"مرآة للاغتراب السياسي والاجتماعي"..

قصائد الغربة: كيف يعبر الشاعر اليمني عبد الله البردوني عن شعور الانفصال؟

"في شعر البردوني، يتجلى الاغتراب من خلال تصويره العميق للصراع الداخلي والفوضى السياسية والاجتماعية. يُظهر الشاعر كيف يمكن للأفراد أن يشعروا بالانفصال عن أوطانهم، مما يعكس تجربة شخصية عميقة تتقاطع مع الظروف الجماعية للأمة."

الشاعر اليمني الراحل عبدالله البردوني - أرشيف

د. صبري عفيف
كاتب وباحث في الشؤون السياسية والأمنية، نائب رئيس التحرير ورئيس قسم البحوث والدراسات في مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات،
صنعاء

 الملخص: تناول هذا البحث تجليات الاغتراب في شعر الشاعر اليمني الكبير عبد الله البردوني، حيث يستكشف البحث جذور هذا الشعور المعقد وتجلياته في قصائد البردوني. يبدأ البحث بتعريف لمفهوم الاغتراب، مستعرضًا معانيه اللغوية والفلسفية والنفسية. ثم ينتقل إلى تتبع جذور الاغتراب في الأدب العربي، مع التركيز على تجارب الشعراء العرب الذين عانوا من الغربة والاغتراب في أوطانهم. 

يركز الجزء الأكبر من الدراسة على تحليل شعر البردوني وكشف عن جوانب الاغتراب المتعددة التي يعبر عنها، مثل الاغتراب السياسي والاجتماعي والنفسي والمكاني. يستخدم الباحث أمثلة من قصائد البردوني لتوضيح كيف استطاع الشاعر أن يعبر عن تجربته الخاصة بالاغتراب، وكيف ربطها بالواقع السياسي والاجتماعي الذي عاش فيه.

تتناول الدراسة أيضًا دور اللغة والأسلوب الشعري في نقل تجربة الاغتراب، حيث يستعرض الباحث بعضًا من الأجهزة الأدبية التي استخدمها البردوني، مثل التكرار والتضاد والاستعارة، لتعميق معنى الاغتراب.

 

Abstract:

 

This research deals with the manifestations of alienation in the poetry of the great Yemeni poet Abdullah Al-Bardouni, as the research explores the roots of this complex feeling and its manifestations in Al-Bardouni's poems. The research begins with a definition of the concept of alienation, reviewing its linguistic, philosophical and psychological meanings. It then moves on to trace the roots of alienation in Arabic literature, focusing on the experiences of Arab poets who suffered from alienation and estrangement in their homelands.

The largest part of the study focuses on analyzing Al-Bardouni's poetry and revealing the various aspects of alienation that it expresses, such as political, social, psychological and spatial alienation. The researcher uses examples from Al-Bardouni's poems to illustrate how the poet was able to express his own experience of alienation, and how he linked it to the political and social reality in which he lived.

 The study also addresses the role of language and poetic style in conveying the experience of alienation, as the researcher reviews some of the literary devices used by Al-Bardouni, such as repetition, contrast, and metaphor, to deepen the meaning of alienation.

  • المقدمة:

لشعر الغربة والحنين والاغتراب مكانة واسعة في الشعر العربي، فمنذ عصر ما قبل الإسلام إلى يومنا هذا، يكاد شعراء العربية لا يخلو شعر شاعر منهم من تجربة الاغتراب بمعنييها الحسي والمعنوي؛ أي معاناة البعد عن الوطن ومقاساة الاستلاب في الإرادة والحرية والتفكير، أو الاغتراب عن الروح والشعور الحاد بالعدمية والانسحاق والعجز عن مواجهة الظروف القاهرة.

ويبدو أن مشاعر الغربة والحنين والاغتراب قَدَرُ الشعراء، لا يستطيع أحد منهم الفكاك عنها، حتى أصبحت من الأغراض المشتركة بين الشعراء جميعًا على امتداد تاريخ الشعر، ولا يتميز شاعر عن آخر إلا بجودة إيراد المعنى أو اختلاف رؤية الشاعر ووجهته الاغترابية. 

ولعل شعراء العصر الحديث والمعاصر أعلى جودة في تصوير مشاعر الغربة والحزن والحنين والاغتراب؛ نتيجة اختلاف مذاهبهم وتعدد بواعث اغترابهم، ولم يكن الشعراء اليمنيون بمنأى عن هذه التجربة، بل كان لها حضور كبير في أشعارهم. 

ومن أهم هذه التجارب تجربة الشاعر عبد الله البردوني الذي مثل الاغتراب في شعره موضوعًا أساسيًّا تتمحور حوله معظم الموضوعات الشعرية الأخرى، وربما تميز بخصائص وسمات أسلوبية قلما نجدها في الشعر الذي لا يتناول تجربة الغربة والاغتراب.

ومما سبق تناولنا في هذا المبحث مجموعة من القصائد البردوني الشعرية، اخترناها من موضوعات الاغتراب السياسي في شعر عبدالله البردوني، وقد حرصنا على أن تمثِّل تلك القصائدُ تجليات الاغتراب السياسي في شعر البردوني.

وقد احتوى هذا المبحث على مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة وثبت لأهم المصادر والمراجع التي استقينا منها أساسيات هذا البحث. 

المطلب الأول: 

مفهوم الاغتراب

أجمعت معاجم اللغة العربية على أن مادة (غَرَبَ) وما اشتق منها تدل على (النوى والبعد والنفي والتنحي والنزوح عن الوطن والغياب والطلاق والغموض في الكلام والمبالغة والتفرد البعد والمفارقة والتباين أو الانفصال والتفرد والاستحالة عن شيء آخر وعدم وجود النظير)([1]). ويقابل هذه الكلمة في اللغة الانجليزية (Alienation)، والفرنسية (Alienation) وأصلها من الكلمة اللاتينية ((Alienatio، وتعني تحويل شيء ما إلى شيء آخر أو الانتزاع والإزالة([2])، وقد استخدمت كلمة (اغتراب) للدلالة على أربع معانٍ هي:

1- نقل ملكية شيء إلى شخص آخر تطوعًا (التخلي).

2- نزع الملكية وتحويلها إلى آخر (الاستلاب).

3- انفصال شخص عن آخر وتحوُّله إلى موضوع غريب عنه (الانفصال).

4- اضطراب عقلي وغياب الوعي (الضياع)([3]).

ولقد ترددننا كثيرًا حال اختيارنا مفردة (الاغتراب) بدلا من مفردة (الغربة)؛ نتيجة لتقارب المعنيين وتمحورهما حول تجربة شعرية واحدة، وعدم توصل الدراسات السابقة التي تناولت هذين المعنيين إلى وضع تحديد دقيق يفرق بينهما، ولكنّا ما شرعنا في البحث عن دلالات الغربة والاغتراب حتى أحسسنا أن مدلول الاغتراب أوسع وأشمل من مدلول الغربة، لهذا فقد كان سبب اختيارنا للكلمة البديلة هو الابتعاد عن إيحاءات الغربة المادية أو الحسية؛ أي معاناة البعد والنزوح عن الوطن، وهذا لا يعني أن تجربة الغربة تأتي بمعزل عن الاغتراب، بل هي جزء منه، فالاغتراب يجمع بواعث الغربة والاغتراب ومظاهرهما معا، ويشمل الاغتراب بمعنييه الحسي والمعنوي؛ أي معاناة البعد عن الوطن ومقاساة الاستلاب في الإرادة والحرية والتفكير والشعور بالعدمية والضياع والانسحاق والعجز عن مواجهة الظروف القاهرة.

وقد تأكد لنا شمول هذا المفهوم بعد الاطلاع على عدد من التحديدات الفلسفية والاجتماعية والنفسية لمفهوم الاغتراب، فأقرب هذه التعريفات التي تصف الواقع الاغترابي تكمن في اجتهادات (هيجل) الذي يرى أن الاغتراب هو عدم تعرف الإنسان على ذاته وعلى العالم الذي يحيط به، والاغتراب حالة من العجز التي يعانيها الإنسان عندما يفقد القدرة على تقرير مصيره والتأثير في مجرى الأحداث التاريخية، وهو على مستوى أصغر مكونات مجتمعه([4]). وهذا التعريف يؤكده (هايدجر) الذي يرى أن وجود الإنسان يكون أصيلا بقدر ما يختار ويصنع قراراته بنفسه([5]).

ويعد أوّل من بسّط القول في هذا المصطلح هو الفليسوف الألماني (هيجل) الذي ميّز بين أنواع الاغتراب: الاغتراب عن المجتمع، والاغتراب عن الذات، والاغتراب عن الوجود. وقد استخدمت كلمة الاغتراب في العلاقات الإنسانية لتدل على الإحساس الذاتي بالغربة أو الانسلاخ والانفصال وفقدان السلطة سواء عن الذات أو عن الآخرين([6]).

ويعرف بعض الدارسين الاغتراب بأنه "الشعور بفقدان الصلة الأساسية بين عالم الواقع وعالم الحلم، وهو ناتج عن التناقض والتعارض، والتصادم بين الواقع كما هو موجود وبين الحلم كما هو مطلوب، ومن هنا يشعر المرء بوعي هذا التناقض ويغترب روحيًّا عن الواقع؛ نتيجة وعيه بزيف الواقع، وفي محاولة لإعادة هذه العلاقة المفقودة"([7]).

ويعرفه (فروم) بأنّه "تلك الحالة التي لا يشعر فيها الإنسان بأنّه المالك الحقيقي لثرواته وطاقاته، بل يشعر بأنّه كائن ضعيف يعتمد كيانه على وجود قوى خارجية لا تمت لذاتيته"([8]). ومعظم الدراسات المعاصرة التي تتناول مفهوم الاغتراب تتفق على أنّه يتمثّل في العجز والعزلة واللامعيارية وفقدان المعنى أو المغزى مستندين في هذا التقسيم إلى تصنيفات (Melven) ففي مقال له عن مفهوم الاغتراب مّيز فيه بين خمسة استخدامات لهذا المصطلح، وهي تصنيفات ذات أبعاد (نفسية اجتماعية)([9]):

1- العجز أو الفقدان (powerlessness):

العجز أو الفقدان: هو إحساس الفرد بفقدان القدرة على التأثير في المواقف الاجتماعية التي تواجهه، ويعجز عن السيطرة على تصرفاته وأفعاله ورغباته، ولا يستطيع أن يقرر مصيره، ومن ثم يعجز عن تحقيق ذاته فيشعر بحالة من الاستلاب والاستسلام والخنوع، ويؤدي العجز والفقدان إلى اغتراب في الوجود المستقل، فيلجأ إلى الاعتماد على الآخرين من أجل الحصول على الوسائل التي من خلالها يؤكد استقلاليته وتنميته، ولكن عندما يحصل على غير ذلك يفقد استقلاله ووجوده المستقل إذ أصبح موجودًا لا بذاته ولكن بغيره([10]).

2- اللامعيارية أو انعدام المعايير normlessness)):

وهي الحالة التي يتوقع فيها الفرد بدرجة كبيرة أن أشكال السلوك التي أصبحت مرفوضة اجتماعيًّا غدت مقبولة تجاه أهداف محددة؛ أي أن الأشياء لم يعد لها أية ضوابط معيارية، ما كان خطأ أصبح صوابًا، وما كان صوابًا أصبح يُنظر إليه باعتباره خطأ، من منطلق إضفاء صبغة الشرعية على المصلحة الذاتية للفرد وحجبها عن المعايير وقواعد وقوانين المجتمع([11]).

3- العزلة الاجتماعية (social isolation):

ويقصد بها عزلة الفرد عن المجتمع وثقافته العامة، أو عدم شعوره بالانتماء إليه والتكيف معه، فينشأ عنده الشعور الوحدة والوحشة والفراغ والانعزال النفسي، والافتقاد إلى الأمن والعلاقات الاجتماعية والعاطفية، وهذا الإحساس بالبعد عن الآخرين يصاحبه العزلة والرفض الاجتماعي، والانعزال عن الأهداف الثقافية للمجتمع([12]).

4- فقدان المعنى أو انعدام المغزى ((meaninglessness:

وهو شعور الفرد بأن الحياة لا معنى لها لأنها تسير وفق منطق غير مفهوم وغير معقول، حينئذ يشعر الفرد بأن قيمه الخاصة تناقض قيم المجتمع الذي يعيش فيه وأنه عاجز عن إحداث أي تغيير إيجابي في حياته، وعن القيام بإنجازات حقيقية تعبر عما يعتقد أنه قيمة من القيم الأساسية([13]), وهذا الشعور يجعل الذات تحس بعدم وجود مغزى حقيقي للأشياء التي تحدث أمامه أو للأعمال التي يقوم بها.

5- الاغتراب عن الذات([14])(self- estrangement) :

وهو الشعور بعدم التكيف مع الواقع الذي يعيش فيه الفرد، فيتولد لديه شعور بعدم الثقة وغياب الإحساس بالتماسك والتكامل الداخلي في الذات، ويعني "إقصاء أو إبعاد الأفراد عن ذواتهم  وعن الآخرين"([15])، وهو أشد أنواع الاغتراب؛ لأن الإنسان فيه يغترب عن نفسه، فهو لا يحتمل العيش وحيدًا، وعندما لا يستطيع استئصال الهوة الناشئة بين نفسه  ومجتمعه المنفصل عنه يحس بأنه  يتحول إلى آلة بشرية. فالاغتراب عن الذات من خلال طبيعة الإنسان الجوهرية هو نتيجة طبيعية عندما ينسلخ الفرد عن البنية الاجتماعية، ولما كان الفرد في الأصل متطابقًا مع البنية الاجتماعية الكلية فإن اغترابه عنها هو الاغتراب عن ذاته؛ لأن التطابق مع المجتمع هو الذي يكفل له التوازن، فإذا اغترب عن المجتمع اغترب في الحقيقة عن ذاته الجوهرية.

المطلب الثاني:

 الاغتراب في الأدب العربي 

إن الناظر في تجربة الاغتراب يرى أنها ارتبطت بالإنسان ارتباطاً وثيقاً فمنذُ أن انفصل عن عالمه العُلوي وهو يحمل بين جوانبه الإحساس بالغربة والوحشة والاغتراب، ومن ثّم تعددت بواعثه واختلفت أنماطه، وأصبح ظاهرة تتجلى عند الأفراد والشعوب ولم ترتبط بزمن معين إلا أنها تزداد في فترات عدم الاستقرار، وكثرة الاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد فرضت هذه الظاهرة نفسها على كثير من الدراسات الفلسفية والأدبية والفنية والبحوث الاجتماعية([16]).

إن الإنسان المغترب دائما ما يكون في صراع مع نفسه ومجتمعه الذي يحيط به، فهو يبحث عن مثال يحمل صفات المرجعية الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية التي تتوق إليها الذات المغتربة، وعندما لا تجد الذات ذلك المثال الذي رسمته في مخيلتها يتولّد شعور حاد بالاغتراب، فتحلّق الذات المغتربة في الماضي والحاضر والمستقبل تنشد ذلك المثال. وتترد هذه الظاهرة بكثرة عند المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء والمصلحين الذين يحملون هموم الإنسانية، وعلى الرغم من أن المغترب معتد بنفسه، متحمل مسؤوليته الكبيرة التي تفوق الطاقة الإنسانية أحيانًا؛ نتيجة طموحه العالي؛ فإنه يشعر بغربته بين الناس مع أنّه يحمل عبئهم بفكره ونضاله وجهده وجهاده الدائم لإدخال السعادة إلى قلوب الآخرين([17]).

وظاهرة الغربة والاغتراب والبوح بهما ليست جديدة على الشعر العربي الحديث والمعاصر، وإنما هي تليدة بتلادة الشعر والرحيل إذ ما خلا شعر عصر من صور الرحيل ومن توجع الغربة والاشتياق إليها والأمل فيها([18])، وأصبح "شعر الاغتراب لونًا واضح القسمات مثل شعر الغزل وشعر الرثاء وشعر المديح وشعر الفخر، بل لعلّه يتميّز بملامح قلما نجدها في لون من الألوان الأخرى"([19])، ففي الشعر الجاهلي وردت مفردة الاغتراب بمعنى النوى والبعد عن الوطن، وقد تجسد هذه المعنى في مطالع قصائدهم، وأبرز الشعراء العرب الذين تغربوا في أوطانهم (أغربة العرب)، كعنترة بن شداد، وخفاف بن ندبة السلمي، وأبي عمير بن الحباب، والسليك بن السلكة، و(الأدعياء والخلعاء)، كامرئ القيس والشنفرى والحطيئة، و(الفقراء والصعاليك)، كعروة بن الورد وتأبط شرًّا, و(السجناء والأسرى)، كعدي بن زيد والمنخَّل اليشكري وعبد يغوث الحارثي([20])، فمعظم هؤلاء الشعراء تغربوا اجتماعيًّا وسياسيًّا وعاطفيًّا واقتصاديًّا.

وإذا نظرنا إلى عصر صدر الإسلام نجد أن هذه الظاهرة كادت تختفي عند أغلب الشعراء؛ نتيجة للتحول الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري الذي أحدثه الإسلام، لكن هذا الاستقرار الذي اتسم به عصر صدر الإسلام لم يدم طويلا، إذ سرعان ما تجددت ظاهرة الاغتراب بشكل أوسع، ولا سيما في العصر الأموي؛ فقد  كان للأحداث السياسية دور كبير في تجلي  شعر الغربة والحنين والاغتراب، وأصبح  يشكل ظاهرة كبرى اتسم بها ذلك العصر، فقد عانى معظم  الشعراء المناوئين للحكم الأموي – العلويّين والخوارج والزبيريين - الاغتراب السياسي والاجتماعي والمكاني والفكري، كما تجسد الاغتراب العاطفي في ظاهرة الشعر العذري([21]).

وامتدّ شعر الاغتراب في الاتساع شرقًا وغربًا، ليشمل العصر العباسي والأندلسي والعثماني والمملوكي، فتعددت أنماطه وبواعثه ومظاهره، فقد عانى شعراء ذلك العصر اغترابات متعددة: مكانية وسياسية واجتماعية ودينية وفكرية، فأبرز من تغرب من الشعراء في تلك المراحل التاريخية هم: أبو الطيب المتنبي والعباس بن الأحنف وأبو العلاء المعري والشريف الرضي وأبو فراس الحمداني وأبو البقاء الرندي وابن زيدون وشمس الدين الكوفي، فكان لكلّ واحد منهم عالمه الاغترابي الخاص([22]).

المطلب الثالث:

تجليات الاغتراب السياسي في شعر البردوني 

إذا نظرنا في الشعر العربي الحديث والمعاصر فسنجد أن مشاعر الحزن والحنين والغربة والاغتراب هي أبرز الموضوعات الشعرية التي تناولها؛ لعدّة بواعث: سياسية واقتصادية وعاطفية واجتماعية ونفسية وروحية وثقافية([23]). ويعد الشاعر عبد الله البردوني أبرز الذين مثلوا هذه الظاهرة، فقد كان ذا إحساس مرهف في تحمّل قضايا واغترابات أمته وهمومه، فاغترابه لم يكن نزوحًا عن الوطن أو مفارقة للأهل والأحباب والسكن، إنما كان اغترابه داخل وطنه وبين أهله ومجتمعه، وكذلك لم يكن اغترابه فرديًّا فحسب، بل كان اغترابًا جمعيَّا وطنيًّا وقوميًّا، فقد ترعرع في مجتمع يعيش تحت وطأة الاستلاب في الحرية والتفكير، وعانى التناقض القيمي بينه وبين مجتمعه الذي يعيش فيه، وتجرّع أقسى أنواع الاغتراب، إذ كان يعطي الأحداث والأشياء التي تحيط به فكرًا وسلوكًا تقييميًّا، لكن غيره ممن ينتمي إلى المرجعية الفكرية نفسها لم يكن كذلك بل ذهب يعمل ضد الذات الباحثة عن مشاعل الحرية والأمل والانعتاق. كل هذه البواعث عمقت الهوة الاغترابية، وأحدثت التنافر بينه وبين الآخر، ونشأ عن ذلك الشعور باللامعيارية والشعور بالعدمية والانسحاق.

وفي البدء "كان البعد ماديًّا, ثم صار يطلق على البعد الفكري والنفسي، وبناء على ذلك يكون لدينا غربتان: مادية ومعنويّة"([24])؛ فالمادية تطلق على شيئين: الحدث والمكان (الغربة الحسّية)، والمعنوية مثل: الغربة الاجتماعيّة, والزمنيّة, والفكريّة, والعاطفيّة, والدينيّة, والنفسيّة، ونفضل تسمية الغربة المعنوية (بالاغتراب)([25]).

لقد استطاع البردوني أن يعبر عن تجربة الاغتراب بألفاظ اختارها بدقة ووضوح، سواء أكانت هذه الألفاظ صريحة كما هو في عنوانات بعض القصائد([26])، أم موحية ومعبرة وموافقة لمقتضى الحال داخل بنية السياق التركيبي. والجدول الآتي يوضح اشتقاقات (الاغتراب) ونسبة ترددها على وفق أنماط الاغتراب في شعره: 

وقد اقترنت مفردة الاغتراب في شعر البردوني بعدة مفردات مثل مفردة (الريح) في قصيدته (سوف تذكرين)([27]) حيث يقول:

وورائي  ذكـــــرى تعَضُّ  يديـها   

   وأمامي طيـــــفٌ كوحـشٍ خرافي

من رآني من أين جئت وأمضي  

    كالصدى كاغترابِ ريحِ الفيافي

تمثَّل المكان الذي تتحرك فيه الذات في ظرفي المكان (وراء - أمام), فوراءه ذكرى مؤلمة وأمامه وحش خرافي، فحركة الذات بينهما لا تؤدي أيَّ معنى, والطباق بين (وراء) و(أمام) خفَّفه السياق بسبب توافق فعليهما ضد الذات، وبروز المعادلة العددية بين مفردات صدر البيت وعجزه أسهمت في التخفيف من حدة التضاد بين العنصرين المتقابلين.

وفي البيت الثاني اختار البردوني لفظة (اغتراب) وأسندها إلى الريح المضافة إلى الفيافي لتدل على تيه الذات وانقطاعها عن محيطها الذي تعيش فيه, فحركة الذات في هذا الوجود لا بداية لها ولا نهاية, فهي شبيهة بالصدى الذي لا فائدة منه, وواسعة الانتشار ليس لها مكان محدد تنطلق منه أو تنتهي إليه كريح الفيافي.

وعندما يصل الحال بالشاعر المغترب إلى مرحلة الشعور بالعدمية والانسحاق؛ يعقد مقارنة بين اغترابه واغتراب الشعراء الآخرين؛ لعله يخفف من تلك المعاناة القاسية التي تنخر عظامه وجسده. ففي قصيدة (أبو تمام وعروبة اليوم)([28]) يخاطب البردوني أبا تمام قائلا:

ورحتَ من سفرٍ مضنٍ إلى سفرٍ 

        أضنى، لأنَّ طريــــــــقَ الراحـةِ التعـبُ

لكـنْ أنا راحــــلٌ في غيرِ ما سفر 

        رَحْلي دمي وطريقي الجمرُ والحطبُ

إذا امتطيـتَ ركابًـا للـــــــنوى فأنا  

        في داخلي  أمتطي  ناري  وأغتــربُ

إن الألفاظ الدالة على الاغتراب في هذا المقطع تدرجت تدرجا تصاعديا (رحت – سفر – راحل – رحلي – طريقي – أمتطي – ركابا – النوى - أغترب), فإذا وقفنا عند لفظة (أغترب) في نهاية المقطع فهي تعد المحور الأساسي الذي ارتكزت عليه القصيدة؛ إذ إن المعنى اكتمل قبل مجيء كلمة القافية، فلما احتاج الشاعر إلى القافية أوغل([29]) في المعنى، فاختار كلمة (أغْتَربُ) التي عبر بها عن عمق تجربته الاغترابية وديمومتها. ومن هنا فإن هذه المفردة شكلت منبهًا أسلوبيًّا لافتًا للانتباه؛ لأنها جاءت في نهاية المقطع، ولأن الشاعر اختارها ليوغل في المعنى.

وفي الجدول الآتي مقارنة بين خطاب الشاعر لأبي تمام وحديثه عن نفسه:

المخاطب (أنت)المتكلم (أنا)

- رحت

- من سفر مضن إلى سفر أضنى

- إذا امتطيت ركابا للنوى

- أنا راحل

- في غير ما سفر رحلي دمي وطريقي الجمر والحطب

- فأنا  في داخلي أمتطي  ناري وأغترب

من الجدول نجد اللغة في مخاطبة أبي تمام كانت لغة الحقيقة والواقع, وجاءت الجمل فيها قصيرة، وكانت الألفاظ المعبَّر بها أقرب إلى اللغة الاعتيادية هي: رحت - من سفر إلى سفر - امتطيت ركابا للنوى, فالفعل (رحت) يعبر عن الرواح ويعني الذهاب بعد زوال الشمس, وهذا السفر كانت له بداية ونهاية ونتيجة (من - إلى), والوسيلة التي استخدمها أبو تمام في رحلته هي الفرس, وما نتج عن هذا السفر هو النوى الذي يعني البعد والفراق.

في حين أن البردوني عندما تحدث عن تجربته أطنب في الكلام، واستخدم لغة المجاز، وطالت الجمل، ودقت دلالة الألفاظ: أنا راحل - في غير ما سفر - رحلي دمي وطريقي الجمر والحطب – فأنا في داخلي أمتطي ناري واغترب. وقد تصدَّر الجملة الاسمية ضمير المتكلم (أنا) المبتدأ، وخبرها (راحل) اسم فاعل، فدلَّ التركيب على الاستمرارية في الرحيل وثبوته في الذات المتكلمة في كل مكان وزمان. 

وجاء تركيب شِبْه الجملة (في غير ما سفر) من حرف الجر (في) الدال على الظرفية المكانية، وأداة النفي (غير)، والحرف الزائد (ما)، والاسم المنفي (سفر), وجاءت أداة النفي (غير) مع الحرف الزائد (ما) لتوكيد النفي والانقطاع التام بين حرف الجر (في) ومجروره المنطقي (سفر)، بينما في خطاب أبي تمام كان السفر متصلا مباشرة بحرف الجر من حيث إنه سفر حقيقي له بداية ونهاية ونتيجة، في حين أن سفر البردوني لم تكن له بداية ولا نهاية، ولم يحقق له سفره أية نتيجة.

ولا يملُّ البردوني من تقليب الواقع على وجوهه في محاولة لتفسيره من جهة، والتعبير عنه من الجهة الأخرى. ففي قصيدته (أغنية من خشب)([30]) يقول: 

لماذا العدوُّ القصيُّ اقتربْ؟

لأنَّ القريب الحبيب اغتــــربْ

لأنَّ الملقِّــــــــنَ  واللاعبيـن

ونظَّارةَ العرضِ هم مَنْ كَـتَبْ

لأنَّ أبا لهـــــــــبٍ لـم يمـــتْ

وكلُّ الذي مات ضوءُ اللهبْ

فالتجانس الصوتي بين (اقترب) و(اغترب) وتموضعهما المشترك في نهاية كل شطر؛ لم يشفع لهما في التقارب الدلالي، فلم يُفْضِ التجانس إلا إلى تأكيد دلالة التضاد, ولم يفض ذلك التموضع في نهاية كل شطر إلا إلى تخندق كل مفردة في مكانها في مواجهة نظيرتها. وهذا التقابل في بنية التركيب بين الشطرتين أسهم - في البنية السطحية - في تجسيد دلالة التضاد الكامنة في البنية العميقة. والتجنيس في شعر البردوني عمومًا "ليس زخرفًا صوتيًّا أو صناعة لفظية, ولكن يقتضيه المعنى ويطلبه ويستدعيه ويسوقه نحوه سوقًا"([31]).

ففي قصيدة (أنا الغريب) في ديوان (من أرض بلقيس) صُرِّح بلفظة الغريب المسندة إلى ضمير المتكلم (أنا)، وجَعْلُها عنوانًا للنص يمثل علامة دالة تلخِّص مضمون الفكرة التي يريد الشاعر التحدث عنها، وتعبر عن حال اليأس والحيرة المطبقة على الذات الشاعرة، بعد أن تغلفت بوجومها وغابت في صمتها المتواري وراء الهموم. يقول البردوني:

وأنا وحـــديَ الغريبُ  وأهلي

عن يميني وإخوتي عن يَساري

وأنا في دمي أسيرٌ، وفي أر

ضــــــــــي شريـــــدٌ مقيَّــــدُ الأفكـارِ

وجريحُ الإبـا قتيلُ الأماني

وغريـبٌ فـي أمَّتي وديـاري([32])

إذا أنعمنا النظر في هذا النصِّ فسنجد أنه اشتمل على جميع أنواع الاغتراب: الاجتماعي والسياسي والفكري والنفسي والمكاني, فسيطر هذا الاغتراب على الذات سيطرة كاملة. 

إن غياب المخاطب في هذا النصِّ يحرِّك المشاعر الإنسانيَّة عند المتلقي, ويصبح حضور المتكلم هو جوهر الخطاب وعلَّته الأساسية (أنا وحدي الغريب)، وقد مثّلت هذه الجملة الاسمية المصدَّرة بضمير المتكلم بؤرةَ الاغتراب الاجتماعي الذي تعاني منه الذات داخل المحيط الذي تعيش فيه، وعمَّق هذا الشعورَ الحادَّ بالاغتراب إلصاقُ لفظةِ (وحدي) بلفظة (الغريب) للإخبار عن الضمير (أنا)، وبذا شخَّصت الذاتُ اغترابَها ونفيَها في موقف تضادِّي يفرض على القارئ متابعته عن طريق تأمل التقابل بين مأساة الذات المتكلمة (أنا وحدي الغريب) والمجتمع الذي يحيط بها (أهلي وإخوتي).

وجملة (أنا وحدي الغريب) ثرية الدلالة على حال الاغتراب وثبوتها على مستوى الوطن بشكل عام، وهذه قمة المأساة التي تعاني منها الذات في الوطن وفي المجتمع، ابتداء من الأسرة وانتهاء بالأمة.

وجملة (كلُّ شيء حولي) توحي بشدّة الإحساس الاغترابي الذي يحيط بالذات من كل الاتجاهات, وعلى مستوى الجملة يقف ملفوظ النفي (غير) حاجزًا لغويًّا يمنع التواصل الوظيفي بين طرفي شبه الجملة الجار والمجرور (على – ثأر), وهو ما يلفت انتباه المتلقي إلى وضعها المأساوي في علاقتها بالجماعة التي تعاقبه على جناية لم يرتكبها، و"قد يصل الفرد إلى مرحلة يكون فيها محاطًا بالآخرين، ولكن يتملكه في الوقت نفسه شعور بأنه بعيد عنهم نفسيًّا واجتماعيًّا، وذلك لأنه يشعر بأن التواصل الاجتماعي ضعيف أو أنه مبني على أسس نفعية"([33]).

ويربط البردوني لفظة الغريب ربطًا نفسيًّا عميقًا بحال الاغتراب الاقتصادي (الفقر) الذي يعانيه الإنسان اليمني داخل وطنه، راصدًا رصدًا خاطفًا قسوة البشر والمجتمع على هذا المواطن الذي تقطعت به السبل، ووقف على قارعة الطريق يستجدي الناس، لعلهم يجودون عليه مما في أيديهم من النعم. ففي قصيدته (سائل)([34]) يقول:

مررتُ بشيخٍ أصفرِ العقـلِ واليـدِ  يدبُّ

على ظــــهرِ الـــــــطريقِ ويجتدي

ثقيلِ الخــــــطا يمشي الهوينا  بجوعِه

وأحــزانِه مشيَ الضريرِ المقيــَّـدِ

ويُزْجي إلى الأسماعِ صــــــوتًا مجرَّحًا

كئيبًــا كأحزانِ الغريبِ  المشـرَّدِ

جاءت كلمة العنوان (سائل) - وهي عتبة النص - اسم فاعل نكرة تدل على العموم، وهذا التنكير دل على الاغتراب الاقتصادي والاجتماعي داخل المجتمع الذي يعيش فيه ذلك السائل، وجاءت لفظة الغريب مصاحبة للفظة المشرد في آخر المقطوعة، وهذه المصاحبة جعلت الصورة أكثر وضوحًا وأدق دلالة, وجاءت الألفاظ الأخرى داخل النص (مررت, يدب, الطريق, الخطا, المشي, الأحزان, المقيد, الجراح, الكآبة) لتؤدي وظيفة توضيحية مسبقة لمفردة الغريب المشرد التي اختتم بها المقطع.

وفي قصيدة (من أغنَي)([35]) يقول البردوني:

هاهُنا في المنزلِ العاري الجديبْ   

        أحتسي الدَّمــــــــــعَ  وأقتـاتُ النحيبْ

هاهنُـا أشكـــــو إلى اللـــــــيلِ وكـم 

        أشتكي واللـــيلُ في الصمتِ الرهيبْ

وأبــــــــثُّ الشــــــعـرَ آلام  الـهـوى   

        وأنــــــــادي اللــــيلَ والصمـتُ يجيـــبْ

فإلى مــــــن أنفـثُ الشكوى؟ إلى  

        أيِّ سمعٍ أبعثُ اللـــحـنَ الكــــــئيـبْ؟

وإلـى مـــــــن أشتكـي الحبَّ إلى   

        من إلى من ؟ إنني وحدي غريبْ!

عتبة النص (من أُغني؟) جملة استفهامية مركبة من أداة الاستفهام والفعل المضارع المصدَّر بالهمزة الدالة على الذات (أُغني)، ودلالة الاستفهام هنا مجازية وهي إظهار الحيرة والاستغراب والاستبعاد, فلمن يغني الشاعر؟ وتتوالى تلك التساؤلات في النص التي وصلت إلى حد الاستحالة, ولم يكن أمام الشاعر في النهاية إلا أن يصرح بأنه وحده الغريب ولا أحد غريب سواه (إنني وحدي غريب). وتكرار الصيغة الفعلية المضارعة (أفعل) في النص بشكل لافت كان بمثابة النقطة المحورية التي تحرك الأبيات وتحرك الدلالة الكلية للنص, لا سيما أن هذه الصيغة جاءت عتبة نصية ومن ثم تكررت في ثنايا النص الشعري (أحتسي، أقتات، أشكو، أشتكي، أبث، أنادي، أنفث، أبعث). كل هذا كثَّف التعبير عن معاناة الاغتراب والإحساس بها، ومثلت تلك الصرخات والنداءات المتكررة التي أصدرها الشاعر من أقصى جوفه وفؤاده – عبر أصوات الحلق – صخبًا إيقاعيًّا يعبر عن شدة وطأة الاغتراب عليه. 

ومثَّلت الألفاظ الآتية (أغني، الدمع، النحيب، الشكوى، آلام الهوى، الليل، الصمت، الرهيب، البث، الشعر، اللحن، الكئيب، الحب، وحدي، غريب، الجوى، النفث، اللهيب), حقلا دلاليا للاغتراب، سواء أكانت مصاحبة له أم مظهرًا من مظاهره، بحيث بلغت هذه الألفاظ (35) كلمة من (37), فضلاً عن تكرار ألفاظ الشكوى (4) مرات, والليل (4) مرات, وظرف المكان "هاهنا" (3) مرات، والصمت (مرتين), ووحدي (مرتين)؛ وأمام هذا الواقع الاغترابي أكد الفعل المضارع المصدَّر بالهمزة (أفعل) حضور الذات المغتربة وتوهُّجها في كل حدث يعبر عن زمنها الحاضر.

وهذه الصيغة قريبة من الذات المغتربة؛ لأنها تحمل بوحه وصوته الغنائي الخاص الذي يحمل همومه وأحزانه وشكواه, وفي نهاية البيت الأخير نصادف الجملة الاسمية (إنني وحدي غريب) مصدَّرة بأداة التوكيد (إنّ)، تدل على الثبوت، وجاء خبرها لفظة (غريب) صفة مشبهة بالفعل على وزن (فعيل), والإخبار بالمشتقات يدل على الاستمرارية والملازمة. وبروز هذه الجملة الاسمية في النص الذي تكررت فيه الجمل الفعلية بكثافة مثَّل ملمحًا أسلوبيًّا التُفت فيه من الجمل الفعلية إلى الجملة الاسمية، مؤدِّيًا وظيفة دلالية رسَّخت معنى الاغتراب لدى الذات الشاعرة. 

إن الفعل في اللغة العربية يعبر عن زمن وقوع الحدث ويرتبط بنوع من الحركة، فهو المعبر الأول عن الزمن في اللغة وعن الزمن في الواقع, وفي مجال الشعر فإن استثمار الفعل ينطوي على بعدين هما: الحدث والزمن, وبارتباطه بالنسق السياقي الأفقي يصبح حضوره دالا عليهما, ويصبح حضوره أكثر دلالة حين تتوالد عنه العلاقات الأخرى الغائبة المحذوفة وجوبًا أو جوازًا([36]).

لذا أصبح البردوني تائهًا بين عالمين: عالم المكان، وعالم الزمان، لا ينتمي لأحد منهما؛ ففي بداية اغترابه الزمني ظلَّ يحلم ويغني بذلك الزمن الجميل الذي ينشده في عالمه الخيالي وأنه سيصل إليه يومًا ما، وتمثل ذلك الحلم في دواوينه الأولى (في طريق الفجر، مدينة الغد، السفر إلى الأيام الخضر) التي تعبر عن الاغتراب الزمني الذي عاشه الشاعر، ولما خاب أمله وضاعت أحلامه في الوصول إلى ذلك الزمن المنشود، أصبح الزمن أداة قمع للذات, ولم يكن أمام الذات إلا أن تتنكر لهذا الزمان المزيف الذي تعيش فيه الذي عبر عنه البردوني في ديوانه (زمانٌ بلا نوعيّة)، وفي قصيدته (آخر الموت)([37]) يقول:

ليس بيـــــني وبيـن شيءٍ قــَرابـة   

     ْ   عالمي غربةٌ، زمــــــــاني غَرابـةْ

ربَّما جئتُ قبـــــلَ أو بــــعـدَ وقتي  

        أو  أتت  عنه  فترةٌ بالنـــــيابةْ

غيَّرتْ وقتَها الفصولُ، أضاعت   

        أعينُ الشمسِ والنجومِ الثقابةْ

العنوان (آخر الموت) يمثل مدخلا دلاليا إلى النص, فالشاعر جعل للموت بداية ونهاية, وآخر الشيء نهايته، والعلاقة بين الشاعر والمجتمع أصبحت ميتة, لا حياة فيها, ولكن الشاعر ما زال متفائلا بالموت([38]).

وقد تصدرت أداة النفي (ليس) مطلع القصيدة لتنفي نفيًا قاطعًا أية صلة للذات بالموضوع الذي عُبِّر عنه بالنكرة (شيء) ليفيد التعميم والشمول والتحقير، فعلاقته بكل من يحيطون به غير موجودة, وأصبح العالم عالم غربة، والزمان الذي عاش فيه صار غرابة.

والتقابل بين لفظتي (قرابة) و(غرابة) نتج عنه تضاد بين متنافرين لا يجتمعان معًا في آن واحد؛ إذ إن كلمة الـ(قرابة) تحمل دلالة الألفة والصلة, يقابلها في السياق كلمة الـ(غرابة) التي تحمل دلالة الوحشة والبعد, والمقابلة التضادية في السياق الشعري لهذا البيت جسدت دلالة المعنى الذي قصده الشاعر والمتمثل بالعلاقة التضادية والتنافرية بين الشاعر والواقع الوجودي الذي يعيش فيه.

والبردّوني في هذا المقطع "يعبر عن سخطه وعدم رضاه عن هذا الواقع المرير الذي يعيش فيه، فهو يرى نفسه غريبًا في هذا الزمن، وأنه وُجد في غير الزمن الذي يرغب العيش فيه، فلا يدري أأخطأ توقيت ميلاده أم أن الزمن هو الذي غالطه فحدث فيه تقديم وتأخير، فالشتاء صار صيفًا، والربيع خريفًا، كما فقدت الشمس والنجوم ضياءها"([39]).

ولا يملُّ الشاعر عبد الله البَردوني من تكرار تصورات الغربة والاغتراب في شعره، فكأنه يريد أن يمسك اليقين بكلتا يديه، وكلما زاد غربة زاد إحساسه بالناس وتعاطفه معهم؛ ففي قصيدته (إلا أنا وبلادي)([40]) يقول:

إنَّ داري كغربتي في المنـــافي

واحتراقي كذكريـاتِ رمـــــــــادي

يا بلادي  التي يقـولون عنها

منك ناري ولي دخان اتِّقادي

هذه كلُّـــــهـا  بلادي  وفــــــيها

كلُّ شيءٍ  إلا أنـــــــا وبـلادي

اختيار الجملة الاستثنائية (إلا أنا وبلادي) عنوانًا للنص وخاتمة له شكَّل ملمحًا أسلوبيا برز بوضوح داخل النص, فالجملة التي سبقت هذا الاستثناء في البيت الأخير (هذه كلها بلادي وفيها كل شيء) كلام تام مثبت يدل على التعميم بتكرار لفظ (كل), وجاءت الجملة الاستثنائية (إلا أنا وبلادي) لتغير السياق العام للنص فيخيب انتظار المتلقي بهذا الانتقال المفاجئ, ما يدل على عمق الاغتراب الذي تعاني منه الذات الشاعرة, وهذا السياق الاستثنائي أصبح غريبا داخل النص الذي وجد فيه، وهو يجسد نصيًّا حال الاغتراب.

وقد تتبَّع الدكتور الجريري ضمائر المتكلم في هذه القصيدة، فوجد ثمة هيمنة واضحة لضمائرالـ(أنا): التكلم (52), الخطاب (2), الغيبة (6)، "ولكن هذه الهيمنة وهمية, مضللة, ذات نتائج عكسية تمامًا, فحضورية الـ(أنا) ترشح غيابية الـ(أنا) ذاتها, وترسخ اغترابها وعدمها سياقيًّا, كـ(غربتي – داري – انفرادي – رمادي – احتراقي – إلا أنا وبلادي ..) وتكثف الدلالة، فالبيت الأخير عمق الحس بالمفارقة, ويعضد دلالة الالتفات من (الداخل) حضور الذات ووجودها, إلى (الخارج)؛ غياب الذات وعدمها"([41]).

وعند ما يصبح الشاعر في حال أكثر حيرة وقلقًا، وغير قادرة على فعل شيء أمام الواقع المأساوي؛ يصرخ في قصيدته (وجوه دخانية في مرايا الليل)([42]) قائلاً:

مـا الـــــذي أفــــــــعلُـه؟ كلٌّ لــــه

شاغـلٌ ثـانٍ  وفهمٌ غـــــــــــيرُ فهمي

داخلي يسقــــطُ فـي خارجِـــــــه

غربتي أكبرُ من صــــوتي وحجـمي

أعشبت أرمدتِ الأزمـانُ  لي

مقلتيَّ ،  جلمدتْ شمسي ونجمي

تذهبُ الريــــــحُ وتأتـي  وأرى

جبهتي فيهـا  وهذا حـــــــــدُّ علمي

(ما الذي أفعله؟) جملة استفهامية تعبر عن الحيرة والتعجب والقلق الذي وصل الشاعر إليه, فكل الذي يحيطون به لهم أفكار تختلف عن أفكاره، وأمام هذا الواقع يسأل عما يجب عليه فعله؟ وجملة (داخله يسقط في خارجه) هي الإجابة عن سؤاله, فكلما حاول الخروج من اغترابه الداخلي مستئنسًا بالخارج لعله يخفف من حدة الغربة والاغتراب؛ سقط وتقهقر أمام الخارج، وأصبح الشاعر يعيش غربتين: غربة في الداخل وغربة في الخارج، ومن هنا يصرخ بأن غربته ليست بالهينة، بل صارت أكبر منه صوتًا وحجمًا؛ لأن الواقع الوجودي (الزمكاني) تحول من أداة كان الشاعر يتكئ عليها لقهر عوالم اغترابه إلى أداة أخرى تُقْمع بها الذات المغتربة, فبرزت الأفعال الرباعية (أعشبت, أرمدت, جلمدت) التي تحمل دوال التغيير والتصيير والتحويل, وإسنادها إلى الزمن تدل على أن الشاعر وصل بتيهه واغترابه إلى مفترق طرق, ينظر إلى الشمس والنجوم التي تحولت إلى جلمود بطيء الحركة, ولا يرى في الوجود إلا وجوهًا دخانية في مرايا ليلية داكنة. 

والمفارقات بين الزمنين تمثلت في الآتي: الزمن المألوف (جاء ومات ومات أهله معه), الزمن الغرائبي (جاء ومات لكنه ما ولى وأهله ماتوا لكنهم ما فاتوا), وفي الأبيات الأخيرة يشير إلى ملامح (هذه الغرابة). 

وفي قصيدة (عينة جديدة من الحزن)([43]) يقول:

هــــــاهـُــــــنا الحـزنُ علـى عـادتـه

فلمـاذا اليـومَ  للحـزنِ غرابـةْ؟

ينزوي كالبـوم ,  يهمـي كالدبـى

يرتخي , يمتـدُ , يـزداد رحابـةْ

يلبـسُ الأجفـــــان يمتـصُّ الـرؤى

يمتطي للعنـف أسـراب الدعابـةْ

يلتـوي مثـــــــــــل الأفاعـي يغتـلـي

كالمدى العطشى, ويسطو كالعصابةْ

يـرتـدي زيَّ الــــــمرائـي , ينكفـي

عاريًا كالصخر , شَوْكيَّ الصلابـةْ

للثوانـي اليــومَ أيــدٍ وفــمٌ  مثلما

تعدو على المذعـور غابـةْ

وعيـون تغـزل  اللمـح كـمـا

تغزل الأشباح  أنقـاض الخرابـةْ

...  كان للمألـوف لـون وشـذا

كان للمجهـول شـوق   ومهابـةْ

مـن هنـا ؟ أسئلـة مـن قبل أن

تبتدي تـدري غرابـات  الإجابـةْ

(ها هنا الحزن على عادته) أسلوب خبري يتضمن الإشارة المكانية (ها هنا)، ولهذا الأسلوب دلالته: فهو تقرير واقع ووصف لحال راهنة قائمة على العادة، والعادة تعني الألفة, (فلماذا اليوم للحزن غرابة)؟ وهذا الأسلوب الإنشائي يتضمن دلالة التعجب والإنكار، والاستفهام الإنكاري الممزوج بالتعجب يدل على استمرارية الحزن الذي أصبح شيئا مألوفا لا يستدعي الاستغراب.

وفي هذا المقطع تمثِّل مفردة (الحزن) اللفظة المحورية؛ فحولها تدور كل الدلالات, وسنلاحظ أن معجم النص تدور دلالته حول معنى (الغرابة) التي اختتم بها البيت الأول, وهو كالآتي (غرابة، البوم، الدبى، الأشباح، المرائي، الأفاعي، العصابة، الرؤى، العنف، الخرابة، المذعور، الغابة، المجهول، غرابات الإجابة) كل هذه الألفاظ تدل على عالم الغرابة, وسياقاتها في هذا النص شخصت وجسدت معنى الحزن. 

وإذا أنعمنا النظر في البيتين: البيت الأول الذي افتتح به المقطع والبيت الأخير الذي اختتم به النص؛ فسنجد أن الشاعر في عجز البيت الأول اختار أسلوب الاستفهام "فلماذا اليوم للحزن غرابة؟"، وجاءت لفظة (غرابة) بصيغة المفرد، وفي البيت الأخير من النص تصدَّر أسلوب الاستفهام "من هنا؟" البيت، وجاءت لفظة (غرابة) بصيغة الجمع "غرابات الإجابة"، وهو ما يؤكد اتساع الحزن والغرابة وكثافتهما في واقع الشاعر وأن حزنه أصبح عالمًا من الغرابات والغرائب التي تتحرك وتنزوي وتهمي وتتمدد وتزداد اتساعًا. 

وهذا التوحد والصمت والوحشة والاغتراب لا يزيد روح الشاعر إلا صلابة وقوة، وإن زادها حزنًا وألمًا، ففي قصيدته (هكذا أمضي)([44]) يقول:

ألا  فلتضق عني البلادُ  فلم   يضق

طموحي وإن ضاقت رحابُ بلادي

ولا  ضاق صدري  بالهموم   لأنّها

بنات   فؤادٍ  فيه   ألفُ    فؤادِ

ولا قهرت نفسي الخطوبُ وكم غدت

تراوِحُني      أهوالُها    وتُغَادي

قطعتُ  طريقَ المجد والصبرُ وحدَه

رفيقي, ومائي في الطريق وزادي

وما زلت أمشي الدربَ والدربُ  كلُّه

مساربُ   حيّاتٍ    وكيدُ  أعادي

..ولا, لمْ أعدْ عن غايتي,لمْ أعدْ ولمْ

يُكفكفْ عنادُ  العاصفات  عنادي

فجوري  عليَّ يا  حياة  أو ارفقي

فلن  أنثني عن وجهتي  ومرادي

 فهكذا عاش البردوني يسلك وحده الطريق حاملاً الشقاء الإنساني والوطني وأثقـال التاريخ كاظمًا أنينه وآهاته وراء الجراح متعبًا، لكنه ماض في دروبه دون ملل أو كلل يتعقب أحلامه الحزينة، وهل يليق بالمصلحين والثائرين والحالمين أن يقنطوا أو يستسلموا لدمامة الواقع؟.

لقد أفرز الواقع الذي ترعرع فيه البردوني نوعًا من الاغتراب السياسي تحولت به الذات الشاعرة من اغترابها الاجتماعي والعاطفي إلى الهم الجمعي الوطني والقومي الذي اتسع امتداده ليشمل الوطن العربي، ففي منتصف القرن الماضي كان اليمن يعيش تحت وطأة الأنظمة الملكية والجنوب العربي تحت سيطرة الاحتلال البريطاني، حيث عانيا الفقر والجهل والظلم والاستبداد والاضطهاد، وفي ذلك الوقت بدأت حركات التحرر العربية تبشر بالحرية والاستقلال والحلم بمستقل زاهر ومستقر. 

وفي ديوان (لعيني أمِّ بلقيس) الصادر عام (1973م) جاء العنوان شبه جملة خبرًا لمبتدأ محذوف, وشكل هذا العنوان بنية مكانية وعتبة نصية تتواشج مع عنوانات القصائد في المجموعة؛ فالدوال المكانية (صنعاء، البلاد، المدينة، الوطن، المنفى، الضياع، الحنين) تلتف حول العنوان، وتدل دلالة واضحة على حال النفي والتيه والضياع التي تعاني منها الذات الشاعرة في وطنها. 

وجاءت قصائد هذا الديوان (أنسى أن أموت، صنعاء الموت والميلاد، من منفى إلى منفى، إلا أنا وبلادي، صنعاء الحلم والزمان، بلاد في المنفى، عينة جديدة من الحزن، لعيني أم بلقيس، مدينة بلا وجه، يمني في بلاد الآخرين، صنعاني يبحث عن صنعاء، مواطن بلا وطن، أبو تمام وعروبة اليوم، لافتة على طريق العيد العاشر لثورة سبتمبر، بعد الحنين) تعبر عن مضمون تجربة الاغتراب المكاني والسياسي الذي عانت منه الذات المغتربة, فالقصيدة التي افتتح بها هذه المجموعة تحمل عنوان (أنسى أن أموت)([45]) وهو العنوان الوحيد الذي جاء تركيبه جملة فعلية فعلها مضارع (أنسى) وفاعله ضمير مستتر تقديره (أنا)، وقد عدل في اختيار المصدر المؤول (أن أموت) عن المصدر الصريح (الموت), وهذا الانزياح الأسلوبي الذي أفضى إلى تعدد الفعل شكل ملمحًا أسلوبيًّا كان له أثره الدلالي في بنية العنوان, وهو تعميق المأساة الاغترابية التي تعاني منها الذات المغتربة. 

واستمر الشاعر في تصوير العلاقة الاغترابية بين الذات الشاعرة والمدينة فكانت قصائده (صنعاء الموت والميلاد )([46]) و(من منفى إلى منفى)([47]) و(صنعاء الحلم والزمان)([48]) و(عينة جديدة من الحزن)([49]) ترسم صورة شعرية لمدينة تتعرض للسلب والنفي والضياع والاغتراب وتتيه في ظلمات مختلفة منتظرة بزوغ فجر جديد لم يولد بعد. 

وفي قصيدة (مدينة بلا وجه)([50]) أسدل الشاعر الستار, وكشف عن الوجه الحقيقي لتلك المدينة التي فقدت قلبها وأصبحت مدينة بلا قلب، فهي لا تعرف ابنها العائد ولا تهتم لبكائه وشقائه وأنينه, لقد ضاع الحب من المدينة وغابت العلاقات الاجتماعية التي تؤلف القلوب وتجمعها([51]).

وحين تأكد للشاعر أن مدينته قد تحولت إلى مدينة للأشباح وبقايا رماد وحطت به الأقدار في مكان سحيق؛ أطلق صرخاته المدوية قائلا: أنا (مواطن بلا وطن)([52]) أنا (صنعاني يبحث عن صنعاء)([53]) بين الأمم. ومن هنا كانت تجربة المدينة في النص الاغترابي في شعر البردوني موضوعًا أساسيًّا عبَّر فيه الشاعر عن علاقته بالمدينة وكيفية تحولها من أداة لقهر الاغتراب إلى أداة سلبية تعمل ضد الذات المغتربة وتزيد من وطأة اغترابها. وشكلت (الدوال المكانية) محورًا رئيسًا تتمركز دلالته مع عنوان المجموعة الذي يغذي وعينا القرائي بمضمون التجربة الشعرية, وتبدو المواجهة صارخة بين الذات المغتربة والمكان، وهذا الصراع المستمر فجَّر حال التيه والضياع التي كشف عنها تعدد الدوال المكانية أكثر الدوال حضورًا في بنية العنوان في النص الاغترابي في شعر البردوني، فهي تكشف عن الأبعاد الداخلية ذات السمات النفسية المرتبطة بمشاعر الغربة والاغتراب؛ إذ يعبر المكان عن حالات نفسية بدلالاته الرمزية العديدة, فدوال (الأرض والوطن والطريق والديار والقبور والمدينة والسفر والرمال والغبار والرجوع والجوب والرحيل والسجن والكهوف و...) جاءت تعبر عن الوحشة والغربة والاغتراب، وكثيرًا ما ارتبطت تلك الدوال المكانية بالدلالة السلبية التي تعمل ضد الذات المغتربة بحيث تصبح تلك الدوال أدوات قهر تتسلط على الذات فتكثف من معاناتها المغتربة وتضاعف من آلامها واغتراباتها.

لقد عاش البردوني في ظل هذه الأوضاع السياسية المضطربة، فأعلن تمرده وصدع بأعلى صوته معلنًا الانحياز إلى جانب الشعب وثورته، ففي قصيدة (رحلة التيه)([54]) يقول:

هدَّني السجنُ وأدمى القيدُ ساقي

فتعايـيتُ بجرحـي ووثـاقـي

وأضعتُ الخطوَ في شوك الدجى

والعمى والقيدُ والجرحُ رفاقـي

ومـلـلتُ الجـرحَ حتى  ملّني

جرحي الدامي ومُكثي وانطلاقي

في سـبيل الفجر  ما لاقيت في

رحلة التـيه ومـا سوف أُلاقي

فبعد أن انتصرت أرادة الشعب وتحققت تنبأت الذات الشاعرة بفجر الحرية والاستقلال، نصف قرن من الزمن حوّل هذا الحلم إلى كابوس يؤرق الشاعر البردوني، وأصبحت الأنظمة الحاكمة أكثر قسوة واستبدادًا وجبروتًا من نظامي الإمامة والاستعمار، وضاقت أسباب العيش وتدنت الحرية والعدل والمساواة، وأصبح الإنسان اليمني يعرض نفسه للقتل والسجن والتشريد والموت الرخيص. 

ولا شك في أن البردوني امتزج بالوطن امتزاجًا كليًّا، وصار جزءًا لا يتجزأ منه، فكلاهما - الوطن والشاعر - عانيا تجربة اغتراب قاسية موحشة (اغتراب في الكلمة، اغتراب في الوطن، اغتراب في المكان، اغتراب في الكون)، وكانت تزيدها غربة الأسر والخيانة والغدر قسوةً، فضلا عما عانياه من آلام الجراح الجسدية والنفسية.

وهذا النفي السياسي وصفه الشاعر بقصيدتين, صرح بكلمة النفي في عنوانيهما, وهما: (من منفى إلى منفى)([55]) و(بلاد في المنفى)([56]). قصيدته الأولى (من منفى إلى منفى) هي إحدى قصائد مجموعته (لعيني أم بلقيس) الصادرة سنة 1974م، وهي القصيدة الثالثة في الديوان، وإذا أردنا وضعها في إطارها الزمني فإنها قيلت في نوفمبر 1971م؛ أي بعد تسعة أعوام من قيام الجمهورية في شمال اليمن.

وهذا العنوان (من منفى إلى منفى) يفاجئ القارئ بشكله الدائري الذي أسسه الشاعر على حرفي الجر ليصور حلقة مغلقة تتشابه فيها البداية والنهاية؛ لتصوير واقع الوطن تصويرًا يوحي بمعنى الاختناق، ويعمق المأساة التي يعيشها الوطن، وهي مأساة تحاصره من كل جانب، وفي هذه الصورة يختزل العنوان بتركيبته الدائرية تاريخًا كاملاً معزولاً عن الصيرورة الديناميكية للتاريخ الوجودي والحضاري([57]).

بلادي مـن يدي طاغٍ    

        إلى أطغى  إلى  أجفى

ومن سجنٍ  إلى سجنٍ  

        ومن منفى إلى  منفى

ومـن مستعمـرٍ  بادٍ      

        إلى مستعمــرٍ أخفى

ومن وحشٍ إلى وحشـ   

     ينِ, وهي الناقة العجفا

..بلادي في ديار الغيـ   

        ـرِ أو في دارها لَهْفى

وحتَّى  في أراضيهـا    

        تُقاسي غربـةَ   المنفى

يأخذ أسلوب التوازي في النص عمقه الشعري بتفجير اللغة وشحنها بشحنة ثورية تشدّ السامع وتنفذ إلى وجدانه عن طريق الحروف والكلمات المكررة: من (5 مرات)، إلى (5 مرات)، بلادي (مرتين)، سجن (مرتين)، منفى (مرتين)، مستعمر (مرتين). وهذا التكرار المنظم يوحي بمدى التفجع والمعاناة التي تعانيها الذات والوطن، ويكثِّف دلالة النفي.

وكذلك أسلوب المعادلة بين كلمات شطري الأبيات حقق معادلة بين الشكل والمضمون, وهكذا تحرك العنوان الرئيسي (من منفى/ إلى منفى)، فالتعادل اللفظي يوازي تعادلا في المعنى؛ فالمنفى الأول يعادل المنفى الثاني، ولا يفيد اختلاف حرفي الجر في تغيير هذا الواقع. 

وتبدو دوال الاغتراب في هذا المقطع بأنها اختيرت اختيارا منظما من حيث ألفاظها وتكرارها: (الطاغي، سجن، منفى، مستعمر، ديار الغير، غربة المنفى)؛ فهذه الدوال تصب في المحصلة الدلالية الأخيرة في لفظة (النفي)؛ وهذا ما يكشف عن مفتاحيتها. 

وفي البيت الأخير تعمقت دلالة النفي, بأمرين هما: حرف العطف (الواو), الذي دل على تعدد واختلاف أنواع النفي الذي يعانيه الوطن, والحرف (حتى) الذي يدل هنا على التقليل والتهوين، وإضافة لفظة (الغربة) إلى (المنفى) زادت من دلالة النفي والاغتراب وضاعفته.

وعبر البردوني عن الاغتراب داخل الوطن، وما تعانيه الذات المغتربة داخل وطنها  من قهر وأستلاب في الإرادة والحرية والتفكير، مجسدا هذا الواقع المأساوي الذي يعيشه المواطن اليمني في أرضه وبين أهله في قصيدة (الغزو من الداخل)([58])؛ حيث يقول:

يمانيُّون في  المَنفى 

        ومَنفيُّون  في  اليمنِ

جنوبيُّون في(صنعا) 

        شماليُّون  في (عدنِ)

خُطَا أكتوبرَ  انقلبت 

        حزيرانيَّـةَ  الكفـنِ

تَرَقَّى العار من  بيع 

   إلى بيع  بلا  ثمـنِ

ومن  مستعمرٍ  غازٍ 

   إلى  مستعمرٍ  وطني

لماذا  نحن يا مَربى 

  ويا منفى بلا   سكنِ 

بلا حلمٍ  بلا   ذكرى 

        بلا سلوى بلا حـزنِ؟

يمانيُّون يا (أروى) 

        ويا(سيف بن ذي يزن)

ولكنا  بـرغـمكما   

 بلا يُمْـنٍ بلا  يَمَـنِ

بلا  ماضٍ  بلا  آتٍ

        بلا سـرٍّ  بلا  عَلَـنِ

أول ما يلفت انتباهنا في هذا المقطع هو أسلوب المعادلة التقابلية[59] بين شطري الأبيات، فمن الناحية الدلالية ية الدلالية  الدلالة ,بحث منشور في مجلة آداب المسستنصرية ,العددالعاشرله.كما انها سمة دلالية من سمات االعمقت هذه المعادلة في الشكل المفارقة والتضاد في المضمون: (يمانيون/ منفيون), (في المنفى/ في اليمن), (جنوبيون/ شماليون), (في صنعاء/ في عدن), (بلا حلم / بلا ذكرى), (بلا سـلوى / بلاحـزن), (بلامـاض/ بلا آت), (بلا سر/ بلا علن). 

والتكثيف التتابعي واختفاء الروابط بين التراكيب دل دلالة واضحة على التمزق والتشتت والاغتراب في الواقع اليمني, وتردد أداة النفي (8) مرات متتابعة عمقت تجربة النفي في الزمان الماضي والحاضر والمستقبل, وفي المكان (فقد الانتماء للوطن).

ويكشف البردوني عن ضياع الوطن والهوية الوطنية بسبب ضياع الإنسان اليمني في أرضه وبين أهله، وكذلك ضياع الوطن بحيث أصبح أجيرا بأيدي الآخرين، وضياع حلم الوحدة الوطنية واليمنية والعربية أرضاً وإنساناً، وهو ما أدى إلى عدم الاستقرار في الوطن لإحساسه بالغربة والاغتراب والتمزق والضياع بين جنوبه وشماله على الرغم من وحدة الانتماء في المنفى واغتراب الاغتراب في الوطن.

وكانت الألفاظ الآتية أكثر دوال النفي ترددا في معجم البردوني الشعري، وهي: النفي، التشريد، السجن، الكهوف، الظلم، الحرمان، القهر، الظلم، الفرار، الهروب، اللجوء، الجدار، الغياب، الهجر، الفقد، الاختفاء). فكل هذه الدوال تحمل معنى النفي والاغتراب، ولكنه ليس نفي الذات واغترابها وإنما نفي المكان (الوطن) الذي أصبح منفيًّا خارج الإطار التاريخي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وعندما يحدثنا عن أحوال اليمنيين المنفيين والمشردين في بقاع الأرض المختلفة يقول في قصيدته (يمني في بلاد الآخرين)([60]):

من أين أنا ؟ مـن يدري

أوَلَيْسـت لي  جنسيـَّةْ؟

فلمـاذا  تستـغـربُنـي

هذي الزمـرُ الخشبيـَّةْ

عربـيٌّ  لا  تعـرفُنـي

حتَّى  الدنيـا العربيـَّةْ

وغـرابـات  لا تـروى

وغـرابـات مـرويَّـةْ

               يا ريحُ؛ بلادي خلفي

ومعـي مثلي  منسيَّـةْ

حتَّى أرضي  يـا أرضي

كأهـاليـهـا  منفيَّـةْ!

جاء عنوان النص (يمني في بلاد الآخرين) مصدَّرًا باسم نكرة (يمنيٌّ)، وهذا الاسم يحمل مفارقة تتمثل في أنه صيغ في قالب (النكرة) على الرغم من أنه يتضمن معنى العلمية من جهتين: الأولى من لفظة (يمن)، والثانية من (ياء النسبة). 

وكان للتنكير دلالته التي توحي بمعنى الغربة والغموض والإبهام لكل إنسان يمني, فخلو الاسم من (ال) التعريف دل على غربة الاسم ومدلوله، وتعريف النكرة (بلاد) بإضافتها إلى (الآخرين) دل على الألفة والقرابة والوضوح, والمقابلة بين النكرة (يمني) والتعريف (بلاد الآخرين) حقق التضاد التنافري بينهما، فالآخرون مألوفون في تلك  البلاد؛ إلا كل يمني.

وكثافة دوال الاغتراب في هذا النص (تستغربني، لا تعرفني، غرابات لا ترى، غربات مروية، منفية) كثفت دلالة النفي الذي يعد النواة الأساسية التي انطلقت منه فكرة النص, وتكرار (حتى) أفاد معنى التقليل والتهوين. 

إن للمكان دورًا مهمًّا وحاسمًا - منذ القدم - في تكوين حياة البشر، وترسيخ كيانهم وتثبيت هويتهم وتأطير طبائعهم، ومن ثمّ تحديد تصرفاتهم وتوجهاتهم، وإدراكهم الأشياء التي تحيط بهم. فقد اتخذ الشعراء العرب مواقف متنوعة من المكان تراوحت بين الرفض والقبول والتعاطف والألفة، كل بحسب الظروف التي نشأ فيها، وأشكال الاغتراب التي عانى منها، ولذلك نرى أن للشاعر أحيانًا أكثر من موقف تمليه عليه نظرته إلى المجتمع، فالموقف من المكان يكاد يكون صدى للموقف من المجتمع الذي ينتمي إليه([61]).

والاغتراب المكاني هو إحساس يشعر به الإنسان في بعده عن وطنه أو مكان إقامته، وهذا النوع من الاغتراب أكثر ما نراه ماثلا عند الشعراء الذين ابتعدوا عن أوطانهم وديارهم وانتقلوا إلى أرض أخرى لم يألفوها، فعاشوا فيها غرباء يعانون آلام الفراق والشوق والحنين إلى أوطانهم التي لا تفارق صورتها خيالهم([62]).

وفي تجربة البردوني الاغترابية نجد أن إحساسه بالغربة المكانية ليس قويًّا؛ لأنه لم يرتبط بمكان واحد ولم يغادر وطنه. وغالبًا ما اقترن الاغتراب المكاني بالاغتراب الزماني، مشكِّلَيْنِ بنية ثنائية تعمل ضد الذات المغتربة وتضاعف مأساتها، فالاغتراب الزماني هو" تلك الحالة النفسية التي تصيب الإنسان داخل وطنه في مرحلة زمنية مواتية تجعله يشعر بالغربة بين أهله وذويه، يحس بها تملأ عليه أقطاب نفسه مع أنه يعيش في مجتمع قد نشأ فيه"([63]).

وفي ظل الصراع السياسي والاجتماعي داخل المجتمع اليمني افتقد الشاعر الاستقرار المكاني والزماني، وأصبحت علاقة الذات الشاعرة بالمكان (الوطن والديار والمدينة والسجن والبيت والجدار) علاقة ذات طبيعة توتّرية، فتصبح تلك الأماكن وعاء حسيًّا يصب فيه الشاعر شحناته الانفعالية، فإن الشعور الأكثر بروزًا هنا هو الإحباط والانفصال، والإحساس بالعجز والتحجم وحقارة الذات؛ نتيجة لتلك المادية المفرطة التي يتميز بها هذا المكان، والتي تصدم حواسه في كل آن، وتشعره بالثقل وتكبيل الإرادة، وعرقلة الانطلاق نحو العالم الرحب.

لذا ظل الشاعر يحلم بمدينة الغد الفاضلة التي ستحقق له حلمه وتداوي جراحه، لكن سرعان ما تبددت أحلامه وتلاشت آماله حين تجلت له مدينته المنشودة ذات يوم، فإذا هي مدينة بلا وجه، وزمان بلا نوعية، من هنا اتخذ مواقف الرفض والتهكم والسخرية وعدم القبول بتلك المدينة التي اشتاق إلى لقائها يومًا ما؛ ففي قصيدة (ليلة خائف)([64]) يقول: 

كانـت قناديل المدينـة

كالشــرايين النـوازف

والجو يلهث  كالمداخن

فوق أكتاف  العـواصف

وهنـاك مذعور  بـلا

حان على الأشواك عاكف

كالطائر المجروح فـي

عش بأيدي الريح واجف

فكل محتويات المكان وضرورياته، ترعب الشاعر، وتضاعف من هواجس الخوف لديه؛ لأن معاينة الشاعر للمكان هي معاينة حدسية، فوق شعورية، تتجاوز الإدراك الخارجي لتتلون بحقيقة الذات, فالمدينة هنا تعد عنصرًا ضاغطًا على الذات لإخراج ما في داخلها، وإسقاطه على واقعية المكان، كما أنه يحرك في الشاعر كوامن هذه الذات ويبِين عما يراودها تجاهه من مخاوف سياسية وإنسانية ووجودية.  

هذا، وقد وردت كلمة الضياع عتبة نصية في ثلاث قصائد، هي: (بعد الضياع([65])، ضائع في المدينة([66]), بين ضياعين([67])). فالعنوان الأول عنوان خادع لأنه يوهم المتلقي بتجاوز الضياع من خلال إضافة الظرف الزماني (بعد) إلى (الضياع)، لكن من البيت الأول من القصيدة يظهر لدينا ضياع يبدو أنه نوع آخر من الضياع:

إلى من أسير أهاض المسيرْ

قواي  وأدمى جناحي الكسيرْ

وكيف المسيرُ ودربي طويلٌ

طويلٌ وجهدي قصيرٌ قصيرْ؟!

فكنت كفرخٍ أضاع الجنـاحَ

وتدعـوه أشواقُه أن يطيـرْ

وهذه الضياع ولد اغترابا نفسيا، يتأكد في العنوان الثاني (ضائع في المدينة) حيث تشعر باغترابها داخل المكان الذي ينبغي أن يوفر أكبر قدر من الألفة والتفاعل الإنساني، وهنا تتجلى المفارقة في العنوان:

هل هنا أو هناك غيـرُ جذوعٍ

غيرُ طينٍ يضجُّ ، يعـدو ويُقْعِي

لو عبرتُ الطريقَ عريانَ أبكي

وأنادي، مـن ذا يعي أو يوعِّي؟

يافتى يارجالُ!يا...يا...وأنسى

في دويِّ الفراغ صوتي وسمعي

وهذا موصول بضياع آخر مكثف، تدل على كثافته صيغةُ المثنى (ضياعين)، وظرف المكان (بين) الدال على التوسط ينشئ في أذهاننا صورة للذات وهي واقعة بين ضياع وضياع، وهو ما يعني وجود تكرار ذهني، ينتج دلالة كثافة الضياع وانحصار الذات بين طرفي الضياع:

كلُّ مـا عندَنـا يَزِيـدُ ضياعا

والذي نرتجيـه ينـأى امتناعا

نشتهيـه غدًا ، يزيـد ابتعادًا

نرجع الأمس، لا يُطيق ارتجاعا

بينَ يـومٍ مضى ويومٍ سيأتي

نـزرعُ الريـحَ نبتنيهـا قلاعا

والذي سـوف نبتنيـه  يولِّي

هاربـًا  والـذي بنينـا تداعى

نمتطي موجةً إلى غيرِ مَرْسى

إنْ وجدنـا ريحًا فقدنا الشراعا

تصدرت لفظة (كل) القصيدة لتدل على العموم والشمولية، وإضافتها إلى الاسم الموصول (ما) كثَّف الدلالة الكلية، ويرى الدكتور شكري عياد أن الاسم الموصول "عجيب الشأن بين أنواع المعرفة , فهو معرفة غير محدودة"([68]), ويعد أكثر شمولا من بقية الأسماء الموصولة لدلالته على العاقل وغير العاقل. وتقديم موضوع (الضياع) في الصياغة اللغوية دل على استجابة الذات له، ويأتي الكلام بعده ناتجا عنه ومرتبطا به.

وقد جاء الفعل (يزيد) ليؤكد كثافة الضياع المتجلية من قبلُ في العنوان، وتركيبة الجملة (كل ما عندنا يزيد) تقدم دلالة إيجابية يتوقع معها المتلقي قدوم عنصر لغوي إيجابي، ولكن جاءت كلمة (ضياعا) السلبية لتخيب ظن المتلقي، لما فيها من عنصر المفاجأة، ولتحتل نقطة ارتكاز أساسية في صدر البيت نصيا ودلاليا.

ومن جهة أخرى كان للفعل المضارع حضور كثيف (نرتجيه، نشتهي، نرجع، نزرع، نبتني، نمتطي)، ودل على محاولات الذات المتكررة للخروج من واقع الضياع، لكن الأفعال الصادرة من الموضوع (يزيد، ينأى، لا يطيق، يولي، تداعى) دلت على استمرارية الضياع في الماضي والحاضر والمستقبل، وحالت دون أن تحقق الذات ما تصبو إليه.

وفي قصيدة (بين المدية والذابح)([69]) يقول:

وحشةُ الخارجِ تَعْوي حولَهُ

ثـمَّ تَنْفيـه إلى  داخلِهِ

غربـةُ الداخلِ تَرْميـه إلى

مائجٍ  يَبْحثُ عن ساحلِهِ

راحـل منـه إليـه, دربُه

شاردٌ أَضْيَعُ  من راحلِهِ

تنتشر في هذا النص دوال الضياع (وحشة الخارج، تنفيه، غربة الداخل، ترميه، مائج، يبحث، راحل، دربه، شارد، أضيع، راحله), في شكل رأسي وأفقي تكثف معه معنى الضياع. وتعد لفظة (أضيع) اسم التفضيل على وزن (أفعل) هي المحور الذي تدور حوله تلك الدوال، وظهوره في هذا الشكل أصبح منبها أسلوبيا, فإذا وقفنا عند الأسماء الأخرى نجدها جاءتلإذا وفقنا عن الأسماء الأخرى فقد جاءت كالأتي:(كل لداخل-يبحث-راحل-دربه-شارد-اضيع-راحله) ظروف مكان (الخارج، حوله، داخله، الداخل) حددت مكان الضياع, وتدل على الشمول والإحاطة.

إن الخارج المأساوي الذي تعاني منه الذات يعد أكثر طغيانا على الذات الشاعرة التي أصبحت تحت وطأته وأسره, مرغمة على السكوت والاستماع, ففي قصيدة (أنسى أن أموت)([70]) يقول البردوني:

تمتصُّني أمواجُ هذا اللّيل

في  شرهٍ صَموتْ

وتُعيدُ ما بدأت وتنوي

أن تفوت  ولا تفوتْ

فتُثيرُ أوجاعي وتُرغمني

على وجَعِ السُّكوتْ

وتقول لي:مُت أيُّها

الذَّاوي..فأنسى أن أموتْ

تتناول هذه الأبيات الواقع الخارجي (الزمكاني), الذي يحاصر الذات ويشكل مأساتها وحرمانها واغترابها, وأمام هذه الأزمة الاغترابية تحاول الذات أن تجد لها موضع قدم يخلصها من الضياع والاغتراب، فلم تجد إلا عالمها الداخلي الأكثر قتامة وكربة.

لكـنَّ  في صدري  دُجَى

الموتى وأحزانُ البيوتْ

ونشيجُ   أيتامٍ... بلا  مأوىً

... بلا  ماءٍ   وقوتْ

وكآبـة  الغَيـم الشِّتائـي

وارتجافُ   العنكبوتْ

وأسىً  بلا اسـمٍ وارتجافاتٌ

بلا  اسـمٍ أو نعوتْ

مَن  ذا هُنا غيرُ ازدحام

الطين يهمـس أو يصوتْ

غير  الفراغ المُنحني

يذوي , يُصر على الثبوتْ

ودمُ  الخُطى والأعين

الملأى  بأشـلاء الكبوتْ

..وحدي ألوكُ صدى الرياح

وأرتدي عُرْيَ الخبوتْ

 إن عالم الذات الداخلي مسكون بعناصر مأساوية مؤلمة بحد ذاتها (دجى الموتى, أحزان البيوت, نشيج أيتام, وكآبة الغيم, وارتجاف العنكبوت), وما زاد هذه العناصر  إيلاما وقوعها في صيغة (المضاف إليه), فإذا بالذات أصبحت تائهة بين ضياعين: ضياع من الخارج وضياع من الداخل, وفي البيت الأخير من النص تصريح بالوحدة والوحشة والاغتراب.

واقترنت كلمة الضياع بكلمات كثيرة مرادفة أو مصاحبة لها، منها (الرحيل، السفر، الدرب، المسير) مشكلة مساحة واسعة في المعجم الشعري في النص الاغترابي في شعر البردوني، وهو ضياع ارتبط بـ(الوطن) ورموزه ومدلولاته.

ومن أبرز دوال الضياع ترددا في شعر البردوني (الضياع، الرحيل، السفر، الفقدان، الهجر، الاختفاء، المسير، السفن، البحار، الطريق، الرفيق، الصديق، السبيل، الرصيف، الكهوف، الرياح، الرمال، الفيافي، الركوب، السحب، السراب، الفراغ، الدرب، المضي، الذهاب، الدخان).

 

وفي هذه المرحلة الاغترابية المركبة تسرب القلق الوجودي إلى الذات الشاعرة, وأصبح عنصرا الزمان والمكان من أكثر العناصر قمعا للذات العاجزة عن التكيف مع المحيط الذي تعيش فيه, ففي قصيدته (زمكية)([71]) يقول:

المـكان الآن , والآن المكان

والذي كان غدا بالأمـس كان

والـذي يـأتي أتى مستقبلا

قبل أن يزَّوَّج السـوق الأوان

ألـغت الأفـعال فعـلياتـها

شكلت أسماءها عنهـا  لجان

الزمان انحلَّ أبحـارًا  دمًـا

البيوت استوطنت ريح الزمان

جاء العنوان (زمكية), اسم منحوتا من كلمتين هما )زمانية – مكانية), وفي هذا النص برز تقليب التراكيب (التبديل), ويعني أن تعكس الكلام في جملة سابقة وتجعله في الجزء الأخير من جملة لاحقة([72]), وقلب التركيب في البيت الأول أنتج مقابلة تضادية داخل السياق.

المكان الآن (و) الآن المكان

(والذي)  كـان غدًا بالأمس كــان

غير أن ما يغدو أكثر إثارة ما يتمثل فيما يسميه كمال أبو ديب (الإقحام) , الذي ينشأ من وضع مكونات غير متجانسة في بنية لغوية متجانسة, وذلك في صدر البيت وعجزه، فكلمتا (المكان وكان) مثلتا مفتتحا للتركيب ومختتما, وهذا التطويق للزمان: ما مضى وما سوف يأتي؛ يكثف الإحساس بالعدم والعبث، فكل شئ انتهى: الماضي والحاضر والمستقبل([73]).

وعندما تصل الذات الشاعرة إلى قمة الاغتراب النفسي الزمكاني؛ أي ثنائية المكان والزمان (Time-sbace) تفقد الاتزان الوجودي, ففي قصيدته (وراء الرياح)[74] يقول الشاعر:

تقولين لي: أين بيتي مُزاحْ؟

من النار زاد  رمادي جـراحْ

تقولين أين؟ وبيتي صـدى

من الريح جدرانـه من نواحْ

وتيه وراء ضياع الضيـاعِ

وخلف الدّجى, ووراء الرياحْ

عنوان النص (وراء الرياح) شبه جملة ظرفية مكانية متعلقة بمحذوف هو كلمة (تيه) العائدة على بيت الشاعر, وإضافة ظرف المكان (وراء) إلى (الرياح) أفضى إلى تحديد المكان, والانزياح في بنية الجملة أوقع المتلقي في خيبة التوقع عندما أضيف الظرف (وراء) إلى شيء لا وراء له، وهو (الرياح), إذًا هذا العدم الذي تشكل في التركيب اتفق مع ضياع الذات وعدمها، فمن خلال العنوان تبدو دلالة التيه والضياع أكثر وضوحًا. 

وتبدو دوال التيه والضياع في النص واضحة (بيتي صدى، القبر، الجدران، النواح، تيه، وراء ضياع الضياع، خلف الدجى، وراء الرياح)، وإن ملفوظ (بيت) يوحي للسامع بالدفء والأمان, فهو الملاذ الآمن, لكن النص يفاجئ المتلقي بالصدمة حين يتجرد البيت من وظيفته تلك ليغدو صدى من أصداء القبر, صدى يضج به الصمت والخوف والحزن والموت؛ والمفارقة هي أن البيت صار مأوى للأشباح, وإذا كانت الحواس تستأنس بلفظة الجدران فإن استئناسها ينتهي عندما تنوح تلك الجدران. وعندما تستدعي الذات ظرف المكان (وراء) في (تيه وراء ضياع الضياع) إنما تجعل المكان في حكم العدم, وكذلك ملفوظ (خلف الدجى) يوحي بأن المكان يتجسد في عدميته وهي عدمية وجود الذات في سياق الزمان والمكان([75])

ولم تكن رحلة البردوني إلا وسيلة للوصول إلى ذلك الوطن المفقود الذي ابتعد عنه وضاع من بين يديه، والحلم المنشود الذي طالما تغنى بقدومه. وتتمثل هذه الرحلة عنده في الآتي "فقد كان (جوَّاب العصور) القادم (من أرض بلقيس) يعبر (في طريق الفجر) متجهًا إلى (مدينة الغد)، ترافقه (كائنات الشوق الآخر) في (السفر إلى الأيام الخضر)، وعن بواعث سفره قال: إنه بصدد كتابة (ترجمة رملية لأعراس الغبار) يتناول فيها (رجعة الحكيم ابن زايد)، وإنه سيهديها (لعيني أم بلقيس)، التي أعياها (رواغ المصابيح) في (زمان بلا نوعية)، تعيشه (وجوه دخانية في مرايا الليل)، وكانت رحلة (ابن من شاب قرناها) أهم (رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه)، نسي معها أن يموت وهو يحلم بقضاء لحظة (عشق على مرافئ القمر)"([76]).

لقد رحل البردوني، وسافر من مكان إلى آخر وهو يحمل وطنه معه في غربته وتشريده وضياعه، هكذا كان يعيش تجربة الاغتراب سفرًا ورحيلاً من دون وداع أو شوق إلى الرجوع، فهو لم ينفصل عن وطنه وأرضه، بل تقمص محنة وطنه وشعبه، وذهب يحكي للعالم مأساته ووحدته واغترابه، إنه منغرس في رحم الأرض متوحد فيها. فقد اقتنص الشاعر من مجريات التاريخ اللحظات المشرقة التي عززت لديه التفاؤل والأمل بواقع جديد، وكان في تعامله مع التاريخ ينطلق من وعي كامل به، فأحب أن ينقل رؤاه وأفكاره التي استشفها من التاريخ ليعكسها على واقعه، فيزود نفسه وكل من يحيطون به من الدعاة والسياسيين والمصلحين بعوامل تزيد من قوتهم وصمودهم وتشحذ هممهم، لمواصلة السير في طريق الفجر، والسفر إلى الأيام الخضر؛ للوصول إلى مدينة الغد. ففي قصيدة (كلنا في انتظار ميلاد فجر)([77]) يقول البردوني:

يا رفاق السّرى إلى أين نسري؟

وإلى أين نـحن نجري ونجري؟

دربُـنا غائـمٌ يغـطيه لــيلٌ

فكأنّا نـسير في جـوف قـبرِ

دربُـنا وحشـةٌ وشوكٌ ووحلٌ

وسباعٌ حيرى, وحيَّـاتُ قفـرِ

ومـتاهٌ تحـيَّر الصـمتُ  فيه

حيرةَ الشك في ظنون (المعرّي)

في هذه الأبيات جاءت الدوال المكانية تكثف دلالة التيه والضياع والاغتراب. وعلى الرغم من ضياعه وضياع مدينته فما كفَّ عن البحث عن ملامح صنعاء الحقيقية وسط الركام الثابت والمتحول من أيامها، فهو لم يفقد الأمل في جديد آت. فقد كان يتطلع دائما إلى الغد الأفضل والزمن الجديد الذي ظل ينشده طوال رحلته المضنية، معللا نفسه بمدينة الغد واستعادة ذلك الحلم المُهْدَر، الذي تغنى له دهرًا طويلا، ومن هنا برزت ألفاظ البشرى والتفاؤل والسرور في شعره, واستخدامها أداة لقهر اغترابه الوجودي. وتركزت مفردات الحلم والأمل في ديواني (السفر إلى الأيام الخضر) و(مدينة الغد) التي انعكست دلالتها الإيحائية والشعرية في البياض والنور، ويشير عنوان مجموعته (في طريق الفجر) إلى تمحور هذه المفردة في ثنايا معجمه، فاختيار لفظة (الفجر) ينم عن وعي دقيق بمعنى النور، وقد طور البردوني من دلالة الفجر وحمَّله دلالات جديدة حين جعله رمزًا للحرية والاستقلال والثورة والحضارة والانعتاق من الجهل والفقر والظلم والتخلف والرق والعبودية والاستبداد، ففي قصيدته (كلنا في انتظار ميلاد فجر)([78]) يقول:

كلُـنا في السرى حيارى ولكن

كلنـا فـي انتظار مـيلاد فجــرِ

كلُـنا في انتظار فجـرٍ حبيبٍ

وانتظارُ الحبيـب  يُصبي ويُـغري

يـا رفاقي  لنا مع الفجر وعد

ليت شعري متى يفي؟ ليت شعري!

هكذا عاش الشاعر عبد الله البردوني غريبًا ومات غريبًا تاركًا وراء ظهره تراثًا أدبيًّا وإنسانيًّا ضخمًا يعاني مرارات الإقصاء والتهميش والإخفاء والغربة والاغتراب ذاتها التي عانى منها صاحبها أثناء حياته، ورغم كل هذا فقد استمر يقاوم آلام الغربة والوحدة والاغتراب بالوسائل المتاحة له كافة، فهو لم يستسلم لواقعه الاغترابي ولم يطأطئ رأسه لصروف الزمن ونكباته على الرغم من تعدد محابسه (الفقر والجرح والسجن والعمى). 

فالبردوني هنا يمتزج بالوطن روحًا وجسدًا, ويصبح الوطن هو الشاعر والشاعر هو الوطن، ولقد وصف الأستاذ أحمد الجابري البردوني بالقنديل الأخضر الذي عشق اليمن (صنعاء) عشقًا صوفيًّا, فقال: "هي الغانية التي تلهب وجدانه بالعطش, لا يحس بالارتواء إذا شرب، ولا بالاكتفاء إذا سكر, فهي في حياته أكثر من مدينة ذات السور القديم؛ لأنها ترقد في إحساسه، وتستيقظ في أحلامه, كالأسطورة التي تبحث عن رمز, فصنعاء في حياة البردوني - كما أتصور - أخدود عميق لذكريات تمتد دونما حدود، فهي مرفأ قديم تساقطت على جوانبه بقايا من سفين خالد لحضارة لم تمت بعد, وهكذا تحس في شعره بالحنين والشوق والاغتراب والتمرد معا..."([79]).

  1. لقد نشأت بين البردوني ومدينة (صنعاء) علاقة جدلية تتمثل في الصراع الدائر بين الحب والكراهية، والنقمة والتعاطف. وتداخلت صورة الوطن بصورة المحبوبة إلى حد أنهما صارا شيئًا واحدًا, فتماهى المحبوب والوطن في إطار بنية رمزية.

فالشاعر حين يفقد الأمل في معشقوته (مدينته الفاضلة)؛ يجسدها في صورة امرأة عجوز عاقر لا تسمح بالخلق والإنجاب والولادة, لا تلد إلا العقم مع كل أمل في فجر جديد, وإذا حاولنا التدقيق في النصوص التي تتحدث عن المدينة نلاحظ أن الألفاظ الرومانسية (السحر, الجمال, القبلة, اللقاء, الحسن, العشق, الولع، الشغف) تراجعت، وحلت محلها ألفاظ الشهوة الجنسية وألفاظ الموت والتبعية والانسحاق والذل والهوان والعقم. ففي قصيدة (مدينة بلا وجه)([80]) يقول البردوني: أتدرين يا صنعاءُ ماذا الذي يجري؟

 تموتين في شعب يموت ولا يدري

وفي قصيدة (صنعاء في طائرة)([81]) يقول:

تخافين ماذا ؟  على  أيِّ   شيءٍ 

تضِنِّينَ ؟  أصبحتِ أنتِ  المخيفةْ 

فلمْ   يبقَ شيءٌ    عزيزٌ   لديكِ 

 أضَعتِ   العفاف   ووجهَ العفيفةْ 

على باب (كسرى)  رميت الجبين   

 وأسلمت نهديك   يوم  (السقيفةْ)

وبعـت  أخيـرًا لحـى  (تُـبَّع)     

وأهدابَ (أروى), وثغر (الشّريفةْ)([82])

 

  • الخاتمة:

خلص البحث إلى أن شعر البردوني يعكس بعمق تجربة الاغتراب التي عاناها الشاعر والشعب اليمني. وقد استطاع البردوني، من خلال شعره، أن يعبر عن معاناة الإنسان اليمني، وأن يكون صوتًا للمهمشين والمظلومين.

  • المصادر والمراجع:

أولا: الدواوين الشعرية:

  1. ديوان عبد الله البردوني (الأعمال الشعرية الكاملة): إصدارات وزارة الثقافة والسياحة, صنعاء, 2004م. 

ثانيا: الكتب:

  1. إبداع الدلالة في الشعر الجاهلي (مدخل لغوي أسلوبي): محمد العبد، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1988م.
  2. الاغتراب: ريتشارد شاخت، ترجمة: كمال يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1980م.
  3.  الاغتراب في الشعر الأموي: فاطمة حميد السويدي, مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1997م. 
  4.  الاغتراب في الشعر العباسي (في القرن الرابع هجري): سميرة سلامي، دار الينابيع، دمشق، ط1، 2000م.
  5. الاغتراب في الشعر العراقي المعاصر: محمد راضي جعفر، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999م.
  6. بردونيات النص والمنهج (دراسات في بعض قصائد البردوني): عبد الله علوان، دار الكتب، صنعاء، 2010م.
  7.  تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص): محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط2، 1986م. 
  8. الحنين والغربة في الشعر العربي الحديث: ماهر حسن فهمي، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1970م.
  9.  دراسات في سيكولوجية الاغتراب: عبد اللطيف محمد خليفة، دار غريب، القاهرة، 2003م.   
  10.  شعر البردوني (قراءة أسلوبية): سعيد سالم الجريري، دار عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، ط1، 2004م.
  11. ظواهر أسلوبية في الشعر الحديث في اليمن: أحمد قاسم الزمر، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، ط2، 2004م.
  12. عزف على أهداب القصيدة اليمنية المعاصرة: أحمد نصيف الجنابي، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004م.
  13.  علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته: صلاح فضل، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998م.
  14. قاموس علم الاجتماع: محمد عاطف غيث، المكتبة الجامعية الحديثة، الإسكندرية، ط3، 1998م.
  15. معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: سعيد علوش، مطبوعات المكتبة الجامعية، الدار البيضاء، 1984م.
  16. وطن يؤلفه الكلام (دراسات في فكر البردوني وشعره): هشام علي، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، ط1، 2012م.

ثالثا: الرسائل العلمية:

  1. البعد السردي في شعر عبد الله البردوني: محمد ردمان علي، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة محمد الخامس أكدال، المغرب، 2010م.
  2. التناص في شعر البردوني: محمد مسعد العودي، أطروحة دكتوراه، جامعة صنعاء، 2007م.
  3. ظاهرة الاغتراب في الشعر العربي الحديث في مصر: أيمن إبراهيم أحمد تعيلب, أطروحة دكتوراه, كلية الآداب، جامعة الزقازيق, 1996م
  4. عبد الله البردوني شاعرًا (دراسة موضوعية فنية): عبد الرحمن عمر عرفان، رسالة ماجستير، معهد البحوث والدراسات العربية، بغداد، 1989م.
  5. الغربة في الشعر اليمني الحديث والمعاصر (دراسة أسلوبية): سالم عبد الرب السلفي، أطروحة دكتوراه، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 2006م.
  6. الغربة والحنين في الشعر اليمني الحديث (دراسة فنية): صالح عقيل سالم, رسالة ماجستير, جامعة عدن, 2003م.
  7. لغة الشعر عند البردوني (دراسة في المعجم الشعري): صالح حسن القطوي, رسالة ماجستير، جامعة عدن، 2003م.

 

قائمة الهوامش- 


 

([1]) ينظر مادة (غرب) في المعاجم الآتية: لسان العرب: ابن منظور، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1996م؛ قطر المحيط: المعلم بطرس البستاني، طبع في بيروت، 1869م؛ المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية، مكتبة الشروق الدولية، ط4، 2004م؛ المعجم الوجيز: مجمع اللغة العربية، وزارة التربية والتعليم، مصر، 1994م؛ الرائد: جبران مسعود، دار العلم للملايين، بيروت، ط7، 1992م.

([2]) ينظر: الاغتراب: ريتشارد شاخت، ترجمة: كمال يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1980م، ص63. 

([3]) ينظر: المقدمات الكلاسيكية لمفهوم الاغتراب: فالح عبد الجبار، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 1991م، ص91. 

([4]) ينظر: الموسوعة الفلسفية العربية: معهد الإنماء العربي، بيروت، 1998م، مج1/ص80؛ دراسات في سيكولوجية الاغتراب: عبد اللطيف محمد خليفة، دار غريب، القاهرة، 2003م، ص35. 

([5]) ينظر: اغتراب الإنسان في التنظيمات الصناعية: السيد علي شتا, مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1998م، ص62.

([6]) ينظر: الاغتراب (سيرة مصطلح): محمود رجب، دار المعارف, مصر، 1988م، ص161؛ دراسات في سيكولوجية الاغتراب: عبد اللطيف محمد خليفة، ص23؛ موسوعة الفكر الأدبي: نبيل راغب, دار غريب، مصر، ط2، 2002م، ص56.

([7]) الاغتراب في الرواية الفلسطينية: بسام خليل فرنجية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1989م، ص27.

([8]) قاموس علم الاجتماع: محمد عاطف غيث، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ص25.

([9]) ينظر: قاموس علم الاجتماع: محمد عاطف غيث، ص21.

([10]) ينظر: المرجع نفسه، ص21. 

([11]) ينظر: الاغتراب في المجتمع المصري المعاصر: أحمد النكلاوي، دار الثقافة العربية، القاهرة، ط1، 1989م، ص121.

([12]) ينظر: الحنين والغربة في الشعر العربي: يحيى الجبوري, دار مجدلاوي للنشر والتوزيع, الأردن, ط1, 2008, ص19.

([13]) ينظر: الاغتراب والإبداع الفني: محمد عباس يوسف، دار غريب، القاهرة، 2004م، ص28.

([14]) ينظر: دراسات في سيكولوجية الاغتراب: عبد اللطيف محمد خليفة، ص39.

([15]) معجم علم الاجتماع المعاصر: معن خليل عمر، دار الشروق للنشر والتوزيع، رام الله, 2005م، ص109.

([16]) ينظر: الاغتراب: أحمد أبو زيد، مجلة عالم الفكر، مج10، ع1، 1979م، ص13.

([17]) ينظر: الغربة في شعر محمود درويش: أحمد جواد مغنية، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2004م، ص19.

([18]) ينظر: من أول قصيدة إلى آخر طلقة (دراسة في شعر الزبيري): عبد الله البردوني، دار البارودي، ط3، 1997م.

([19]) الحنين والغربة في الشعر العربي الحديث: ماهر حسن فهمي، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1970م، ص5.

([20]) للتوسع في هذا الموضوع  ينظر: الغربة في الشعر الجاهلي لعبد الرزاق الخشروم، والاغتراب في الشعر العربي قبل الإسلام لصاحب خليل إبراهيم. 

([21]) للتوسع في هذا الموضوع ينظر: الاغتراب في الشعر الأموي لفاطمة السويدي، والغربة والاغتراب في شعر ابن دراج لمحمد شوابكة.

([22]) للتوسع ينظر: الاغتراب في الشعر العباسي لسميرة سلامي، ودلالة الاغتراب في شعر الشريف الرضي لإيمان الكيلاني.

([23]) للتوسع ينظر: الغربة في الشعر العربي الحديث لماهر حسن فهمي، والاغتراب في الشعر العراقي لمحمد راضي جعفر، والغربة في الشعر اليمني الحديث والمعاصر دراسة أسلوبية لسالم السلفي. 

([24]) الغربة في الشعر اليمني الحديث والمعاصر (دراسة أسلوبية): سالم السلفي، ص27.

([25]) ينظر: المرجع نفسه: ص27.

([26]) مثل قصيدة (أنا الغريب): ص185، وقصيدة (غريبان .. وكانا البلد): ص667، وقصيدة (شاعر ووطنه في الغربة): ص662.

([27]) ديوان البردّوني: 522.

([28]) ديوان البردوني: 598.

([29]) الإيغال عند قدامة بن جعفر هو "أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تامًّا من غير أن يكون للقافية فيما ذكره صنع، ثم يأتي بها لحاجة الشعر في أن يكون شعرًا إليها، فيزيد بمعناها في تجويد ما ذكره في البيت – ينظر: معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: أحمد مطلوب، مطبوعات المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1983م، ج1/ص229.

([30]) ديوان البردوني: ص632.

([31]) ينظر: شعر البردوني (قراءة أسلوبية): سعيد سالم الجريري, مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، ط1، 2004م، ص171.

([32]) ديوان البردوني: ص158.

( [33]) الغربة والاغتراب (دراسة في شعر ابن درّاج الأندلسي): محمد شوابكة, مجلة مؤتة للبحوث والدراسات, جامعة مؤتة, الأردن, مج4, ع2, 1989م, ص160.

( ([34]ديوان البردوني: ص96.

([35]) المصدر نفسه:141.

([36]) ينظر: من خصائص الأسلوب في شعر السبعينيات في مصر: عبدالله السمطي, مجلة نزوى، عُمان، ع28، أكتوبر 2001م, ص89.

([37]) ديوان البردوني: ص844.

([38]) ينظر: المبحث الثالث محور الموت والجراح.

([39]) نصوص ودراسات أدبية: مجموعة من المؤلفين, منشورات كلية الآداب, جامعة صنعاء, ص44.

([40]) ديوان البردوني: ص560.

([41]) شعر البردوني (قراءة أسلوبية): سعيد الجريري, ص99.

( [42]) ديوان البردوني: ص743.

([43]) ديوان البردوني: ص565.

([44]) ديوان البردوني: ص261.

([45]) ديوان البردوني: ص555.

([46]) المصدر نفسه: ص556.

([47]) المصدر نفسه: ص558.

([48]) المصدر نفسه: ص562.

([49]) المصدر نفسه: ص565.

([50]) المصدر نفسه: ص576.

([51]) ينظر: وطن يؤلفه الكلام: هشام علي، ص93.

([52]) ديوان البردوني: ص592.

([53]) ديوان البردوني: ص585.

([54]) ديوان البردوني: ص363. 

([55]) ديوان البردوني: ص558.

([56]) المصدر نفسه: ص564.

([57]) قراءة في قصيدة (من منفى إلى منفى): ريم العيساوي, صحيفة الحرة, ع5, 1 سبتمبر 2010, ص11.

([58])  ديوان البردوني: ص650.

([59]) يظهر أن التقابل "سمة من سمات الأشياء المادية والمعنوية, المحسوسة وغير المحسوسة. وهي ظاهرة كامنة في حقيقة الأشياء, وبارزة على سطوحها, وهذه الظاهرة من سمات الكون والحياة والانسان: نفسه وجسمه وعقله. كما أنها سمة دلالية من سمات اللغة المتصلة بالفكر الانساني - ظاهرة التقابل في علم الدلالة: أحمد نصيف الجنابي، مجلة آداب المسستنصرية, العراق، ع10, 1984م.

([60]) ديوان البردوني: ص181.

([61]) ينظر: الاغتراب في الشعر العراقي: محمد راضي جعفر، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999م، ص32.

([62]) ينظر: الغربة في شعر المتنبي: عبد الرحمن محمد الهويدي، مجلة الكوفة، مج5، ع1، 2001م، ص18.

([63]) المرجع نفسه: ص19.

([64]) ديوان البردوني: ص324.

([65]) ديوان البردوني: ص315.

([66]) المصدر نفسه: ص518.

([67]) المصدر نفسه: ص681.

([68]) مبادئ علم الأسلوب العربي: شكري محمد عياد، أنترناشيونال، القاهرة، ط1، 1988م، ص135.

([69]) ديوان البردوني: ص166.

([70]) ديوان البردوني: ص555.

([71]) الامصدر نفسه: ص1041.

([72]) ينظر: كتاب الصناعتين: أبو هلال العسكري, حققه وضبط نصه: مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1984م، ص371.

([73]) ينظر: شعر البردوني (قراءة أسلوبية): سعيد الجريري, ص79.

([74]) ديوان البردوني: ص469.

([75]) ينظر: التناص في شعر البردوني: محمد مسعد العودي, أطروحة دكتوراه، جامعة صنعاء، 2007م، ص45؛ التناص في الشعر الرومانسي في اليمن (دراسة سيميولوجية): علي أحمد صالح الأحمدي, رسالة ماجستير، جامعة عدن، 2009م، ص123.

([76]) مقدمة ديوان البردوني: الشميري، ص23.

([77]) ديوان البردوني: ص241.

([78]) ديوان البردوني: ص242.

([79]) القنديل الأخضر: أحمد الجابري, مجلة النجوم، عدن، 2003م، ص13.

([80]) ديوان البردوني: ص576.

([81]) ديوان البردوني: ص659.

([82]) الشريفة دهمى: مؤلفة وشاعرة يمنية من نوابغ القرن الثاني عشر الهجري.