تقييم شامل للحقائق وراء الضجة الإعلامية..
تساؤلات حول برنامج الصواريخ الإيراني: هل هي قوة استراتيجية أم مجرد دعاية؟
ردت طهران على الهجوم الذي استهدف قنصليتها في دمشق ببيان رسمي يعكس تراجعاً ملحوظاً في قدراتها العسكرية والدبلوماسية. وقد أثار هذا الرد تساؤلات حول مدى فعالية النظام الإيراني في حماية مصالحه في منطقة تزداد فيها التوترات.
في أعقاب اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في العاصمة طهران، هددت إيران بالانتقام من خلال تنفيذ هجمات ضد إسرائيل. يُعَدُّ برنامجها الصاروخي، الذي تروج له طهران باعتباره أحد أبرز قدراتها العسكرية، أحد الخيارات المتاحة للرد. إلا أن هناك تساؤلات تبرز حول مدى فعالية هذا البرنامج وقدرته على تحقيق الأهداف المرجوة، في ظل الأحداث الأخيرة التي تثير القلق بشأن قدرات إيران الحقيقية.
وكان البرنامج ركيزة هجوم إيران غير المسبوق بالطائرات المسيّرة والصواريخ على إسرائيل في أبريل، وأصبحت أول دولة تطلق مثل هذا الوابل منذ أن وجّه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين صواريخ سكود إلى إسرائيل في حرب الخليج سنة 1991.
لكن الكثير من الصواريخ الإيرانية لم يبلغ أهدافه. ويُذكر أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة أسقط العديد منها، بينما فشل بعضها الآخر على ما يبدو عند الإطلاق أو تحطم أثناء الطيران. وبدا أن تلك التي وصلت إسرائيل أخطأت أهدافها.
ويشير تقرير جديد أعده خبراء وشاركوه حصريا مع وكالة أسوشيتد برس إلى أن أحد أكثر صواريخ طهران تقدما يبقى أقل دقة بكثير ممّا كان يُعتقد سابقا.
وقال سام لير، الباحث المشارك في مركز جيمس مارتن لدراسات منع انتشار أسلحة الدمار الشامل الذي عمل على التحليل، إن هجوم أبريل أظهر “بعض القدرة على ضرب إسرائيل. لكنني كنت سأشعر بخيبة أمل لو كنت المرشد الأعلى”.
وأضاف لير أنه إذا لم تكن الصواريخ الإيرانية قادرة على ضرب أهداف محددة “فإن ذلك يعيد صياغة دورها”. ويرى أنها لم تعد ذات قيمة في العمليات العسكرية التقليدية. ولكنه يعتبر أنها قد تكون أكثر قيمة كأسلحة إرهابية.
وطرح مثال إطلاق الصواريخ المضايقة على المدن في الحرب الإيرانية – العراقية في الثمانينات، عندما تمكنت إيران من إطلاق مجموعة متنوعة من القذائف على مدينة كبيرة وأملت أن تحقق بعضها الخسائر المرجوة.
وكررت إيران تعهداتها بالانتقام لمقتل إسماعيل هنية. ويشتبه على نطاق واسع بأن إسرائيل نفذت عملية الاغتيال، لكنها لم تتبنّها بعد.
واعترف المرشد الأعلى علي خامنئي ضمنيا بفشل البلاد في ضرب أيّ هدف مهم في إسرائيل.
وقال إن المناقشات التي يجريها الطرف الآخر حول عدد الصواريخ التي أطلقت وعدد التي أصابت الهدف وعدد التي لم تصب تعدّ من الأمور ذات الأهمية الثانوية. واعتبر أن القضية الرئيسية تكمن في بروز الأمة الإيرانية والجيش الإيراني على الساحة الدولية.
وابل من الصواريخ
كان الانتقام متوقعا لعدة أيام من إصابة غارة إسرائيلية مشتبه بها في 1 أبريل مجمع السفارة الإيرانية في دمشق. وأسفر هذا الهجوم عن مقتل جنرالين إيرانيين وخمسة ضباط، إضافة إلى عضو في ميليشيا حزب الله الشيعية اللبنانية.
وأظهرت لقطات بثها التلفزيون الحكومي أن هجوم إيران في 13 أبريل بدأ بمكالمة هاتفية جمعت القائد العام للحرس الثوري حسين سلامي مع قائد القوات الجوفضائية في الحرس الثوري العميد أمير علي حاجي زاده. وأمر بإطلاق “عملية ‘الوعد الصّادق’ ضد قواعد النظام الصهيوني”.
وبينما كانت الصواريخ تتجه نحو السماء، توقف الناس في جميع أنحاء إيران عمّا كانوا يفعلونه ووجهوا هواتفهم المحمولة إليها من سياراتهم وشرفات منازلهم. وأبرزت مقاطع الفيديو وجود مواقع إطلاق متعددة، بما في ذلك على مشارف أراك وهمدان وأصفهان وكرمانشاه وشيراز وتبريز وطهران.
وأظهرت لقطات نُشرت لاحقا على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي العسكرية الموالية لإيران صواريخ تنطلق من قاذفات متحركة محمولة في الشاحنات. وانطلقت من الحوامل المعدنية طائرات شاهد الإيرانية المسيّرة الحاملة للقنابل، وهي نفسها التي تستخدمها روسيا على نطاق واسع في حربها على أوكرانيا. وكان صوت محركاتها يشبه جزازات العشب بينما تحركت في سماء الليل. وأطلِق بعضها من شاحنات صغيرة تتسابق على مدارج الطائرات.
وذكر تحليل أجراه مشروع ويسكونسن للحد من الأسلحة النووية أن الطائرات دون طيار مثلثة الشكل تحركت أولا، واستغرقت ساعات للوصول إلى أهدافها. ثم جاءت صواريخ كروز باوه التي استغرقت وقتا أقصر، وأخيرا صواريخ عماد وقدر وخيبر شيكان الباليستية التي احتاجت إلى دقائق. كما أطلق الحوثيون طائرات مسيّرة وصواريخ.
وقدّر مسؤولون إسرائيليون أن إيران أطلقت 170 طائرة دون طيار و30 صاروخ كروز و120 صاروخا باليستيا.
وأسقطت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والأردن عددا من الصواريخ. وذكر الأميركيون أنهم أسقطوا 80 طائرة دون طيار تحمل قنابل وما لا يقل عن ستة صواريخ باليستية. كما تقرّر تفعيل الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية، لكن ادعاء تل أبيب الأوّلي باعتراض 99 في المئة من القذائف بدا مبالغا فيه.
وقال فابيان هينز، خبير الصواريخ وزميل الأبحاث في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية الذي يدرس إيران، إنه من الواضح جدا أن الهجوم “لم يكن رمزيا ولم يحاول تجنب الضرر”. واعتبر العملية “محاولة كبيرة لتجاوز الدفاعات الإسرائيلية”.
وقال مسؤولون أميركيون، تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هويتهم، إنهم قدّروا أن 50 في المئة من الصواريخ الإيرانية فشلت عند الإطلاق أو تحطمت قبل بلوغ هدفها.
دقة محدودة
دقق محللون في مركز جيمس مارتن لدراسات منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في الغارة التي شُنّت على قاعدة نيفاتيم الجوية على بعد حوالي 65 كيلومترا جنوب القدس في صحراء النقب. ويُذكر أن خبراء المركز درسوا منذ فترة طويلة إيران وبرنامج صواريخها الباليستية.
وأصبحت القاعدة موضع تركيز فوري بعد الضربة الإسرائيلية المشتبه بها على القنصلية الإيرانية في سوريا. وقال السفير الإيراني في سوريا، حسين أكبري، إن طائرات إف – 35 آي الإسرائيلية الموجودة في نيفاتيم نفذت الغارة.
كما برزت القاعدة الجوية في الدعاية العسكرية الإيرانية. وبث التلفزيون الرسمي الإيراني لقطات في فبراير لاختبار للحرس الثوري استهدف نموذجا يشبه حظائر طائرات إف – 35 آي في نيفاتيم. ودمرت الصواريخ الباليستية، بما في ذلك بعض الأنواع المستخدمة في هجوم أبريل على إسرائيل، النموذج المعتمد.
وأبرزت صور الأقمار الصناعية واللقطات التي نشرها الجيش الإسرائيلي أن أربعة صواريخ إيرانية على الأقل أصابت نيفاتيم خلال الهجوم.
وقال المحللون إن الحطام الوحيد الذي أمكن العثور عليه في المنطقة (الذي جُمع من البحر الميت) يشير إلى أن إيران استخدمت صواريخ “عماد” لاستهداف نيفاتيم. ويعدّ صاروخ “عماد” الذي يعمل بالوقود السائل مختلفا عن صاروخ “شهاب 3” المبني من تصميم كوري شمالي يبلغ مداه ألفي كيلومتر. وقال المحللون إن هذا يشير إلى أن احتمال إطلاق “عماد” من منطقة شيراز، التي تقع ضمن الحدود المقدرة لقدرات الصاروخ المحتملة.
ولاحظ محللو جيمس مارتن تركيز إيران على طائرات إف – 35 آي، وافترضوا أن الهدف المحتمل للنيران الإيرانية سيكون مجموعة من حظائر الطائرات. ويعدّ الموقع كذلك نقطة شبه مركزية داخل قاعدة نيفاتيم نفسها.
وقال لير إن هذا يوفر “هدفا أكثر قيمة” من مجرد “إحداث ثقوب في المدرج”. لكن الصواريخ الإيرانية لم تصب تلك الحظائر مباشرة.
وعمل محللو جيمس مارتن على قياس المسافة بين حظائر الطائرات ومناطق تأثير الصواريخ بافتراض أن إيران استهدفتها. وحدد ذلك في المتوسط حوالي 1.2 كيلومتر من “الخطأ الدائري المحتمل”، وهو مؤشر يعتمده الخبراء لتحديد دقة السلاح بناء على شعاع الدائرة التي تشمل 50 في المئة من مكان سقوط الصواريخ.
وكانت النتائج أسوأ بكثير من دائرة الخطأ التي تبلغ 500 متر والتي قدرها خبراء “عماد” لأول مرة. وبعد انتهاء حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على إيران في 2020، أعلنت طهران عن طرح “عماد” للمشترين الدوليين المحتملين بدائرة خطأ تبلغ 50 مترا. وقال هينز إن هذا كان عددا يتماشى مع المواصفات الصاروخية العليا للأنظمة المنتشرة في أماكن أخرى.
لكن نتائج هجوم أبريل لم تكن قريبة من هذه الدقة.
وقال لير إن “هذا يعني أن صواريخ عماد تعدّ أقل دقة بكثير مما أشارت إليه التقديرات السابقة. ويشير هذا بدوره إلى كون الإيرانيين متأخرين جيلا كاملا، حيث اعتقدت التقييمات السابقة أن صواريخ عماد كانت دقيقة”.
وقد يرجع الأداء الضعيف لتدابير الحرب الإلكترونية المصممة لإرباك نظام توجيه الصاروخ، إضافة إلى التخريب المحتمل وتصميم الصاروخ السيء وبعد الهدف.
اتخذت التهديدات الإيرانية بالانتقام من إسرائيل في الماضي عادة شكل هجمات تشنها القوات المدعومة من إيران في الشرق الأوسط أو هجمات تستهدف أهدافا إسرائيلية في أماكن أخرى، مثل السفارات أو السياح خارج البلاد.
وتحد الجغرافيا من خيارات الهجوم العسكري الإيراني المباشر. حيث لا تشترك إيران في أيّ حدود مع إسرائيل، ويفصل بين البلدين حوالي ألف كيلومتر في أقصر مسافة.
ويعتمد سلاح الجو الإيراني أسطولا قديما بقيادة طائرات مقاتلة من طراز غرومان إف – 14 توم كات وميكويان ميج – 29 من الحرب الباردة. ولن تكون بهذا خصما مكافئا لطائرات إف – 35 الإسرائيلية ودفاعاتها الجوية.
وهذا ما يعني أن إيران ستحتاج مرة أخرى إلى الاعتماد على الصواريخ والطائرات دون طيار بعيدة المدى.
كما يمكنها تلقّي مساعدة من الميليشيات المتحالفة معها مثل حزب الله اللبناني والمتمردين الحوثيين في اليمن للتغلب على الدفاعات الإسرائيلية. ويُذكر أن إسرائيل وحزب الله تبادلا إطلاق نار كثيف في 25 أغسطس.
ودائما ما يكون خطر قدرة طهران على تطوير سلاح نووي حاضرا في الخلفية، وهو تهديد كرره المسؤولون الإيرانيون خلال الأشهر الأخيرة. وتصر إيران على أن برنامجها النووي سلمي. لكن وكالات المخابرات الغربية والوكالة الدولية للطاقة الذرية تقولان إن طهران اعتمدت برنامجا نوويا عسكريا منظما حتى 2003.
وقالت وكالات المخابرات الأميركية في تقرير في يوليو إن إيران مارست أنشطة تتيح لها إنتاج سلاح نووي إذا اختارت ذلك. لكنها أشارت إلى أن بناء سلاح وتصغيره لوضعه على صاروخ باليستي قد يستغرق سنوات.
وقال التقرير الصادر عن مدير الاستخبارات الوطنية أن “لإيران أكبر مخزون من الصواريخ الباليستية في المنطقة وتواصل التأكيد على تحسين دقة هذه الأنظمة وفتكها وموثوقيتها. وقد تدمج إيران اليوم الدروس المستفادة” من هجوم أبريل.