فتح نافذة على عالم من الحكايات والأمثال..
كتاب "فلكلور شعبي تكشفات غير مسطورة" ينقذ تراث تعز اليمنية من الضياع
الباحثة معالي المجاهد في كتابها 'تكشفات غير مسطورة في أمثال وأهازيج ومهاجل وأساطير تعز المأثورة' تلقي الضوء على هذا التراث وتوضح دلالاته.
تمتلك اليمن كنزا من الموروث الشعبي فريدا في ثرائه بفنون القول من الحكم والأمثال والأشعار والأغاني والزامل والأهازيج والحكايات والأساطير والرقصات، هذا الكنز يواجه الآن حالة من الانحسار، لأسباب كثيرة لعل أولها عدم حصره وتوثيقه، وكذلك دخول أنماط ثقافية جديدة وافدة على المجتمع اليمني من جانب آخر وكذلك قلة استخدامه من قبل أجيال الشباب، وهجرة الكثير من المثقفين والمعنيين بجمع وتوثيق هذا التراث.. ومن هنا يعد هذا الكتاب للباحثة معالي المجاهد "فلكلور شعبي تكشفات غير مسطورة في أمثال وأهازيج ومهاجل وأساطير 'تعز' المأثورة"، محاولة مهمة ليس فقط لإلقاء الضوء على هذا التراث ولكن لكونه يجمع ويوثق الكثر منه ويوضح دلالاته.
يجمع الكتاب الصادر عن مؤسسة أروقة أهازيج ومهاجل ومقاطع غنائية، حكايات وحواديت "سَماميء" وأمثال وعبارات، أسماء قديمة وأخرى غير شائعة، مصطلحات قديمة من قلب تعز، تقول المجاهد "من غير المبالغة الادعاء بأن اليمن حافظت على موروثها الشعبي لقرون، والسبب وراء ذلك طبيعة البلاد الوعرة التي أبقتها أبعد عن غيرها من الدول عن الغزو الخارجي. حتى أتت العولمة والعلم الحديث الذي ساعد على تدفق الهجرات واندماج الثقافات من كل حدب وصوب. وعلى الرغم من روعة الكثرة والاختلاط بيننا كبشر، إلا أن من الثقافة الحديثة ما تتبرأ من كل ما هو قديم وتُجَرِّم التقاليد الكلامية بصفتها همجية ورَعَوية، بينما تُعَلِّمُ دول أخرى أبناءها التمسك بلهجاتهم المحلية وتفرض على الأجانب إتقان لغاتها المحلية!".
وتضيف "لطالما لاحظت الاختلاف بيني وبين أقراني في المدرسة، ثم في ردود أفعال الناس في المناسبات الاجتماعية والمجالس المختلفة عندما يسمعون لهجتي، فقد كنت لا أتحفظ عن التعبير عن نفسي بالطريقة التي اعتدت عليها في المنزل، لكن ذلك كان يعرضني - ليس بالضرورة للسخرية - أكثر منه للتعليق عن أن كلامي بلديٌ أكثر من اللازم، رغم أني لم أكن أقول كلاما فظًا أو غير لائق، فقط لأن الموضة (الكلامية) المنتشرة حينها ربما اقتضت أن نخاطب بعضنا بعضًا بلهجة عدنية كي يبدو وَقْع كلامنا راقيًا رغم أننا في تعز!.. لم أقتنع بذلك البتّة، وحدث من التجارب ما حدث ورأيت من الأقوام الآخرين ما رأيت من اعتزاز بموروثهم كان تاريخًا أم لغة، ومن قومنا ما يبعث على الامتعاض، خصوصًا المغتربين الذين إذا اغتربوا في الخليج تبرمجت ألسنتهم على لهجتها وعجزوا عن استرداد هويتهم اللغوية طوعًا لا كَرهًا، بينما يتحدث أحفاد الفلسطينيين في أميركا اللهجة الفلاحية لأجدادهم الذين هُجِّروا من البلاد عام 1948، ما جعل القضية الفلسطينية تستمر".
وتوضح المجاهد "زادني تمسكًا بلهجتي البحوث الجدلية التي تقام على مصطلحاتها والتي منها نظريات جنونية تُغيّر مَسرى التاريخ المدوّن الذي نعرفه اليوم، ولن يفهم أحد مدى جدلية هذه البحوث ما لم يكن مضطلعًا بشكل جيد جدًا باللهجة التعزية وينطبق عليهم مدح المتنبي لنفسه عندما قال عن مهارته في صياغة الكلمات 'أنام ملئ جفوني عن شواردها.. ويسهر الخلق جراها ويختصمُ'، وقد لاحظ أحد زملائي السوريين اختلاف اللهجة وقال لي ذات مرة: 'بالمناسبة اللهجة اليمنية بليغة!' مما زاد لدي الدافع أكثر لتدوين ما أعرفه وما تمكّنت من إنقاذه من الأمثلة والحكايا والأهازيج والمصطلحات التعبيرية التي يجهلها كثيرون من الأجيال الشابة بالذات، نقلاً عن ألسنة الجدات اللاتي وصَلنا موروثهن من أمهاتنا وعماتنا وخالاتنا والأقدمين الذين احتفظوا بثقافة جيلهم ولم يسألهم عنها أحد. استوعبت فيما بعد بأنني من القِلَّة المتبقية التي علِمَت بوجود مثل هكذا موروث وبموتنا سيموت كأن لم يكن ويندثر تراث نجا لزمن طويل لا لسبب سوى أنه لم يكن أنيقًا بما فيه الكفاية ليطابق معايير الرقي الآن ربما!!".
وترى أن كتابها هذا يأتي للتعريف باللهجة التعزية، ويشكل خليطًا عشوائيًا من أمثلة بعضها معروف سلفًا لشهرته، وأخرى لم يسمع عنها مخلوق آخر سوى الجدات اللاتي يكثرن الثرثرة بكلمات لا تفهمها ولم تكترث يومًا لأن تكترث!.. لا يعلم الآن سكان تعز بأن لهجتهم تحوي قدرًا هائلاً من الأمثال (ما لم يكن 60 في المئة من اللهجة أمثالاً) وأنه من المستحيل أن يمر النهار دون استخدام مثل أو اثنين كحد أدنى خصوصًا التهكمية منها لِما في أطباع اليمنيين عمومًا من حب للتقريع على سبيل التَّظَرُّف. "لم يكن هذا العمل ليتم - لولا مَنِّ الله تعالى - على أمي وعمتي وأفرادٍ من أسرتي بالصبر على أسئلتي وتطفلي الدائم لهم بطلب المزيد وتصحيح الأخطاء.. فشكر كثير لهم وأحتسبهم جنودًا مشاركين في معركة إنقاذ التراث أو تدوينه. آملة أن يعيش التاريخ فينا إن كان قُدِّر للآثار الشتات بين التجارة غير المشرعة والسرقات، فالشعوب الحية كما يقال قد تمرض لكنها أبدًا لا تموت".
وتدعو المجاهد "سُلاَّن سبأ وأقيال اليمن وغيرهم من المهتمين والقراء في داخل وخارج اليمن إلى جولة تعريفية بتراث تعز (تاعوز، عُدينة، الحالمة)، سائلة المولى أن تكون ضربة ناجحة لبعث المسؤولية لدى سكان العاصمة الثقافية تعز بالعودة إلى الجذور وألا يئدوها لأي سبب كان، كخطوة أولى لاستشراف مجد تراثنا المُستَحقْ. ومن المهم الإشارة إلى أن هناك أمثلة لم أُحَبِّذ إضافتها لِما فيها من مدلولات غير لائقة أو عنصرية أو لا داعي لها، كالمثل الشائع: (اترك التُّرك يتركوك)، وهذا المثل أطول وله صيغة أخرى غير مهذبة وارتأيت ألا داعي له؛ فالكثير من سكان اليمن الآن من أصول تركية. وعلى الرغم من موت الآلاف من الأتراك في الغزو العثماني الأول وكذلك الثاني، إلا أنهم في أول مرة استولوا على عدن كان عبر الغدر بواليها وهذه القصة موجودة في كتاب التاريخ بالمدارس، وقد عُرِف عنهم جفاء الطباع نوعًا بسبب البيئة التي أتوا منها. وتبقى مكانة هذا البلد للأمة الإسلامية كبيرة بغض النظر عن كل شيء ونعلم بأن تركيا بلد ثري بتنوعه ويؤوي الآلاف من الأعراق".
وتتابع "هناك المثل الشائع 'خادم ويراجم' ولا لزوم لهكذا مقولة سوى المزيد من العنصرية لأنه من الواضح بأن بعض الأقوام ليس لهم حق حتى بأن يرموا الأحجار، ونأمل أن يكون طمس بعض المصطلحات بداية لتغيير واقع الجميع في هذا البلد المتهالك الذي - ورغم حاله الميؤوس - مازلنا نؤمن بأن وجهه العابس سيعود يومًا إلى التبسم وليس كفترة متعلقة بحُكم أحدهم، بل بوضعها الريادي كمهد لأرقى الحضارات الإنسانية والتي بدأت منها إنجازات مهدت الطريق لمكتشفات عملاقة في العصر الحديث كناطحات السحاب والجسور واستحداث المدرجات.. إلى آخره من المنجزات التي لا تكفي هذه الورقة لحصر بعضها".
"الخالة نَخَّالة حتى لا هي أخت الأم": لا أدري ما لذي جعل مؤلف هذه المقولة يقولها ولا الأمر الذي جعل الناس يتناقلونها، والمُتعارف عليه أن الخالة بمنزلة الأم كما قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولطالما زَخَرَ الواقع ببيوت مفككة لا تعرف التراحم ولا تنشأ بينها الرابطة الأسرية القائمة على الأخذ والعطاء والمودّة والتوجيه، إلا أن ذلك لا يعطينا الحق من حرمان أولادنا من تربيتهم على الأصول وتعليمهم بأن "الخال والد" والعمة حبيبة والأجداد بركة العائلة والوالدين لا يُعَوَضان.. مع تمنياتي بالعوض الجميل والثواب لمن يعاني الأمَرّين من أهله ولا يحصل على ما يستحق من احترام وحب كاف منهم، وهناك الكثير منهم في أمتنا للأسف.
وتلفت المجاهد إلى أن هناك أمثلة فيها مصطلحات وقعها مؤذ على الأذن مثل "الصرورة إذا فتحة لقفة صاحة 'براز'" دلالة على سوء اختيار الكلمات والحظ العاَثِر في انتقائها، والصرورة هي الحدأة. أيضًا ("يتبرز" ويِمَلْطِطْ) وهوباختصار (يزيد الطين بلة) بعد سوء التصرف، وإذا وُصِف مكان ما، كإحدى غرف المنزل بأنها (براز وريش) دلّ ذلك على شدة اتساخها وغياب الترتيب. وهناك أمثلة من عينة "اليهودي يهودي حتى لوغسلوله بمرق"، دلالة على عدم تغير الطباع مهما كان وقد عُرِف عن اليهود كره المرق وأشكك في ذلك ولا أجد مصدرًا مضمونًا يعطي الأسباب وما أعرفه أن اليهود كانوا جزءًا عاديًا من تراث اليمن وكانوا يشبهون المجتمع المسلم في معظم عاداته وأعرافه ولا تتفشى العنصرية إلا بسبب تفشي الجهل، وإذا وُجِدَت المبررات لها فهذا مجتمع يُعدَم التعايش فيه بين أبناء الجلدة الواحدة أو حتى المعتقد الواحد ولا تنشأ بينه إلا الفُرقَة ويقل فيه التراحم والنماء كما اتضح بعد اندلاع الحرب الأخيرة. أيضًا المثل "سيدي ماعجبوش مُظَفّر" وبقية المثل له تكملة أعتذر عن عدم إضافتها لأنه غير لائق، وقصة المثل مثيرة للاشمئزاز وعلى الأرجح يعرفها كل مُسِنٍ، وإذا اعترى القارئ الفضول فبمقدوره سؤال أحد الأجداد عنه.
وتختم أن مقولات كهذه قد تكون جزءًا من العقلية القديمة والتي ما زالت للأسف مهيمنة حتى اليوم، لكن لا بد لنا من إدراك نقاط ضعف الماضي كي نبتدع كل ما من شأنه معاونتنا على تخطّيه وعيش مستقبل أكثر وعيًا.
عبارات في الألعاب والقُرعة
"سقَطَم بَقَطَم عمتي عِيشة نزلة الوادي تقطف كادي لابن الهادي شعره طَوّل واسقي وامطر وعلى التعكر، يا هاديرة يا ناديرة شلي هذي من جنب آذي ما عاد للمسك والعمبر إلا باذي" ابن الهادي هو "الهادي الرّسِّي" أول الأشراف الذين عاشوا في اليمن ومنه أتت أُسَر آل البيت المعروفة فيها، وجبل التعكر هوالجبل المعروف في إب الذي شق فيه أحد رعايا الملكة أروى من اليهود طريقًا لساقية فيه كي تصل المياه للمدينة بعد أن عرضَت مكافأة لمن يفعل، فعُرِفت بعدها بلقبها الشائع "أروى" لأنها روت الناس بالماء، وكان ثمن المكافأة حياتها بعد أن طلب اليهودي يدها مكافأته على تنفيذ الطلب، فدعت الله بصدقٍ أن يقبض روحها وكانت تلك آخر ليلة لها. يعتبرها البعض شخصًا اتخذ مع الله عهدًا وقد يقدسون ضريحها.
سَماميء قديمة (السُّمَّاءة: الحدوتة)
للأقدمين الحكايا التي يروونها للأطفال للعبرة والتسلية، وحكاياتهم أشد خشونة وأقل تهذيبًا أحيانًا، ومن المعروف أن الإخوة (جِريم) في ألمانيا قاموا بإعادة صياغة القصص التراثية لتناسب الأطفال لكثرة ما فيها من أهوال ومحتويات غير لائقة أو عنيفة.
من الملفت للنظر أن بعض الحكايات التراثية مشابهة في أحداثها للروايات العالمية وهذا يضع سؤالاً محوريًا.. من الذي نقل التراث من الآخر؟ أم هي مجرد مصادفة وقد توجد ذات الحكايات في ثقافات أخرى مع الاختلافات الخاصة بموروث كل شعب وبيئة؟
سماءة القرد والنمر
كان هناك نمر يكره قردًا كرهًا شديدًا ويصفعه بشكل دائم لأنه لا يرتدي قبعة، فيتعنّت له كلما يجده ويحاسبه لأنه لا يلبس القبعة ويهينه بالضرب. اشتكى القرد للأسد وترجاه أن يفهّم النمر بأنه قرد ولا يرتدي القبعات، فتحدث الأسد للنمر والنمر في حالة شكوى بأنه لا يطيق القرد، فنصحه الأسد بمعاقبته بالشكل الصحيح، مثلاً أن يأمره بإعطائه تفاحة، فإن أعطاه تفاحة حمراء يضربه ويقول له بأنه يريدها خضراء وإن أتى بخضراء يخبره بأنه يريدها حمراء وهكذا. فاستحسن النمر الفكرة وأراد تنفيذها وبمجرد أن وجد القرد صرخ به أن يأتيه بتفاحة، فسأله القرد: حمراء أم خضراء؟
هنا، صفعه النمر وصاح: أين القبعة؟!!