تاريخ الهجرة الحضرمية إلى أرخبيل الشمس المشرقة..
ورقة بحثية: "الحضارم".. مجتمع صغير أستطاع ان يؤثر في منطقة شاسعة كإندونيسيا
"شهدت الجالية الحضرمية في إندونيسيا نهضة ثقافية واجتماعية في القرن العشرين، تمثلت في إنشاء جمعيات مثل جمعية الإصلاح والإرشاد، التي عملت على نشر التعليم الحديث وتعزيز الهوية الحضرمية."
كشفت ورقة بحثية عن أن مجتمع الحضارم استطاع أن يخلق تأثيرا في منطقة شاسعة كإندونيسيا، وهو ما يؤكد على قوة الهجرة كعامل للتغيير الإنساني والحضاري، وتعد الهجرة الحضرمية إلى إندونيسيا واحدة من أبرز الظواهر التاريخية التي شكلت ملامح العلاقة بين جزيرة العرب وآسيا. هذه الهجرة لم تكن مجرد انتقال بشري، بل كانت حركة متكاملة نقلت معها الثقافة، الدين، والتقاليد من حضرموت إلى أرخبيل إندونيسيا، حيث تركت بصمات عميقة في الهوية الثقافية والدينية لهذه المنطقة.
وقال الباحث د. عبدالله سعيد الجعيدي - أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، رئيس مؤسسة حضرموت للدراسات الاستراتيجية والإنسانية- إنه من الصعب تحديد بداية واضحة للهجرة الحضرمية، فقد امتزجت الأساطير بالحقائق التاريخية، مما جعل فهم هذه الظاهرة تحديًا للباحثين".
ويرى الجعيدي أن الهجرة الحضرمية بدأت بشكل واضح خلال القرن الثامن الميلادي، حيث كانت التجارة العامل الأساسي الذي دفع الحضارمة إلى السفر عبر المحيط الهندي. مع ذلك، تزايدت الهجرة بشكل ملحوظ في القرنين السابع عشر والثامن عشر مع تطور التجارة البحرية وظهور موانئ استراتيجية في جاوا وسومطرة.
وعدد الجعيدي في الورقة أسباب الهجرة التي دفعت الحضارمة لمغادرة وطنهم، منها العوامل الاقتصادية، حيث شهدت حضرموت فقرًا مدقعًا نتيجة لمحدودية الموارد الطبيعية وصعوبة الزراعة في أراضٍ قاحلة، بالإضافة إلى العوامل السياسية والاجتماعية، فقد تفاقمت الأوضاع نتيجة الفتن العشائرية والاستبداد السياسي، مما دفع الكثيرين إلى البحث عن حياة أفضل".
ولفت إلى أن من الأسباب للهجرة البحث عن فرض اقتصادية للحضارمة الذين جذبهم ازدهار التجارة في إندونيسيا، حيث مثلت البلاد مركزًا تجاريًا مهمًا بين الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا".
ومع وصولهم إلى إندونيسيا، لعب الحضارمة دورًا محوريًا في مجتمعات المهجر. عملوا في التجارة، وتفوقوا في إنشاء شبكات اقتصادية واسعة، خاصة في تجارة التوابل والمنسوجات. لم يقتصر دورهم على الاقتصاد، بل ساهموا بشكل بارز في نشر الإسلام وتعزيز المذهب الشافعي، ما جعلهم يحتلون مكانة مميزة لدى السكان المحليين.
كما تأثر الحضارمة بالمجتمع الإندونيسي، حيث صاهروا السكان المحليين وأسسوا عائلات مختلطة، مما أدى إلى ظهور ما يُعرف بـ"الحضارمة المولدين"، الذين يحملون سمات ثقافية مزدوجة.
ورغم النجاحات التي حققها الحضارمة، إلا أنهم واجهوا تحديات عدة، يلخصها الباحث في محاول الاستعمار الهولندي تقليص نفوذ الحضارمة عبر فرض قيود على الإقامة والتنقل، وتصويرهم كمصدر تهديد، أضف إلى ذلك توترات داخلية، حيث شهد المجتمع الحضري صراعات داخلية بين فئات مختلفة، لا سيما بين السادة والقبائل، مما أثر على تماسكهم".
وحول التكيف الثقافي، قال الباحث في الورقة أن الحفاظ على الهوية الحضرمية كان تحديًا مستمرًا في ظل التفاعل مع ثقافات متعددة في إندونيسيا.
واستجابة للتحديات التي واجهتها، شهدت الجالية الحضرمية في إندونيسيا نهضة ثقافية واجتماعية في القرن العشرين. أنشأت العديد من الجمعيات الخيرية والثقافية، مثل جمعية الإصلاح والإرشاد، التي عملت على نشر التعليم الحديث وتعزيز الهوية الحضرمية. كما أُطلقت صحف عربية في إندونيسيا، كانت منصة للحفاظ على اللغة العربية وتعزيز الوعي الثقافي.
وساهم الحضارمة في بناء هوية إسلامية فريدة في إندونيسيا. فقد جلبوا معهم قيم التصوف والزهد، وساهموا في نشر العديد من العادات الإسلامية مثل قراءة "راتب الحداد". أصبحوا رموزًا للتدين والتقوى، مما أكسبهم احترام السكان المحليين وجعلهم جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي الإندونيسي.
إن الهجرة الحضرمية إلى إندونيسيا ليست مجرد قصة انتقال بين قارتين، بل هي حكاية تفاعل حضاري طويل الأمد. لقد استطاع الحضارمة تحويل تحديات الهجرة إلى فرص، وأسهموا في إثراء المجتمعات التي استوطنوها بثقافتهم ودينهم، بينما تأثروا بدورهم بالمجتمعات المضيفة. هذه الحكاية تمثل نموذجًا فريدًا للاندماج والتنوع الثقافي الذي يُظهر كيف يمكن للهجرة أن تكون جسرًا للتواصل الحضاري بدلًا من أن تكون حاجزًا.