صندوق الانتخابات في مواجهة واقع سياسي المرهق..
تحولات البرلمان اليمني: سنوات من الخداع السياسي والانقسام المميت
"استمر مجلس النواب المنتخب في عام 2003 حتى اليوم، مستندًا إلى المادة (65) من الدستور التي تسمح بتمديد ولايته في حال تعذر انتخاب مجلس جديد لظروف قاهرة." "التعددية الحزبية في اليمن ظلت مجرد نصوص دستورية وقانونية بلا تأثير فعلي على الأرض. هيمنة النفوذ القبلي والولاءات المناطقية كانت العامل الحاسم في نتائج الانتخابات."
الملخص: مجلس النواب اليمني (البرلمان) يمر بحالة قانونية ودستورية معقدة تجعله نموذجًا فريدًا يصعب تناوله كموضوع للدراسة أو البحث ضمن مناهج العلوم السياسية التقليدية. تميّز هذا البرلمان بوضعية خاصة تجاوزت كل الأزمات والظروف الطارئة التي قد تواجهها أي دولة. إذ يُعد البرلمان اليمني، الذي تجاوز عمره الواحد والعشرين عامًا كأطول برلمان مستمر في العالم، حالة استثنائية أفرزتها عوامل متعددة، منها الصراعات المحلية المتعددة الأطراف، والخلافات القبلية والمناطقية، إضافة إلى التدخلات الإقليمية والدولية. كما لعبت أزمة الوحدة بين الجنوب والشمال، وما تبعها من حرب اجتياح الجنوب عام 1994م، دورًا محوريًا في تعميق هذه الأزمة وإفراز نتائج وتوترات طويلة الأمد.
في هذه الورقة البحثية، سنستعرض ثلاث دورات انتخابية، مع تحليل نتائج كل دورة وطبيعتها. سنسلط الضوء على التحالفات السياسية التي ميّزت كل مرحلة، وكيف تعاملت المكونات الشمالية، من أحزاب وقبائل، مع شريك الوحدة الجنوبي. كما سنناقش آليات إقصاء الجنوب من المشهد السياسي وتأثيرات هذا الإقصاء والاستهداف الممنهج، إلى أن نصل إلى انقسام البرلمان بين صنعاء وعدن، ومحاولات إعادة إحيائه عبر البحث عن موقع آمن في الجنوب هربًا من بطش الحوثيين. وسنختتم الورقة باستعراض النتائج والتوصيات.
المقدمة
مجلس النواب اليمني يمثل السلطة التشريعية للدولة وبرلمانها المنتخب، وهو الجهة المسؤولة عن سن القوانين، والمصادقة على السياسة العامة للدولة، والخطط التنموية الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى اعتماد الموازنة العامة والحساب الختامي، كما يضطلع بمهمة الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية.
يتألف المجلس من 301 عضو، وتم إنشاؤه في مايو 1990م عقب الوحدة اليمنية التي جمعت بين دولتي الجنوب والشمال في 22 مايو 1990م. أُنشئ المجلس كمؤسسة مؤقتة للفترة الانتقالية (1990-1993) من خلال دمج أعضاء البرلمانين السابقين للدولتين، وهما "مجلس الشورى" في الجمهورية العربية اليمنية بـ 159 عضوًا، و"مجلس الشعب الأعلى" في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بـ 111 عضوًا، إلى جانب 31 عضوًا إضافيًا تم تعيينهم بقرار من مجلس الرئاسة، استنادًا إلى المادة (54) من مشروع دستور الجمهورية اليمنية، والمادة (3) من اتفاق إعلان الجمهورية اليمنية لعام 1989م.
تم تحديد الفترة الانتقالية بسنتين وستة أشهر، وخُوّل مجلس النواب خلال هذه الفترة بممارسة كافة صلاحياته الدستورية، باستثناء انتخاب مجلس الرئاسة وتعديل الدستور. وفي حالة شغور أي مقعد من المقاعد، كان يتم ملؤه عن طريق التعيين من قبل مجلس الرئاسة. استمر المجلس بممارسة مهامه التشريعية حتى انعقاد أول انتخابات نيابية بتاريخ 27 أبريل 1993م.
شهد اليمنيون قبيل هذه الانتخابات، وتحديدًا في عام 1991م، لحظة فارقة في تاريخهم السياسي مع إقرار دستور دولة الوحدة من خلال استفتاء شعبي. اعتُبر هذا الحدث أول إنجاز ديمقراطي عقب إعلان الوحدة، حيث كفل الدستور الجديد للمواطنين حرية الرأي والمساواة أمام القانون، وكرّس مبدأ التعددية السياسية وحق تشكيل التنظيمات المهنية والنقابية والسياسية، وفق قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية، الذي أسهم في ظهور أكثر من 22 حزبًا سياسيًا.
كما نص الدستور على الاحتكام إلى صندوق الانتخابات كآلية للتداول السلمي للسلطة، وحدد فترة ولاية مجلس النواب بأربع سنوات، مما مثّل نقلة نوعية في الممارسة الديمقراطية في اليمن آنذاك.
أول انتخابات برلمانية (1993م)
شهدت اليمن أول انتخابات برلمانية عامة في 27 أبريل 1993م، حيث بلغ عدد المرشحين للمنافسة على مقاعد مجلس النواب 3181 مرشحًا في 301 دائرة انتخابية على مستوى البلاد. من بين هؤلاء، كانت مشاركة النساء محدودة للغاية، حيث ترشحت 41 امرأة فقط، بنسبة 1.3% من إجمالي المرشحين. أما على صعيد الانتماءات السياسية، فقد تقدم 1215 مرشحًا تحت لواء الأحزاب السياسية، بينما خاض الانتخابات 1966 مرشحًا كمستقلين.
سجلت الانتخابات نسبة إقبال مرتفعة بين الناخبين المسجلين، بلغت 84%. ومع ذلك، فإن نسبة المشاركة مقارنة بعدد المواطنين المؤهلين للانتخاب -غير المسجلين- لم تتجاوز 43%، وهي نسبة منخفضة بالنظر إلى حجم السكان المؤهلين، لكنها اعتُبرت مقبولة بالنظر إلى الظروف الاجتماعية والمعيشية، وكونها أول تجربة ديمقراطية عامة في البلاد.
النتائج الانتخابية:
أفرزت النتائج سيطرة الأحزاب الثلاثة الرئيسية على نسبة 81% من مقاعد مجلس النواب، وكانت كالتالي:
- المؤتمر الشعبي العام : حصل على 41% من المقاعد (122 مقعدًا).
- حزب التجمع اليمني للإصلاح : حصل على 21% من المقاعد (63 مقعدًا).
- الحزب الاشتراكي اليمني : حصل على 19% من المقاعد (56 مقعدًا),
- أما المستقلون، ورغم عددهم الكبير، فقد حصدوا 16% من المقاعد فقط (48 مقعدًا). في حين توزعت النسبة المتبقية (3%) على خمسة أحزاب أخرى. أما الأحزاب الـ14 الباقية، فلم تتمكن من الحصول على أي مقعد.
م | الحزب | النسبة المئوية للمقاعد (%) |
1 | المؤتمر الشعبي العام | 41% |
2 | حزب التجمع اليمني للإصلاح | 21% |
3 | الحزب الاشتراكي اليمني | 19% |
4 | المستقلون | 16% |
دلالات النتائج:
1. سيطرة المؤتمر والإصلاح وإقصاء الاشتراكي:
أظهرت النتائج بوضوح تركز القوة السياسية في يد حزبي المؤتمر الشعبي العام وحزب الإصلاح، اللذين سيطرا على 62% من مقاعد البرلمان. وجاء ذلك على حساب الحزب الاشتراكي، الذي تعرض لأول محاولات الإقصاء من المشهد السياسي. وكانت هذه الخطوة إيذانًا ببداية مساعي القوى اليمنية للانقلاب على اتفاقية الوحدة وإبعاد الجنوب عن دوائر صنع القرار.
2. ضعف التعددية الحزبية:
على الرغم من وجود 22 حزبًا سياسيًا في البلاد، إلا أن 8 أحزاب فقط تمكنت من تحقيق تمثيل برلماني، ما يعكس هشاشة التجربة الديمقراطية الوليدة، إذ طغت التحالفات القبلية والمناطقية، خصوصًا في الشمال، على أسس التعددية السياسية والديمقراطية.
أظهرت هذه الانتخابات أن التوجه السياسي في اليمن لم يكن ناضجًا بعد لتحقيق ديمقراطية شاملة. بدلًا من ذلك، كانت النتيجة تعزيزًا لنظام يرتكز على التحالفات القبلية والمصالح المناطقية، مما مهّد الطريق للأزمات السياسية والاجتماعية التي تفاقمت في السنوات اللاحقة.
ثاني انتخابات برلمانية (1997م):
تميزت الانتخابات البرلمانية لعام 1997م بمرحلة جديدة من المشهد السياسي في اليمن، حيث أصبح الطرف الجنوبي مُهمشًا بشكل شبه كامل، وهي نتيجة مباشرة لحرب 1994 التي انتهت بإقصاء الجنوب وفرض الوحدة بالقوة العسكرية. أدت هذه الظروف إلى انفراد الطرف الشمالي بالحكم، مع محاولات تجميل المشهد الانتخابي من خلال ترتيبات واتفاقات سياسية تهدف إلى تزييف الإرادة الشعبية في الجنوب. انعكس هذا الإقصاء بوضوح في مقاطعة الحزب الاشتراكي اليمني للانتخابات، تعبيرًا عن احتجاجه على ما وصفه بـ"الظروف غير العادلة".
الأحزاب المشاركة والمقاطعة:
- شاركت في الانتخابات 12 حزبًا، من بينها:
- المؤتمر الشعبي العام.
- التجمع اليمني للإصلاح.
- ستة أحزاب من المجلس الوطني للمعارضة.
- أربعة أحزاب من مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة.
م | نوع الأحزاب | الأحزاب المشاركة |
1 | الأحزاب الكبرى | المؤتمر الشعبي العام، التجمع اليمني للإصلاح |
2 | أحزاب المجلس الوطني للمعارضة | ستة أحزاب |
3 | أحزاب مجلس التنسيق الأعلى | أربعة أحزاب |
4 | نوع الأحزاب | الأحزاب المشاركة |
م | نوع الأحزاب | الأحزاب المشاركة |
- بينما قاطعت الانتخابات أربعة أحزاب رئيسية، هي:
- الحزب الاشتراكي اليمني.
- رابطة أبناء اليمن "رأي".
- حزب التجمع الوحدوي اليمني.
- اتحاد القوى الشعبية.
م | الحزب |
1 | الحزب الاشتراكي اليمني |
2 | رابطة أبناء اليمن "رأي" |
3 | حزب التجمع الوحدوي اليمني |
4 | اتحاد القوى الشعبية |
إحصائيات الانتخابات:
- بلغ عدد المرشحين 1311 مرشحًا ، بينهم:
- 754 مرشحًا حزبياً.
- 557 مرشحًا مستقلاً.
- 20 مرشحة فقط من النساء.
م | الفئة | العدد |
1 | إجمالي المرشحين | 1311 |
2 | المرشحون الحزبيون | 754 |
3 | المرشحون المستقلون | 557 |
- شارك في إدارة العملية الانتخابية ما يقرب من 27 ألف شخص ضمن اللجان الإشرافية والأصلية ولجان الصناديق. كما تمت مراقبة الانتخابات من قبل أكثر من 20 ألف مراقب محلي ودولي يمثلون 20 بلدًا عربيًا وأجنبيًا، إضافة إلى منظمات دولية ووسائل إعلام.
الظروف الاقتصادية والسياسية:
أجريت انتخابات 1997م في ظل أزمة اقتصادية خانقة، شملت:
- ارتفاع معدلات الفقر.
- تفشي البطالة.
- تدهور الأوضاع المعيشية للسكان.
انعكست هذه الظروف سلبًا على نسبة المشاركة الانتخابية، حيث بلغت نسبة إقبال الناخبين المسجلين 61% فقط ، مقارنة بـ 84% في انتخابات 1993م. كما تقلصت نسبة تمثيل الأحزاب مقارنة بالانتخابات السابقة.
نتائج الانتخابات:
حصد المؤتمر الشعبي العام الأغلبية المطلقة في البرلمان، ما جعله مهيمنًا على السلطة التشريعية، كما هو موضح في الجدول التالي:
الحزب | عدد المقاعد | النسبة (%) | |
1 | المؤتمر الشعبي العام | 187 | 62.0 |
2 | المستقلون | 55 | 17.9 |
3 | التجمع اليمني للإصلاح | 54 | 17.6 |
4 | التنظيم الوحدوي الناصري | 3 | 1.0 |
5 | حزب البعث العربي الاشتراكي | 2 | 0.6 |
دلالات النتائج:
1. سيطرة المؤتمر الشعبي العام:
تمكن المؤتمر من تعزيز قبضته على البرلمان، ما منحه أغلبية مريحة تمكنه من الانفراد بالقرار السياسي.
2. تراجع المشاركة الشعبية:
انخفاض نسبة الإقبال مقارنة بالانتخابات السابقة يعكس فقدان الثقة في العملية الديمقراطية تحت الظروف السياسية والاقتصادية القائمة.
3. تلاشي التعددية الحزبية:
ضعف تمثيل الأحزاب المعارضة وقاطعتها، أضعف الدور الرقابي لمجلس النواب، وحوّله إلى أداة لتثبيت الحكم الفردي.
كانت انتخابات 1997م نقطة تحول عززت الانقسام السياسي والاجتماعي في اليمن، وجعلت البرلمان أداة لإضفاء الشرعية على استئثار السلطة، ما مهّد الطريق لتعميق الأزمات السياسية والاقتصادية في السنوات التالية.
سيطرة المؤتمر الشعبي العام وأداء البرلمان
يتضح أن لمؤتمر الشعبي العام تصدر نتائج انتخابات 1997 بحصوله على نحو 187 مقعدًا ، لكنه عمليًا تجاوز هذا الرقم عندما تمكن من استقطاب العديد من المستقلين، ما عزز هيمنته على البرلمان وجعله منفردًا برسم سياساته واتخاذ قراراته. هذه الأغلبية المريحة أتاحت له الانفراد بتشكيل الحكومة، مع منح حزب الحق حقيبة وزارة الأوقاف والإرشاد كتمثيل شكلي.
تميز أداء البرلمان في تلك الفترة بتناغمه الكامل مع توجهات المؤتمر الشعبي العام، مما أدى إلى تقارب واضح بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. هذا التناغم أضعف الدور الرقابي للبرلمان، حيث بات أداؤه خاضعًا لسياسات الحزب الحاكم.
ضعف المعارضة السياسية:
رغم وجود قوى معارضة داخل البرلمان، إلا أن تأثيرها كان محدودًا للغاية. حصل التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري على 3 مقاعد ، وجاء حزب البعث العربي الاشتراكي في المرتبة الثالثة بمقعدين فقط، في حين لم تتجاوز مقاعد المعارضة الإجمالية 5 مقاعد . أما كتلة المعارضة الوطنية التي جمعت المستقلين وبعض التوجهات القومية، فقد ضمت أقل من عشرة أعضاء، مما جعل المعارضة عاجزة عن التأثير في القرارات أو القوانين الصادرة عن المجلس.
التعديلات الدستورية لعام 2001:
شهدت اليمن في فبراير 2001 استفتاءً شعبيًا لتعديل مواد الدستور ، أبرزها:
1. تمديد فترة مجلس النواب من أربع إلى ست سنوات.
2. إلغاء صلاحية الرئيس في إصدار قوانين أثناء عطلة البرلمان.
3. تمديد فترة ولاية رئيس الجمهورية من خمس إلى سبع سنوات، ما أتاح للرئيس تمديد حكمه حتى عام 2013.
4. منح الرئيس سلطة تعيين أعضاء مجلس الشورى (111 عضوًا)، مما أدى إلى هيمنة السلطة التنفيذية على عملية التشريع، وأثار مخاوف المعارضة.
تزامنت هذه التعديلات مع انتخابات المجالس المحلية، التي شهدت تنافسًا شديدًا بين المؤتمر الشعبي العام وحزب التجمع اليمني للإصلاح. انتهى ذلك التنافس بإنهاء التحالف الاستراتيجي بين الحزبين، وسط اتهامات للحزب الحاكم بتزوير قوائم الناخبين والتلاعب بالنتائج. شارك في تلك الانتخابات أكثر من 23 ألف مرشح ، بينهم 120 امرأة ، وتنافسوا على حوالي 7 آلاف مقعد محلي .
انتخابات 2003:
أُجريت آخر انتخابات برلمانية في اليمن في 27 أبريل 2003 . فاز فيها المؤتمر الشعبي العام بأغلبية المقاعد بحصوله على 229 مقعدًا (58% من الأصوات)، ما عزز سيطرته على البرلمان.
تفاصيل الانتخابات :
- بلغ عدد المرشحين 1396 مرشحًا ، بينهم 991 مرشحًا من الأحزاب و 405 مستقلين .
- سجل في جداول الناخبين أكثر من 8 ملايين ناخب ، من بينهم 3.4 مليون امرأة ، ما يمثل زيادة ملحوظة عن انتخابات 1997.
رغم أن الانتخابات اعتُبرت أكثر نزاهة مقارنة بالسابق، إلا أن تقارير دولية أشارت إلى تدخلات وضغوط من حزب المؤتمر الشعبي العام ، مما أثار مخاوف بشأن شفافيتها.
م | الحزب | عدد المقاعد | النسبة المئوية |
1 | المؤتمر الشعبي العام | 229 | 58% |
2 | التجمع اليمني للإصلاح | 45 | 22.6% |
3 | الحزب الاشتراكي اليمني | 7 | 4.7% |
4 | التنظيم الوحدوي الناصري | 3 | 1% |
ملاحظة: تعتبر هذه الانتخابات آخر انتخابات برلمانية في اليمن، حيث استمر مجلس النواب المنتخب في 2003 حتى اليوم، متجاوزًا 21 عامًا من عمره.
التعددية السياسية في اليمن: تحديات التطبيق
عندما أُقر دستور دولة الوحدة اليمنية مبدأ التعددية السياسية وإجراء الانتخابات الحرة المباشرة، أثار ذلك صدمة لدى بعض القوى التقليدية، سواء القبلية أو الدينية. فقد رأت هذه الأطراف أن الديمقراطية تتناقض مع مبدأ الحاكمية ، وتقصي أهل الحل والعقد من التحكم في توجيه شؤون البلاد، مما أفسح المجال – وفق رؤيتهم – لخيارات شعبية عشوائية لا تعي مصالحها. كما اعتبرت هذه القوى أن منح الشعب هذا الحق يعزز من خطر الفوضى.
حتى بعض الأحزاب السياسية التي تبنت علنًا هذا التحول الديمقراطي، عملت سرًا على التشكيك بجدواه. فاتهمت الديمقراطية بأنها بذرة انقسام قد تؤدي إلى صراعات لا يمكن السيطرة على عواقبها، معززة خطاب التخوف من الحزبية كمسبب لتفتيت البلاد.
نفوذ المشايخ على البرلمان:
رغم التذمر الشعبي من سيطرة المشايخ على القبائل، إلا أن نفوذهم ظل طاغيًا داخل البرلمان اليمني. تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 50% من أعضاء البرلمان اليمني هم من المشايخ وأبنائهم. فعلى سبيل المثال، جميع الدوائر السبع في محافظة عمران (شمال صنعاء) تمثلها شخصيات قبلية بارزة.
هذا النفوذ القوي للمشايخ دفع الأحزاب السياسية إلى التخلي عن المنافسة على أساس البرامج الانتخابية، لتركز بدلاً من ذلك على استقطاب دعم شيوخ القبائل وترشيحهم تحت مظلة الحزب. وفي انتخابات 2003، استغل حزب المؤتمر الشعبي العام هذا النفوذ ليحصد 229 مقعدًا ، ثم ارتفع العدد إلى 238 مقعدًا بعد انتهاء الانتخابات بانضمام بعض المستقلين للحزب، وسط اتهامات بالغش والتلاعب.
تراجع المعارضة السياسية:
شهدت المعارضة السياسية تراجعًا كبيرًا خلال انتخابات 2003:
- حصل التجمع اليمني للإصلاح ، أقوى حزب إسلامي، على 45 مقعدًا فقط، متراجعًا بمقدار 10 مقاعد عن انتخابات 1993.
- أما الحزب الاشتراكي اليمني ، الذي قاطع انتخابات 1997، فقد حصل على 8 مقاعد فقط، بتراجع 40 مقعدًا عن انتخابات 1993.
هذا التراجع أدى إلى سيطرة المؤتمر الشعبي العام على البرلمان، حيث مارس سياساته دون أي مقاومة تذكر من الكتل البرلمانية المنافسة. البرلمان ذاته أظهر انحيازه لأعضائه، حيث طالب بمحاكمة كاتب صحفي انتقده، رغم ادعائه حماية الحريات.
تأجيل الانتخابات البرلمانية:
وفقًا للدستور اليمني، كان من المقرر إجراء الانتخابات البرلمانية الثالثة في أبريل 2009. إلا أن البرلمان، الذي يهيمن عليه حزب المؤتمر، أقر في فبراير 2009 تأجيل الانتخابات لمدة عامين بدعوى الحاجة لإصلاحات سياسية. تم تعديل المادة 65 من الدستور بشكل استثنائي لتمديد فترة البرلمان لعامين إضافيين.
لكن مع حلول عام 2011 ، انطلقت شرارة الربيع العربي وثورة الشباب في اليمن، مما حال دون إجراء الانتخابات. استمر التأجيل استنادًا إلى المبادرة الخليجية ، التي كانت تهدف إلى تهدئة الأوضاع، ليُحدد عام 2014 كموعد للانتخابات. ومع ذلك، أدى تصاعد الاضطرابات السياسية وسيطرة الحوثيين على صنعاء عام 2015 إلى تعطيل العملية الانتخابية بشكل كامل.
برلمان 2003: عمرٌ طويل وانقسامات حادة
ظل مجلس النواب المنتخب عام 2003 قائماً حتى اليوم، مستفيدًا من الانقسامات السياسية والظروف الاستثنائية التي مرت بها البلاد. انقسم البرلمان بين صنعاء، الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وعدن، مقر الحكومة الشرعية. هذا الانقسام ظهر جليًا في أبريل 2019، حين احتدمت المعركة على الشرعية بين حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، الحوثيين، والمجلس الانتقالي الجنوبي.
رغم مرور أكثر من 21 عامًا على انتخاب هذا المجلس، إلا أنه ما زال يحتفظ بموقعه التشريعي في ظل تعثر إجراء أي انتخابات جديدة.
نتائج الانتخابات البرلمانية في اليمن: الهيمنة القبلية وتداعياتها
التعددية الحزبية بين النصوص والتطبيق:
أظهرت الدورات البرلمانية الثلاث (1993، 1997، 2003) أن التعددية الحزبية في اليمن ظلت مجرد نصوص دستورية وقانونية بلا تأثير فعلي على الأرض. هيمنة النفوذ القبلي والولاءات المناطقية ، خصوصًا في شمال البلاد، كانت العامل الحاسم في نتائج الانتخابات. فلم تلعب التحالفات الحزبية أو التكتلات السياسية الدور المؤثر الذي لعبته التحالفات القبلية، التي أصبحت القوة الموجهة لأي انتخابات، سواء كانت برلمانية أو رئاسية.
تجلت هذه الهيمنة في تحالف حزب المؤتمر الشعبي العام و التجمع اليمني للإصلاح لإقصاء الحزب الاشتراكي اليمني من المشهد السياسي، خصوصًا بعد حرب 1994. ومع غياب المنافس الجنوبي، عاد الصراع بين المؤتمر والإصلاح ليأخذ طابعًا قبليًا ومناطقيًا بدلاً من سياسي أو حزبي، مما أدى إلى صراع مسلح في 2005 .
إقصاء الجنوب:
كان لإقصاء الجنوب من التمثيل الفاعل في البرلمان وتهميش الأحزاب الجنوبية تأثير كبير على ميزان القوى داخل مؤسسات السلطة .
- تم تحجيم الدور الجنوبي وتحويله من شريك أساسي في الوحدة إلى أقلية مهمشة لا تأثير لها في صنع القرار أو التشريع البرلماني.
- حتى إذا فازت الأحزاب الجنوبية بجميع دوائر الجنوب، فإن الغلبة العددية لدوائر الشمال كانت تعني أن القرار سيظل بيد القوى الشمالية، مما زاد من الشعور بالظلم والتهميش لدى الجنوبيين.
هذا الوضع دفع المكونات الجنوبية إلى مقاطعة البرلمان ورفض أي محاولات لإعادة تمثيلهم، مثل رفضهم انعقاد جلسات البرلمان في عدن، مما عزز الانقسام السياسي والجهوي.
انعقاد دورة سيئون 2019:
انعقدت دورة مجلس النواب في سيئون عام 2019 رغم الاعتراضات الجنوبية، لكنها وُصفت بأنها غير شرعية لعدم اكتمال النصاب القانوني المنصوص عليه دستوريًا. كان هذا الانعقاد خطوة رمزية أكثر منه عملية، في ظل انقسام البرلمان بين صنعاء وعدن.
استمرار البرلمان منذ 2003:
استمر مجلس النواب المنتخب في عام 2003 حتى اليوم، مستندًا إلى المادة (65) من الدستور التي تسمح بتمديد ولايته في حال تعذر انتخاب مجلس جديد لظروف قاهرة.
- نصت المادة على أن مدة المجلس ست سنوات شمسية، على أن يدعو رئيس الجمهورية الناخبين لانتخابات جديدة قبل انتهاء ولايته بـ60 يومًا.
- إذا تعذر إجراء الانتخابات بسبب ظروف قاهرة ، يظل المجلس قائمًا حتى زوال هذه الظروف.
إلا أن الدستور لم يحدد بوضوح ماهية الظروف القاهرة ، مما ترك الأمر للتفسيرات السياسية. غالبًا ما ترتبط هذه الظروف بكوارث طبيعية أو حروب. ورغم ذلك، حالت التوافقات السياسية دون مناقشة هذه القضية بجدية، مما سمح باستمرار المجلس لأكثر من 21 عامًا، وهو ما يعد سابقة غير مسبوقة.
توصيات لإصلاح النظام البرلماني:
1. إعادة النظر في توزيع الدوائر الانتخابية لضمان تمثيل عادل للجنوب كجزء من تعزيز الوحدة الوطنية.
2. إجراء تعديل دستوري يحدد طبيعة الظروف القاهرة التي قد تعيق الانتخابات، لتجنب استغلال هذا النص في تمديد فترة البرلمان.
3. تعزيز استقلالية القضاء الدستوري لضمان الفصل بين السلطات وإجراء انتخابات شفافة بعيدًا عن هيمنة القبائل أو الولاءات المناطقية.
4. تطوير نظام حزبي فعّال يعيد المنافسة السياسية إلى مسارها الصحيح، بعيدًا عن الصراعات القبلية والمناطقية.
توصية: إعلان وفاة مجلس النواب وإعادة التأسيس وفق مبدأ المناصفة
بناءً على النتائج والتداعيات الحالية، نوصي بالآتي:
1. إعلان انتهاء صلاحية مجلس النواب الحالي:
- الوضع الحالي لمجلس النواب اليمني يضعه في حكم المتوفى سريريًا ، إذ إنه يعتمد على توافقات سياسية مؤقتة أشبه بـ"التنفس الاصطناعي"، وهو واقع غير قابل للاستمرار.
- يجب الاعتراف صراحةً بفشل المجلس القائم كخطوة أولى نحو إعادة بناء مؤسسة تشريعية فعالة .
2. تأسيس برلمان جديد قائم على مبدأ المناصفة:
- المناصفة بين الشمال والجنوب ضرورية في المرحلة الراهنة لإعادة التوازن بين الشريكين الأساسيين في دولة الوحدة، بعيدًا عن الحسابات السكانية والكثافة البشرية.
- هذه الخطوة لا تهدف فقط إلى تحقيق تمثيل عادل، بل أيضًا إلى تهدئة الأوضاع في الجنوب وتعزيز الثقة بين الأطراف السياسية.
3. رؤية مستقبلية لوضع الجنوب:
- يتيح برلمان المناصفة مساحة للحوار السياسي في الجنوب، ليقرر الجنوبيون مصيرهم ومستقبلهم السياسي بحرية، سواء:
- بالبقاء ضمن دولة يمنية موحدة وفق نظام حكم جديد ودستور يضمن شراكة حقيقية.
- أو بالعودة إلى ما قبل 22 مايو 1990م ، إذا ما اختارت إرادتهم ذلك عبر مسار سلمي وديمقراطي.
مبررات التوصية:
- تراجع شرعية البرلمان الحالي : تمديد الولاية منذ عام 2003 أدى إلى فقدانه للشرعية الشعبية.
- غياب التوازن الجهوي: الإقصاء المستمر للجنوب أدى إلى تصاعد الاحتقان السياسي والمجتمعي.
- الظروف الحالية: استمرار الحرب والانقسام السياسي يفرض الحاجة إلى آليات استثنائية لإدارة المرحلة الانتقالية.
الأثر المتوقع:
- تهدئة الاحتقان في الجنوب وفتح باب الحوار السياسي.
- إعادة التوازن داخل مؤسسات الدولة وضمان التمثيل العادل للأطراف.
- توفير بيئة مناسبة للوصول إلى حلول دائمة تنهي الصراع وتحدد مستقبل اليمن بوضوح.
_____________________________________________________________________________________________
المراجع:
- 1. تحليل للباحث فارع المسلمي
- - نشر في صحيفة السفير العربي بتاريخ 5 يناير 2014.
- 2. تقرير صادر عن مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية
- - إبريل 2019م.
- 3. اتفاقية الوحدة بين الشمال والجنوب
- - الوثيقة الأساسية التي أرست دعائم دولة الوحدة.
- 4. دستور الجمهورية اليمنية
- - النصوص الدستورية المعمول بها منذ قيام الوحدة.
- 5. كيف يعمل النائب؟
- - دليل إرشادي للبرلمانيين أعده المعهد الديمقراطي بالتعاون مع الحكومة الهولندية ، 2006م.
- 6. نظام الحكم في الجمهورية اليمنية
- - وثيقة صادرة عن المركز الوطني للمعلومات .
- 7. كيف يمكن البناء على تجربة اللقاء المشترك في اليمن كحالة وطنية؟
- - دراسة من إعداد عاتق جارالله ، صادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات .