياسي انتظارًا للحظة المناسبة، وبدأ ينشط بذكاء ويستخدم التكتيك الصحيح.. فعادت العناصر اليسارية المطاردة إلى العمل ضمن إطار الجبهة، تحت ضغط الظروف التي واجهت الجناح اليميني الذي اشتدت عزلته آنئذ، وكان يبحث عن مخرج لأزمته.

وعمل اليسار في مسار تصحيح أخطائه أدَّى إلى التوصل مع الفريق اليميني إلى اتفاق حول (برنامج استكمال مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي) فكان هذا في الظاهر بمثابة حل وسط بين الفريق اليميني ومقررات المؤتمر الرابع، ولكنه كان في الواقع الخطوة التمهيدية الأولى للتصحيح تم إعدادها بإتقان بانتظار أن تطفو صراعات اليمين الداخلية على السطح.

 ووفقًا لذلك جرت مباحثات بين عبدالفتاح وفيصل عبداللطيف حول مسألة التحرر الوطني الديمقراطي، ووضعوا برنامج متفق عليه، لاستكمال مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي، تم إقراره في القيادة العامة التي عقدت دورتها من 11 _ 18 تشرين الأول أكتوبر عام 1968م.

وقد اعتبر البرنامج أن استكمال التحرر الوطني الديمقراطي في طريق سير الثورة المتواصل من أجل بناء مجتمع الاشتراكية والوحدة، والتناقض الرئيس هو مع القوى الإمبريالية والاستعمار والإقطاعية والاحتكار الدولي، وأن أي تناقضات ثانوية يجب حلها بالطرق السلمية ولا يمكن أن تصل إلى تناقضات رئيسة. ويدعو إلى تطوير الجبهة القومية لتصل إلى الحزب الطليعي، مؤكدًا الالتزام بالاشتراكية العلمية في فهم ومحاكمة مشاكل الواقع.

وحدد البرنامج أسباب الأزمة الفكرية والتنظيمية داخل الجبهة القومية على عدة مستويات، منها: المستوى التنظيمي، ومستوى السلطة. وحدد المهام المطروحة على الجبهة القومية، ومنها تطويرها إلى حزب يؤمن بالاشتراكية العلمية.

وأنتجت هذه الخطوة أن أصبح عبدالفتاح إسماعيل إمينًا عامًا للجبهة القومية بدلًا عن فيصل عبداللطيف.. وانتخب بعد ثلاثة أشهر رئيسًا لمجلس الشعب الأعلى الذي تقرر إنشاؤه في البداية من 61 عضوًا عينتهم الجبهة القومية، وتكونت لجنة تنفيذية جديدة فيها عبدالفتاح إسماعيل، وسالم ربيع علي رئيسًا لمجلس الرئاسة، ومحمد علي هيثم رئيسًا للوزراء... .

وهكذا سار دور عبدالفتاح إسماعيل في هذه المدة تنفيذ مخططه الاستراتيجي في يمننة الجنوب وتجهيزه للضم والالحاق مع الشمال، من خلال العمل على تمزيق النسيج الاجتماعي في الجنوب، وضرب بعضه ببعض، واستبعاد فئات بأكملها منه، وتعبئة القيادة وفق توجهاته التنظيرية الإيديولوجية التي سعى من خلالها إلى تحقيق استراتيجيته. وبعد أن أصبح الفريق اليساري هو المسيطر على السلطة، سعى فيما بعد إلى العمل على تمزيق هذا الفريق من داخله، وهو ما سنتابعه في الجزء اللاحق.

المطلب الثاني:

دوره منذ النصف الثاني من عام 1969م حتى النصف الأول من عام 1978م

بعد خلاص الجبهة القومية بتوجهها إلى الحزب الطليعي من حقبة قحطان الشعبي، برزت الخلافات بين تيارين آخرين نشأ كلاهما من بين صفوف التيار(اليساري) الذي كان يواجه السلطة السابقة، وتصدرهما الرئيسان للجبهة القومية: سالم ربيع علي الذي أصبح رئيسًا للجمهورية، وعبدالفتاح إسماعيل الذي عاد أمينًا عامًا للجبهة القومية.

وتركزت قضايا الخلاف بين التيارين _ كما يقول علي الصرَّاف الذي لاشك أن استخلاصاته كثير منها قالها ورددها عبدالفتاح لتعليل إزاحة سالمين وتصفيته، فيتبين فيها التناقض مع الواقع _ في المسائل الآتية:

أولًا: من الناحية الأيديولوجية كان سالم ربيع علي مواليًا للخط الصيني – الماوي، في الحركة الشيوعية العالمية. أما التيار الآخر الذي يتزعمه عبدالفتاح إسماعيل، فقد عارض جميع هذه المواقف بحكم أنه كان يمثل اتجاهًا سوفييتيًا في قيادة الجبهة القومية.

ثانيًا: اتخذ فريق سالمين موقفًا مؤيدًا لمختلف سياسات جمال عبد الناصر العربية، بما فيها موافقته على مشروع روجرز حيث اعتبره - هذا الفريق - تراجعًا تكتيكيًا مؤقتًا تمهيدًا لحرب قادمة ضد «إسرائيل»، بينما اعتبره الفريق الآخر نموذجًا صارخًا من نماذج (خيانة البرجوازية الصغيرة)، ما يعني أن أسباب الخلاف قد بدأت مبكرًا بين الفريقين.

ثالثًا: في تقسيمه الطبقي للمجتمع اليمني أوجد سالمين طبقة جديدة باسم الصيادين الفقراء، حسب القاعدة الصينية توجه للاعتماد على الريف في كسب الدعم، مشجعًا الاستيلاء الثوري على أراضي الإقطاعيين والفلاحين الأغنياء والمتوسطين.

رابعًا: وقف فريق سالمين ضد مشروع الرئيس اليمني الشمالي إبراهيم الحمدي بقيام دولة مركزية قوية في الشمال، مؤيدًا فكرة قيام الوحدة فورًا ولو بأساليب عسكرية حاسمة الأمر الذي كان يعارضه الفريق الآخر.

وكان عبدالفتاح يشير إلى هذا الاتجاه في التقرير السياسي المقدم إلى المؤتمر التوحيدي بين الفصائل الثلاث(الجبهة القومية، حزب الطليعة الشعبية، الاتحاد الشعبي) المنعقد في المدة من 11 _ 13 تشرين الأول 1975م، ويصف أصحاب هذه النظرة إلى الوحدة بالقوة وبأي ثمن بأنها دعوة تلتقي مع دعوة الرجعية اليمنية التي دعت قبل حوادث الصدام بين شطري الإقليم ومن خلال مجلس الشورى في شمال الوطن إلى تحقيق الوحدة بالحرب أو بالسلم، وهذه الدعوات ليس هدفها الوحدة وإنما إسقاط الأنظمة، ويؤكد بأن هذا مفهوم غريب لا يمت إلى التفكير العلمي بصلة، ويجرد قضية الشعب من محتواها الوطني والثوري والديمقراطي، وربما كان عبدالفتاح يعارض هذا الاتجاه حينما رأى الغلبة للجنوب فيه، وغير مستبعد إذا كانت الغلبة للشمال فيه أن يعطي الضوء الأخضر بتنفيذه، وسيبرر بتنظيراته أهمية تنفيذه.

خامسًا: وقف فريق سالمين ضد الخطة الخمسية الأولى التي أعدها الدكتور محمد سلمان حسن، والذي قام بوضع أسس أولى المؤسسات الاقتصادية التي سترافق تنفيذ الخطة. وبالرغم من نجاح الفريق المعارض لقيادة سالمين في إقرار الخطة، إلا أن سالم ربيع علي عمد إلى إجراء عدة تأميمات خارج إطار الخطة المقررة، الأمر الذي أسفر عن هروب رأس المال الوطني الذي كان يحتل دورًا مهمًا في تنفيذ الخطة الخمسية إلى جانب القطاع العام. وبدءًا من إنشاء التعاونيات الزراعية عمد «سالمين» إلى تشجيع قيام (كومونات فلاحية) في الريف.

سادسًا: الفردية ومظاهر العبادة الشخصية التي تبدت في الإشراف المباشر على جميع المؤسسات الحكومية والتدخل في قراراتها، وإنشاء مؤسسات تابعة لسالمين شخصيًا، واتخاذ قرارات اقتصادية بمعزل عن الحكومة وقيادة الجبهة القومية، والقيام برعاية مؤسسات رسمية تدين له بالولاء.

وقد كان من نتائج الصراع حول هذه القضايا أن بدأ كل من الطرفين خوض معركة داخلية لكسب مراكز القوة، سواء على صعيد التنظيمات في المحافظات أو على صعيد المنظمات التابعة للجبهة القومية(الطلبة، الشبيبة، النساء، النقابات...) وكذلك في الجيش وقوى الأمن وحتى الأحزاب الأخرى، فبينما كان فريق سالمين يحظى بدعم الريف إجمالًا - بشكل عام كانت قوة الفريق الآخر تتركز في المدينة إجمالًا أيضًا. وفي مقابل كسب الفريق الأول لتأييد الطلبة في الداخل والخارج، كان الفريق الثاني يعزز مواقعه في النقابات التي منحته التأييد، وفي مقابل حصول فريق سالمين على دعم بعض قيادات الجيش والأمن، كان فريق عبد الفتاح يحظى بدعم المليشيات الشعبية المسلحة، والتي كان لها في النهاية الفضل، مرة أخرى، في حسم الصراع لصالح الفريق الذي تؤيده، على أن من بين أهم مراكز القوة التي اعتمد عليها «سالمين» هي جبهة تحرير عمان التي كانت تخوض حربًا مسلحة في ظفار والتي كانت تتبنى عمومًا مواقف فكرية وسياسية مماثلة للمواقف الفكرية الماوية التي تبناها سالم ربيع علي، وقد كانت هذه الجبهة تشكّل قوة عسكرية مهمة انطلاقًا من وجود قواعد عسكرية خلفية لها في المحافظة السادسة(المهرة). إلا أن هذه القوة سرعان ما تحولت إلى دعم فريق عبد الفتاح إسماعيل، وذلك على إثر زيارة قام بها (أفاناسييف) العضو المرشح للمكتب السياسي في الحزب الشيوعي السوفييتي إلى مواقع الثوار في ظفار، أعقبتها زيارة قامت بها قيادة الجبهة إلى موسكو وذلك في عام 1976م، ومما يجدر ذكره أن زيارة (أفاناسييف) كانت أصلًا موضع خلاف بين الفريقين، خصوصًا فيما يتعلق بالسماح له بزيارة مواقع الثوار، ما يدلُّ على الدعم السوفيتي المباشر الذي حظي به فريق عبدالفتاح والتدخل في الشؤون الداخلية.

ومن خلال كتابات عبدالفتاح إسماعيل نفسه يتضح تزعمه وتبنيه المباشر في إزاحة فريق سالمين بل تصفية سالمين من الحياة، وتسفيه توجهاته وعمله، في الوقت الذي يشهد الواقع وذاكرة الناس الجمعية التي عاصرت سالمين وما زالت على قيد الحياة بين ظهرانينا بعكس ما يدَّعيه عبدالفتاح، ونجد هذا فيما يحاول به أن يوجز الأسس الإيديولوجية والتنظيمية والسياسية والاقتصادية التي حكمت الخلاف مع فريق سالم ربيع علي، التي نشرها في كتابه(كتابات مختارة، حول الثورة الوطنية الديمقراطية وآفاقها الاشتراكية، المجلد الأول)، حيث يقول:

خلافنا مع نهج جماعة سالم ربيع علي هو خلاف مع الفوضوية، واليسار الطفولي - الانتهازي ومرض التسلط الفردي في الثورة... وطبعًا لهذه الأمراض مجتمعة أساسها الإيديولوجي والتنظيمي والسياسي والاقتصادي في عقلية عناصر التيار اليساري الانتهازي، وقد تجسدت بالملموس في سلسلة الممارسات والتصرفات الفوضوية والطفيلية في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية التي وجدت طريقها بعد خطوة ٢٢ يونيو التصحيحية.. وتلك براهين تعكس التفكير الإيديولوجي لأصحابها الذي يخرج من دائرة نظرية الاشتراكية العلمية، ويلتقي في النهاية وبالرغم عنه مع المصالح الإمبريالية والرجعية.

من المعروف أن اليسار الانتهازي تيار عالمي يتسم بالفوضوية والمغامرة ويضر بوحدة حركة الثورة العربية والعالمية ونضالها الموجه ضد النظام الإمبريالي والصهيونية والفاشية والرجعية.

 ويقوى نفوذ اليسار الانتهازي وتنتشر أفكاره بين فئات البرجوازية الصغيرة وأنصاف المثقفين وأصحاب النظرة الضيقة دعاة التعصب والانغلاق.. وسالم ربيع (وزمرته) هو من ذلك الخط الانتهازي الذي يتظاهر بالثورية المتطرفة شكلًا، بينما في الجوهر معاد للاشتراكية العلمية، ويرفض التحالف المبدئي والاستراتيجي مع قوى الثورة العربية والعالمية وفي طليعتها الاتحاد السوفييتي.

وقول عبدالفتاح إسماعيل هذا يوحي بتحامله على توجّه الرئيس سالمين وتأويله لما يقوم به من أعمال في صالح الشعب لا سيما طبقاته الكادحة والفقيرة، بأنها ضد الشعب ومصلحته، وضد التوجه الثوري والاشتراكية العلمية، وإن كان ظاهرها ثوريًا متطرفًا، إلا أنه في حقيقتها وباطنها ونتيجتها الأخيرة ستلتقي مع الإمبريالية والرجعية والفاشية... .

ويضيف عبدالفتاح إسماعيل قائلًا: لقد تعرضت الثورة خلال مسارها إلى خطرين مدمرين، هما: اليمين الانتهازي وخط اليسار الانتهازي، ولكن يجب أن نسجل أن اليسار الانتهازي كان من أكبر الأخطار التي الحقت الأضرار بالثورة، وأبطأت من تطورها، وهددتها بالارتداد إلى الخلف والارتماء في دائرة النفوذ الإمبريالي والرجعي.. ومن واقع التجربة الثورية في بلادنا لم يكن من الصعب أن نقضي على اليمين الانتهازي، لأن الخلاف معه كان واضحًا منذ البداية، ولكن لم يكن من السهل الانتصار على اليسار الانتهازي بسهولة وبالسرعة نفسها، لسبب بسيط هو أنه كان يرتدي قميص الثورية ويبدي حماسه للاشتراكية العلمية وسلطة الكادحين.. ولقد احتاج الأمر منا إلى نضال شاق ودؤوب لفضحه وتعريته ومن ثم التخلص النهائي منه.

وفي هذا اعتراف من عبدالفتاح إسماعيل في سعيه الدؤوب إلى إيجاد التنافر بين أبناء الجنوب بتنظيراته الفلسفية، والقضاء على أول سلطة تشكلت في الجنوب بعد الاستقلال، ويؤكد أن عبدالفتاح إسماعيل لديه مخطط استراتيجي ينفذه داخل النظام في الجنوب ليجعل منه نظامًا تابعًا للشمال أو ضعيفًا يسهل أمام الشمال ابتلاعه، فكان وراء إزاحة السلطة السابقة بقيادة قحطان(اليمين الانتهازي) كما يصفه الذي قام بالقضاء عليه بسهولة، وإن كان سالمين معهم في التوجه العام، فإن عبدالفتاح إسماعيل قد استثمرهم في ضرب بعضهم ببعض، ولم يستطع أن يصنف سالمين بأنه معاديٌ للثورة إلا من خلال الانتظار مدة طويلة من الزمن، والتأويل بأن ما يقوم به من أعمال لصالح الشعب له من ورائها مطامع بعيدة تتفق مع الإمبريالية والرجعية، وإن لم يستطع أن يفهمها كثير من الناس فإنه(عبدالفتاح) يفهمها هو جيدًا، ولهذا فهو(سالمين) وإن عمل للشعب فهو ضد الشعب وثورته. 

ويواصل، عبدالفتاح، تبريره ما ارتكبه في حق شعب الجنوب وأرضه في القضاء على أفضل قياداته حتى الآن، بالقول: ويرجع خلافنا مع اليسار الانتهازي في الثورة الذي مثله ربيع إلى فترة مبكرة بعد خطوة ۲۲ يونيو التصحيحية، ففي ذلك الوقت كانت أمامنا مهمة تأمين مسار الثورة وتوفير الشروط المادية والروحية لانطلاقتها صوب طموحات وأماني الشعب بدون متاعب أو اخفاقات. وكان الجوهري بالنسبة لنا هو إعادة تربية الأعضاء عن طريق نشر أفكار الاشتراكية العلمية ومن مصادرها الحقيقية، وكنا نعتقد أن تعمق الوعي الإيديولوجي بين صفوف الأعضاء والأعضاء المرشحين، واستيعابهم الكامل لقوانين النظرية الثورية هو العامل الحاسم الذي سيعمل على إنهاء الأفكار الضبابية واليسارية الدخيلة على الاشتراكية العلمية وروحها... وكان تقديرنا أن ذلك هو الاتجاه الصائب لقيام تجربة ثورية بقيادة طليعة ثورية تجيد الربط الصحيح بين النظرية والممارسة، بين الأقوال والأفعال... ومنذ البداية اتخذ ربيع موقفًا متحفظًا من الفكر الاشتراكي العلمي، ورفض الالتحاق بالحلقات الدراسية النظرية التي نظمتها اللجنة المركزية، وكان يعتقد أن مكانته السياسية وادعاءه بالجملة الثورية أكبر من ذلك.

وهذا يدلُّ على تبيت النية مبكرًا في إزاحة سالمين من السلطة لاسيما وهو لم يتقولب في توجه عبدالفتاح إسماعيل من خلال تلك المحاضرات والمدارس والدورات التوجيهية التي حاول أن ينشطها في طول البلاد وعرضها لإسباغ هوية جديدة على شعب الجنوب أو جعله على الأقل يشعر بالنقص وأن جزءًا من وجوده الحتمي لم يندمج معه، ومن هنا سيفكر بحتمية وحدة الأرض والإنسان مع شعب الشمال في اليمن.

ويبين أساب غيرته من الرئيس سالمين وتخوفه مما قد يحققه للجنوب أرضًا وإنسانًا، فيقول: "وكان غياب الموقف الإيديولوجي الثوري الناضج وإحلال الموقف اليساري الانتهازي والنزعة الفردية محله، يقود حتمًا إلى النظرة البراغماتية محل الاشتراكية العلمية وإلى تطبيق وممارسات تتنافى تمامًا مع تعاليم الاشتراكية العلمية ومهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية. ولذلك فقد كان من الطبيعي أن تتعمق لدى سالم ربيع النزعة الفردية والروح الفوضوية المغامرة للبرجوازي الصغير... فعندما انغمس في امتيازات السلطة أصيب بداء الغرور، وبدأ إيمانه يبتعد عن الاعتراف بالدور القيادي للتنظيم السياسي وتقاليد القيادة الجماعية والمركزية الديمقراطية، وكان يريد تنظيمًا سياسيًا يجيد التصفيق والهتاف لزعامته، لينادي به كبطل للشعب.

ولذلك ليس من الصعب اكتشاف الاتجاه الذي كان يقف وراء أحداث الأيام السبعة(21 _ 27 حزيران 1978م)، فقد كان يستهدف من ورائها تدمير كوادر التنظيم السياسي وإلغاء دوره القيادي، وقد اتضح لنا فيما بعد أن العناصر المعروفة بعمالتها وارتباطها بالدوائر المعادية للثورة، قد لعبت دورًا في هذا الاتجاه، عندما تسللت إلى صفوف الجماهير تحت ستار الثورية والشعارات البراقة... وأكثر من ذلك أنه قام بتشكيل حلقات منظمة تابعة له شخصيًا ومرتبطة به، في مرافق العمل والإنتاج، وظهر جليًا أنه أراد أن يستند إلى احتياطي من خارج التنظيم السياسي في نشاطه السياسي.

الفوضى والارتجال والعشوائية... كانت القانون الذي يحكم تصرفات ربيع ومجموعته المنحرفة، فإذا أخذنا موقف سالم ربيع من جهاز الدولة، نجد موقفًا يتميّز بالعداء والفوضى وعدم التنظيم تحت ستار محاربة البيروقراطية.. وخلال سنوات حكمه، حوّل دار الرئاسة من أركان لقيادة وتوجيه جهاز الدولة إلى مؤسسة تجارية وإلى حكومة داخل الحكومة، فقد كان لا يثق بجهاز الدولة والمؤسسات الحكومية، ولذلك شكل دوائر مقابلة لدوائر الدولة الرسمية، مثل مشاريع النقل والمواصلات، والخياطة، والصيد، وأنشأ قوة عسكرية واستخبارات وجهاز أمن تتبع له شخصيًا... وكان دخل هذه المشاريع يسلم إلى يده مباشرة من قبل المسؤولين المعينين من قِبله.. وتأكيدًا لـ(عدائه للبيروقراطية)، فقد كان يفضل حل قضايا الدولة بواسطة التلفونات والقصاصات الصغيرة، ويفضل النزول الميداني اليومي للمؤسسات والأحياء ويناقش في كل صغيرة وكبيرة بهدف شد المواطنين إلى شخصه وإبهات مكانة التنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية... وكان كل من يعارض رأيه في هذا الموقف أو ذاك ولا ينفذ توجيهاته يعامل معاملة غير مبدئية لا تمت إلى المبادئ الثورية والأخلاقية التي حددتها وثائق تنظيمنا السياسي.

وفي هذا التوصيف من التحامل والافتراء الذي يخالفه الواقع الشيء الكثير، وواضح أن تخوّف عبدالفتاح كبيرًا من ارتباط سالمين المباشر بالشعب، ولهذا يظهر انفعاله بهذه الأوصاف التي يسبغها على أولئك الوطنيين، بالمنحرفين والفوضويين والارتجاليين والعشوائيين. 

ويضيف عبدالفتاح قائلًا: على صعيد المنظمات الجماهيرية أوجد حالة من الفوضى وعدم الاستقرار أضعف من نشاطها السياسي والجماهيري وبشكل خاص اتحاد نقابات العمال، فقد حارب العديد من الكوادر القيادية في هذه المنظمات واستبدلها بعناصر من منطقته، وبعناصر انتهازية لا يهمها الولاء للتنظيم السياسي الموحد بقدر ما يهمها الانتفاع من الامتيازات التي يتمتع بها... وشجع قيام لجان الرقابة العمالية(الخاصة) التي أراد بواسطتها أن تكون بديلًا الرقابة العمالية الشرعية وبديلًا لإدارة الدولة والمجالس النقابية.

وفي هذا دلالة على شغل سالمين وعمله بإخلاص لصالح الأرض والإنسان الذي يعيش عليها ابن هذه الأرض(الجنوب)، علمًا أن عبدالفتاح هنا يقصد بقوله: من أبناء منطقته، أي أبناء الجنوب، ويدلُّ على ذلك حب الناس في كل الجنوب لهذا الإنسان الرئيس، ووصف أيامه بأنها من أفضل الأيام التي شهدت بها بلاد الجنوب عملًا وتطورًا ملموسًا لصالح الإنسان في كل بلاد الجنوب، وهو ما لا يروق لعبدالفتاح إسماعيل الذي كان كل همّه أن يكون أبناء الشمال لهم الصدارة في كل مفاصل الدولة، ويؤكد ذلك أيضًا الصرَّاف بتعليله أسباب القضى على سالمين بأنه قد اعتمد على ابن منطقته(علي عنتر) الذي تأخر عن مساندته، فأجهز عليه عبدالفتاح إسماعيل وشلته، فحقيقة الصراع واضح بين محاولة بناء الجنوب والاتجاه به نحو الشمال، وإن كان عبدالفتاح بمرونته يسعى إلى تغليفه إيديولوجيًا، ويضفي عليه من التنظيرات والمبررات، ما يصوره صراع مشاريع داخل النظام في الجنوب، وهو ما أدَّى إلى أن يكون له اتباع داخل الجنوب ينساقون وراء تنظيراته، فيكونون أدواته لتنفيذ الصراعات داخل الجنوب.

ويبين عبدالفتاح انحراف سالمين في السياسة الاقتصادية عما يسعى إليها، قائلًا: أما سياسته الاقتصادية فقد استندت إلى(مفهوم مثالي) يرى أن الجوهري هو تغيير وعي الناس من خلال التحريض السياسي الفوضوي، وهو مفهوم يتعارض مع تعاليم الاشتراكية العلمية وطبيعة مرحلتنا، والذي يقوم على أن تغيير حياة الناس الاقتصادية وتطوير معيشتهم هو الشرط المادي لتغيير وعيهم السياسي والإيديولوجي .. لقد قادت الممارسات الاقتصادية التي أقدم عليها والبعيدة تمامًا عن النهج الاقتصادي الذي رسمته وثائقنا إلى قيام حالة من الفوضى أربكت الاقتصاد الوطني، وأعاقت سرعة تطور اقتصادنا الوطني المبرمج والمخطط وألحقت ضررًا بالمنتجين والتجار الصغار والحرفيين.. ففي مجال الزراعة مثلًا جرت مصادرة ملكيات صغيرة لم ينص عليها قانون الإصلاح الزراعي وفرضت اللجنة السياسية العليا للإصلاح الزراعي - التي كان يرأسها المنحرف ربيع - سياسة زراعية لا تستجيب ومصالح الفلاحين، الأمر الذي أدَّى إلى ترك صف واسع من الفلاحين العمل الزراعي والهجرة إلى المدينة، مما أدى إلى هبوط الإنتاج الزراعي وخاصة الخضار والفواكه... وفرض قيودًا على نقل وبيع منتجات الفلاحين بين محافظة وأخرى ومديرية وأخرى ومركز وآخر، وهذا لا نجد شبيهًا له إلا في عهد النظام الاقطاعي...

ويردف قائلًا: وتعرض التجار الصغار والحرفيون، شأنهم شأن الفلاحين لإجراءات وقيود من قبل سالم ربيع ومجموعته، لا تدخل في صلب مهام الثورة الوطنية الديمقراطية.. ومن السهل أن نكتشف العقلية اليسارية الانتهازية لربيع في الجانب الاقتصادي، عندما نجد أنه أقدم على إلغاء محلات باعة الفواكه والخضار والأسماك واللحوم وملاك قوارب النقل الصغيرة وتقليص دور الدكاكين الصغيرة ومحاربة التجار الصغار. ومن المعروف أن الأحزاب الثورية تولي اهتمامًا بارزًا لدور المنتجين والتجار الصغار والحرفيين في تلبية الحاجات المادية للشعب، وحتى البلدان الاشتراكية التي قطعت أشواطًا متقدمة في البناء الاشتراكي لا زالت تشجع الإنتاج الفردي وتنظر إليه باعتباره جزءًا من الإنتاج الجماعي الذي يساعد على تلبية حاجات السكان مع ربطه بالعمل التعاوني وتشديد الرقابة عليه.

وفي الجانب المالي سلك ربيع مسلكًا مخالفًا لقوانين الدولة المالية وسياستها، فقد كانت تحويلاته المالية تتم بواسطة القصاصات ويمنح المناقصات المقاولين بمبالغ تفوق بكثير التكلفة الحقيقية للمشروع.. وقد قدَّم للمحاكمة أفرادًا اختلسوا بعض السلع الغذائية بكمية لا تذكر، بينما دافع عن عناصر عبثت بأموال الدولة والشعب، لا لشيء إلا لأنها من زمرته.. وكان يعقد الصفقات التجارية مع الخارج في كثير من السلع والآليات بدون معرفة الجهات المختصة، وكان أبرزها، عقد صفقة السيارات بـ ٥٠ مليون دولار سحبت بأمره من احتياطي البنك، والتي لن تستخدم إلا بعد سنوات، وتكون في ذلك الوقت قد أصبحت غير قابلة للاستعمال.

والجزئية الأخيرة وحدها _ فيما يتعلق بالسيارات التي ستصبح غير قابلة للاستعمال على حدّ وصفه _ كافية لتبين تنظيرات عبدالفتاح السفسطائية المضحكة التي كان يسوقها لأبناء الشعب، فيتلاعب بأفكارهم وعقولهم، حتى يسوق العامة منهم إلى الاتجاه الذي تسلكه استراتيجيته العميقة.

ويقول: وبشأن وحدة فصائل العمل الوطني الديمقراطي، فقد وقف ضد هذه الوحدة منذ بداية حوارها الجدي بعد خطوة ٢٢ يونيو التصحيحية، وعندما نضجت ظروف بناء الحزب الطليعي من طراز جديد باختياراته الوطنية والعربية والأممية لم يخف رفضه لهذا الحزب، بل عمل ومجموعته الانتهازية على تعطيل الجهود بحجة أن الظروف غير مواتية وأن قيام الحزب سيستفز القوى الرجعية في المنطقة.

وكان موقفه من الحزب الطليعي يرتبط في الأساس بموقفه السياسي الخارجي من الصراع بين القوى الثورية والقوى الإمبريالية.. فقد كان يدَّعي الثورية والعداء للإمبريالية بينما هو في الواقع العملي يمارس مواقف رجعية تجاه الحركة الثورية العربية والعالمية، ويفضل التعامل مع البؤر الانشقاقية في الأحزاب الثورية والتي تعادي البلدان الاشتراكية وفي طليعتها الاتحاد السوفييتي وتتحالف مع الانتهازية الثورية العالمية.. وانتهى به المطاف السياسي إلى التنسيق مع الدوائر الإمبريالية والرجعية من أجل تركيع الثورة وارتمائها في أحضان هذه الدوائر...

وهنا يقدم عبدالفتاح شهادة مجانية لسالمين بمحاولة مراعاته لدول الجوار، ربما لم يدر بخلده أنه في يوم من الأيام ستثبت صوابها، وشطط عبدالفتاح وفريقه، الذين كانوا يحاربون أنظمة تلك الدول بشعاراتهم وبرامجهم وأنظمتهم الداخلية، بالكتابة في الورق، والحديث في القاعات والخطابات في الشوارع، وها نحن اليوم في الجنوب وفي نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين الميلادي ندفع ثمن محاربتهم لأنظمة دول الجوار بالكلام.

ومن خلال العودة إلى شعارات الحزب الطليعي وبرامجه، تتبين الاستراتيجية التي يقود بها عبدالفتاح إسماعيل الجنوب وشعبه باتجاه الشمال، وهو هنا يشهد بأن سالمين كان مدركًا لذلك المخطط إلا أن خطط عبدالفتاح وتنظيراته ومراوغته ومناورته بين أبناء الجنوب كانت أقوى من إدراك سالمين وتوجهه لمناهضتها.

أما نقطة التحول في تصعيد الخلاف فقد كانت الدورة السابعة للجنة المركزية التي عقدت في أوائل حزيران 1978م، والتي جرى خلالها انتقاد السياسة الاقتصادية والإدارية التي كان يتبعها سالمين. وحسب عبد الفتاح إسماعيل فقد ظهر لسالمين ومجموعته أنهم يقفون لوحدهم كمجموعة لا تحظى بتقدير واحترام الأعضاءوالأعضاء المرشحين لتنظيمنا السياسي الموحد الجبهة القومية. وأدركوا - وبشكل خاص ربيع - أن البساط قد سحب من تحت أقدامهم، وكنا من جانبنا نريد أن نعمق من جذور الشرعية الثورية والديمقراطية الداخلية، وأن نؤكد أن التنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية هو مجال بحث وحل كافة هموم ومشاكل الثورة وأنه هو القائد والموجه لنضال الشعب، ويستمد الفرد دوره المسؤول من هذه القاعدة... وقد أعقبت الدورة السابعة سلسلة من الإجراءات والتغييرات التي قلصت من نفوذ ربيع وتسلطه الفردي ووضعت حدًا لتجاوزاته وتدخلاته في جهاز الدولة.

وهكذا يبين عبدالفتاح أن الاستراتيجية التي اتبعها بعد المؤتمر الرابع للجبهة القومية بعد عودته من بلغاريا حينها للقضاء على قحطان الشعبي قد اتبعها مع سالمين بعد الدورة السابعة للجنة المركزية.

من هنا بدأ سالمين يعد لمحاولته الانقلابية التي سيجري تنفيذها في أعقاب عملية اغتيال الرئيس اليمني الشمالي المقدم أحمد الغشمي. وذلك باستثمار ما قد تثيره من ارتباك لدى قيادة التنظيم السياسي الموحد من ناحية، ومن ناحية أخرى لتهيئ إمكانية تجميع قوى الجيش والمليشيا لمواجهة احتمالات الحرب بين اليمنيين. وحسب عبدالفتاح إسماعيل فإن العملية كانت مرتبة على مستوى أبعد من التخطيط الفردي لسالمين حيث كان الهدف:

((العصف بكل الوضع في اليمن... والعصف بالأساس بالثورة والنظام لتسلم اليمن الديمقراطية للرجعية.. لذا، ومباشرة بعد أن شعرنا أننا أمام مؤامرة وحالة حرب بين الشمال والجنوب، لم يكن بمقدورنا في المكتب السياسي أن نتحمل المسؤولية لوحدنا، فدعونا اللجنة المركزية إلى اجتماع استثنائي طارىء في اليوم التالي، وكانت دعوتنا السريعة للاجتماع قد أربكت التوقيت للزمن المحدد لعملية الانقلاب. وحاولنا مع ربيع مرارًا وتكرارًا إقناعه بأننا كأفراد سوف ننتهي اليوم أو غدًا.. فالأفراد مهما كان دورهم التاريخي ليسوا خالدين... ننتهي كأفراد لكن لتظل الثمرة... ليظل الحزب.. ليظل النظام، وإذا استمر الحزب واستمرت الثورة واستمر النظام، يمكن أن تأتي عناصر أفضل منا وتواصل مسيرة الثورة.. وقلنا بصراحة إنه أمام هذا العمل المشين من الأفضل أن يتنحى عن المسؤولية ويعيش كرفيق حياة محترمة، شريفة، ومعه أسرته سواء داخل الوطن أو خارجه. لكنه ظل يراوغ لكسب الوقت، وأعاد كل العناصر المسرحة بما في ذلك آخر العناصر المسرحة من القوات المسلحة. والمصادفة الغربية، وغير الغريبة في الوقت نفسه أن الذين اعتقلونا في انقلاب 20 مارس 1968م، هم الذين تولوا عملية القصف المدفعي بمختلف الأسلحة الثقيلة ضدنا في يوم 26 يونيو 1978م وكنا قد بذلنا كل الجهود قبل انفجار الوضع في المكتب السياسي طوال يوم 25 يونيو محاولين إقناعه، لكن دون فائدة، فالنزعة الفردية كانت تجري في شرايينه.

في الساعة السابعة كانت اللجنة المركزية مجتمعة في مكان الأحداث، حيث ظل الرفاق في اللجنة المركزية ينتظرون حتى الساعة الواحدة والنصف تقريبًا، ونحن نحاول إقناعه. وبعد مرور فترة طويلة من محاولة الإقناع هذه، رأينا بعد فشلها ضرورة العودة إلى اللجنة المركزية لتتخذ القرار بشأن إقالته ... طالما أنه متعنت ورافض ومستعد بأن يضحي بالتنظيم والثورة والنظام وبأن يزج اليمن كلها في أتون حرب طاحنة لكي يبقى كفرد.

وبعد إرسال أكثر من رفيق من المكتب السياسي إليه وافق تكتيكيًا على إرسال استقالته.. ولم نكن نعلم أن تلك الموافقة ليست إلا عملية غدر.

واجتمعت اللجنة المركزية بعد رفضه الحضور لمناقشة الأمر ولحسمه.. وناقشنا موضوع الاستقالة بكامل الديمقراطية ... وقد تحفظ عليها أربعة من أعضاء اللجنة المركزية.. وخرجنا من الاجتماع على أساس أن الموقف محسوم.. وأمام رغبته بالسفر إلى الخارج.. قلنا للرفاق أعضاء المكتب السياسي ينبغي أن نناقش موضوع ترتيبات السفر وتجهيز طائرة خاصة، وكيف يجب أن نودعه توديعًا رسميًا.. ولكن فوجئنا بوابل من النيران ينصب على مقر اللجنة المركزية، وكان الذي قاد العملية أحد القادة العسكريين المسرحين والمشتركين في حركة 20 مارس الرجعية، الذي أعلن بعد القصف أمام ربيع أنه تم القضاء على جميع أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية.

شاءت الظروف أن ننجو من الغدر والخيانة، وشكَّل المكتب السياسي قيادة مشتركة وتمت محاصرة الرئاسة واستمر القتال يوم 26 يونيو.. وفي المساء أرسل رسالة أنه يسلم نفسه ومجموعته، سلموا أنفسهم بعد كل التضحيات التي كان يمكن تجنبها.. واتخذ القرار وشكلت محكمة.. وكان الحكم بالإعدام.

عند القيام بالعملية الانقلابية تم الاتصال من قبل سالمين بكثير من الوحدات في المحافظات، وقيل لهم إنه يوجد زحف عسكري من الشمال على دار الرئاسة، وذلك لكي يضلل كثيرًا من الناس، ولكن المكر والتضليل فشلا نهائيًا وانتصر الحزب.. وانتصرت الثورة.

هذه هي خلفية أحداث 26 يونيو 1978م.

وهكذا كان عبدالفتاح باعترافه كما ورد في مختاراته الكتابية، حينما رأى عدوه اللدود _ الذي قد يذهب بالجنوب بعيدًا عن الشمال أو سيجعله الأقوى والكفة الغالبة في أي مواجهة، وسيخلط عليه أوراق استراتيجيته في يمننة الجنوب وجعله فرعًا تابعًا للشمال _ مستسلمًا بين يديه، غابت عن فكره أي محاولة مراوغة ومرونة، فسارع إلى تشكيل محكمة لسالمين لتحكم بإعدامه، وينفذ الإعدام على وجه السرعة بالوقت نفسه، ويتمتع عبدالفتاح بالقدرة في تصوير من يرى أن مشروعه لا ينسجم مع يمننة الجنوب وكأنه يعيش بمعزل عن الشعب في الجنوب، ويجب أن يصفى من الحياة.

وحتى يبرر عبدالفتاح إسماعيل للشعب أهمية تصفيته لرئيسه سالم ربيع علي ويتقبل هذا العمل الإجرامي الشنيع الذي ارتكبه في أفضل رئيس مرَّ في تاريخ الجنوب المعاصر بشاهدة كل من عاش هذا التاريخ بكل تقلباته وتحولاته، يؤكد بأنه تم الكشف بعد القضاء على المحاولة الانقلابية، على العديد من الوثائق المكتوبة بخط اليد توضح رأي جماعة سالمين بـ:

الموقف من المركزية الديمقراطية.. ومن الأغلبية في المكتب السياسي وفي اللجنة المركزية، ومن داخل صفوف التنظيم وبين الكوادر، كيف يجب أن يشتغلوا كيف يثيرون المشاكل؟ كيف يبدؤون بالتحريض... وكيف يعملون بين أوساط العناصر المسرحة من المؤسسات العسكرية وكسبهم من جديد لأنهم أكثر العناصر الحاقدة والموتورة والتي هي على استعداد لأن تتحالف معهم؟

وحسب الوثائق يؤكد عبد الفتاح إسماعيل:

 أن المحاولة الانقلابية كانت تنفيذًا لمخطط أعد منذ وقت ليس ببعيد من قبل الدوائر الرجعية والإمبريالية العالمية... وتكشف الوثيقة التي تؤكد ارتباط (سالمين بالدوائر الرجعية والإمبريالية وتنسيقه معها، أن هذه الدوائر طلبت منه تصفية قيادات التنظيم السياسي الموحد، بل التنظيم ككل، وتقديم رأس الثورة والتنظيم لها، مقابل مساعدات مالية واقتصادية ضخمة، وأبدت استعدادها لوضع قوات عسكرية تحت تصرفه فيما لو نجح الانقلاب المضاد للثورة.

وهكذا يتضح التخبط والتناقض فيما يحاول عبدالفتاح إسماعيل أن يبرر به فعلته التي قام بها بإعدام أفضل رئيس مرَّ على تاريخ الجنوب، وأحبَّه الشعب لما يتمتع به من بساطة وتواضع وعمل دؤوب من أجل مصلحة الشعب لاسيما طبقته الكادحة حتى سمي بأبي المساكين، ففي حين يرى أنه ذهب بالبلاد مع الشيوعية في الصين والدول المتقاربة معها، يحاول هنا أن يتهم سالمين بأنه عميل مع الدول الإمبريالية والرجعية التي تقف على النقيض مع الاشتراكية والشيوعية، ويقدم افتراءات بأنه كان ينوي تصيفة كل القيادات والتنظيم، ورأس الثورة ويا ترى من هو رأسها، هل هو من حاول مرارًا وتكرارًا منذ مراحل الكفاح المسلح تجييرها شمالًا وإعطاء قيادتها لمن كان يراها ثورة دراويش أو من سيكون؟!.

ويقول علي الصرَّاف، لقد كان من بين أهم عوامل فشل محاولة سالمين الانقلابية عاملان، هما:

أولًا: تخلي معظم أعضاء الفريق المؤيد لسالمين عن هذا التأييد خصوصًا بعد أن اتخذ سالمين قرار الهجوم على مقر اللجنة المركزية، وبعد افتضاح دوره في عملية اغتيال الغشمي، ولم يبق على هذا التأييد سوى اثنين من أعضاء اللجنة المركزية هما مقبل ومحسن اللذان اعتقلا على الفور.

ثانيًا: كان سالمين ينتظر أن يحصل على دعم مطلق من منطقته (الضالع)، إلا أن علي عنتر الضالعي - أيضًا، أوقف هذا الدعم، الأمر الذي أدى إلى بقاء حركة سالمين الانقلابية معزولة إلى حد كبير.

ولا شك أن هذا الاستنتاج للصرَّاف في محله، فهو يرى أن الصراع مناطقي متغلف بالإيديولوجية، التي كسب بها عبدالفتاح الجنوبيين واستعملهم لتنفيذ استرتيجيته، لهذا فسالمين وعلي عنتر من الجنوب وعبدالفتاح من الشمال، وعمل بدهائه وتنظيره على تشويش الوضع على أبناء الجنوب؛ لكي يتخلص من ابن الجنوب الذي يشتغل للجنوب، وهو ما لا يريده عبدالفتاح وشلته، وقد اتضح هذا النهج الذي يسير عليه عبدالفتاح ليس من هذا الموقف، إزاحة الرئيس سالم ربيع علي وقتله فحسب، بل اتضح منذ ما بعد المؤتمر الثاني للجبهة القومية بجبلة في حزيران 1966م الذي كُلِّف به للذهاب إلى مصر لإجراء مباحثات الوحدة الوطنية مع جبهة التحرير هو ومجموعة من أبناء الجنوب الخلص، وما أن وصل مصر إلا والفريق المفاوض الممثل للجبهة القومية فيه أولئك الذين وقعوا في 13 يناير 1966م على الدمج القسري مع منظمة التحرير التي أعلن عنها عبدالله الأصنج ابن الشمال في صنعاء، بعد أن جمد المؤتمر _ هذا الذي كلف عبدالفتاح والفريق الذي معه بالتفاوض _ عضوية أولئك نتيجة لتوقيعهم على الدمج مع حزب الشعب الاشتراكي الذي وصفت قيادته الثورة المسلحة للجبهة القومية بأنها ثورة دراويش، بل كل عمل عبدالفتاح لاسترتيجيته في يمننة الجنوب وتمزيق نسيج الجنوب الاجتماعي التي يشتغل عليها تتضح من قبل هذا المؤتمر، إذ بعد عملية الدمج القسري كما يقول ذهب إلى مصر _ التي كان يهمها الدمج وتعمل لصالحه _ لمحاولة شرح الوضع لسوء الفهم إذ هناك ثلاثة توجهات داخل الجبهة القومية: قحطان وفيصل عبداللطيف رافض بشدة، وبذلك يحاول إزاحتهم من المشهد دوليًا، وموقف موافق من حيث المبدأ لكن لديه شروط وفي فئة من شعب الجنوب يجب استبعادها، وهنا مكمن خطر عبدالفتاح في سعيه إلى تمزيق النسج الاجتماعي الجنوبي مبكرًا، والثالث الذين وافقوا بدون أي تحفظ وهو التيار الذي يتماهى داخل الجبهة القومية مع توجيه الجنوب نحو اليمننة، وهنا يسوق لهم القبول والاعتراف بهم دوليًا....

وكل تصرفات عبدالفتاح إسماعيل وتحركاته تدلُّ على عدم حرصه على الجنوب وشعبه إلا بالقدر الذي سيجعله يشعر بأنه جزء من الشمال، ويسهل للشمال ابتلاعه، وملاحظة ذلك ليس صعبًا على مثل سالم ربيع علي أن يستنتجها، بل من الملموس المنقول مشافهة عن بعض أكاديميي الرعيل الأول في دولة الجنوب أن من أسباب الخلاف بين عبدالفتاح إسماعيل وسالم ربيع علي، هو ممتلكات سلطنتي حضرموت: القعيطية والكثيرية، إذ كُلِّف عبدالفتاح إسماعيل وأحد رفاقه من الشمال باستلام تلك الممتلكات، ولا توجد لديهما أي براءة ذمة بتسليمها أي جهة أو مؤسسة داخل الجنوب، وقد عمد سالم ربيع علي إلى تسجيل براءة ذمة بأن عبدالفتاح ورفيقه قاما باستلام تلك الممتلكات ولم يسلماها إلى أي جهة، ولم توجد بحوزتهما براءة ذمة بتلك الممتلكات.

وتتضح توجهات عبدالفتاح إسماعيل بقيادة الجنوب نحو الشمال في أثناء رئاسته التي وصفها الصرَّاف بقوله: أبرز عناوين فشل عبدالفتاح إسماعيل إضعاف جبهة ظفار، وجعل قابوس ينتقل من موقف الدفاع عن نظامه إلى الهجوم على المناطق الشرقية لليمن، وكان فتاح وفريقه يقولون بأهمية الاعتماد الذاتي في هذه الجبهة لكن مع القوى الوطنية الشمالية كان موقفهم متغير إذ كثير ما تورطت قوات عسكرية في مساندة تلك القوى في الشمال، فقد كان هذا الفريق(عبدالفتاح وعبدالعزيز الدالي) يهمهم وحدة الشمال أكثر مما تهمهم جبهة ظفار، وكان هذا الفريق أكثر تلهفًا للوحدة بين الجنوب والشمال، ويؤكد ذلك إعلان عبدالفتاح استعداده للتخلي عن الرئاسة لصالح الرئيس اليمني في الشمال علي عبدالله صالح إذا يرغب في الوحدة..

وتتضح مهمة عبدالفتاح الأساسية التي يسعى إليها في خلق هذه الصراعات والتناحرات داخل الجسد الجنوبي بل أكثر من ذلك قيامه المباشر في تصفية الرئيس سالم ربيع علي، وهي الاتجاه بالجنوب نحو الشمال، وكان هذا مع أول مؤتمر عقده للحزب الطليعي الذي سعى إليه، وجمع من أجله أبرز التنظيمات في الجنوب، ويتمثل ذلك في شعار المؤتمر الأول للحزب الاشتراكي اليمني الذي عقد في عدن من 11 _ 13 تشرين الأول(أكتوبر) 1978م الذي كان(لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية، وتنفيذ الخطة الخمسية، وتحقيق الوحدة اليمنية)، فضلًا عن تصرفاته الفعلية كالاهتمام بالثورة الوطنية باتجاه الشمال، وإهمال الثورة الشعبية في ظفار. 

ووقوفه أمام توجهات القيادة الجنوبية نحو دول الخليج واتهمامهم بالخيانة، ففضلًا عمَّا تبين سابقًا في محاولته تبرير تصفية سالم ربيع علي بمراعاته لقوى المنطقة، ويقصد دول الجوار، فقد هاجم عبدالفتاح إسماعيل كل من يحاول السير في اتجاه تحسين العلاقة مع دول الجوار من أبناء الجنوب...

 وبعد تصفية سالمين، وفي افتتاح الدورة الانتخابية لمجلس الشعب في عام 1979م يقول عبدالفتاح: "إن هناك من يدفعنا إلى الاستجداء من السعودية وإلى كسب رضاها عنا".

 وهذا تحريض واضح وتثوير للشعب ضد اتجاه أبناء الجنوب إلى محاولة تحسين العلاقة مع دول الجور، فأدَّى تحريض عبدالفتاح هذا إلى إعدام محمد صالح مطيع ...

وقد سعى لتكريس توجهاته في المؤتمرات العامة كالمؤتمر العام الخامس للتنظيم السياسي الجبهة القومية في عدن 2 _ 6 آذار 1972م. الذي اعتبر مبدأ التطهير أحد أهم المبادئ التنظيمية، وهذا صك لتصفية وإبعاد كل من سيقف أمام تنفيذ استراتيجيته في يمننة الجنوب...

وقد كان سعيه لتهيئة الجنوب إلى الوحدة مع الشمال وخلق وعي جمعي بأنه جزء من الشمال ينبغي أن يسعى وفق خطط مدروسة للانضمام بل الالتحاق مع الشمال منذ وقت مبكر، برز بصورة واضحة منذ المؤتمر التوحيدي للفصائل الثلاث المشار إليهن سابقًا في عام 1975م الذي استمرت المشاورات بذات الصدد منذ عام 1970م حينما كان يتحدث بنبرة الشطر الذي لا يستقيم ولا يمكن أن يكون له وجود إلا بالالتحاق بالآخر، فقال: إن الوحدة اليمنية هي التعبير الأمين والصادق للمصالح المادية والروحية لأوسع جماهير شعبنا اليمني، وإنها التعبير الصادق والأمين لمبادئ وأهداف ثورتي سبتمبر(أيلول) وأكتوبر(تشرين الأول) ولا بد من مواصلة العمل الدؤوب بهذا الاتجاه. 

وبيَّن أن من يسعى إلى الوحدة بالقوة فأنه يمتلك مفاهيم عدائية، وهي نظرة فاشية، لا يمكن أن تعبر عن الإرادة الحرة لشعبه، وهي دعوة تلتقي مع دعوة الرجعية اليمنية، وهو مفهوم غريب لا يمت إلى التفكير العلمي بصلة، ويجرد قضية شعبنا من محتواها الوطني والثوري والديمقراطي، وهذا النقد لاشك أنه موجه إلى سالم ربيع علي الذي كان يهدد بهذا الاتجاه كي ينأى بالجنوب عما يخطط له، وهو تطويره واستقلاله التام دون السعي إلى الوحدة مع الشمال وهو ضمن الاتهامات الموجهة له من عبدالفتاح إسماعيل أيضًا، ولهذا كان يقدم تنظيراته لهذا الاتجاه وضده، فقال في هذا المؤتمر أيضًا: إن دعاة بناء الدولة والحزب الطليعي والاشتراكية في شطر واحد من الإقليم... فإننا نعتقد وبمسؤولية ثورية أن أي إنسان له صلة وعلاقة بالفكر الاشتراكي العلمي لا يمكن أن يدحض ذلك الطرح، فمن يطرح قضية وحدة الطبقة العاملة استنادًا إلى مبدأ الأممية البروليتارية ويضع قضية الوطن ووحدته جانبًا إنما يمارس أرقى أنواع الابتذال للفكر الاشتراكي العلمي، وهكذا يتضح تجهيزه التهم لهذا للاتجاه وضده، فقد كان ذكيًّا، ويجيد التنظيرات الإيديولوجية التي تجعل من شعب الجنوب حاملًا لها، ووقودًا لتنفيذ مراميها البعيدة، وهو ما استنتجه علي الصرَّاف، بقوله عنه:

عبدالفتاح إسماعيل عندما تولَّى قيادة الدولة واعتبر حينها(رجلًا حالمًا) اتضح أنه غير قادر على إدارة الدولة من موقعه كمُنظّر إيديولوجي "يقرأ ويكتب شعرًا أكثر مما يصدر قرارات" والرجل لم يكن مكتبيًّا قط كما يجب أن يكون "رجل الدولة الحقيقي".

فقد كان يشتغل على تكييف الشعب وقياداته مع توجهه الاستراتيجي في السعي إلى الوحدة بطريقة لن يكون فيها شعب الجنوب إلا تابعًا ومدافعًا عن الوحدة التي سيسلب فيها هويته ومقدراته وثروته، وهو ما وصل إليه شعب الجنوب بالفعل في عام 1990م كما أراد له عبدالفتاح أن يصل، وفق استراتيجيته التي رسمها بعناية وسخر لها كل الإمكانات من تعبئة الوعي الجمعي وتشظي المجتمع الجنوبي، ورغم أنه مات كما كان يخاطب سالمين إلا أن الحزب ظل، والتوجه ظل، والاستراتيجية التي رسمها للجنوب سارت كما خطط لها بعد وفاته. فهل يتعظ شعب الجنوب، وهل ستتلافى قيادات المرحلة ما بقى من جسد ممزق، لترممه وتسير فيه نحو الاستقلالية، التي ستحتاج إلى خطوتين لاستعادة الهوية وخطوة لاستعادة الدولة. 

 

 

 

المصادر والمراجع 

ملاحظة: هذا الدور لعبدالفتاح إسماعيل في الجسد الجنوبي، مأخوذ من المراجع الآتية:

1_ اليمن الجنوبي، الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة، علي الصرَّاف، رياض الريس للكتب والنشر، لندن ـ قبرص، ط1، نيسان/ إبريل 1992م.

2_ كتابات مختارة، المجلد الأول، حول الثورة الوطنية المختارة وآفاقها الاشتراكية، عبدالفتاح إسماعيل، دار الفارابي 1979م.

3_ ملحق خاص بمناسبة اليوبيل الذهبي ال 50 لثورة 14 أكتوبر، الأربعاء 4 ذو الحجة 1434هـ، 19 أكتوبر 2013م، العدد 17856.

4_ جلسات خاصة مع بعض الأساتذة بعد انتهاء المحاضرات في دراسة التمهيدي للدكتوراه عام 2010 _ 2011م في كلية التربية، جامعة عدن.