البحر الأحمر يتحول إلى ورقة ابتزاز للتجارة العالمية..
العمليات الجوية الأميركية والإسرائيلية.. هل فشلت في ردع الحوثيين؟
لم يعد الحوثيين مجرد قوة محلية منخرطة في الصراع اليمني، بل تحولت إلى لاعب إقليمي يهدد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين عبر البحر الأحمر واستهداف إسرائيل بالصواريخ والطائرات المسيّرة.

حرب غزة منحت الحوثيين نفوذًا وشعبية عابرة للحدود

يشكّل الحوثيون اليوم تهديدًا أكبر للمصالح الأميركية والخليجية مما كانوا عليه قبل حرب غزة. فبينما كان يُنظر إليهم سابقًا كجماعة محلية ذات نفوذ محدود في شمال اليمن، تحوّلوا خلال الأعوام الأخيرة إلى فاعل إقليمي يتجاوز حدود اليمن ليهدد التجارة الدولية في البحر الأحمر، ويعلن استهدافه لإسرائيل، ويبتز دول الخليج. هذا التحوّل ترافق مع ارتباك السياسة الأميركية وتناقضها بين الإدارات المتعاقبة، مما سمح للحوثيين بتعزيز نفوذهم واستثمار الصراع في غزة لتوسيع أوراق قوتهم.
أولاً: تحولات السياسة الأميركية تجاه اليمن
شهدت السياسة الأميركية تجاه اليمن تقلبات حادة. ففي عهد إدارة بايدن، ركزت واشنطن على الدبلوماسية والوساطة الأممية، وتراجعت عن تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية لتفادي التداعيات الإنسانية، كما مارست ضغوطًا على السعودية عبر تعليق مبيعات الأسلحة الهجومية. غير أن المشهد تغيّر مع هجمات الحوثيين المنسقة على الملاحة في البحر الأحمر في نوفمبر 2023 دعمًا لغزة، حيث أعادت إدارة بايدن تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية، وسمحت ببيع أسلحة هجومية للرياض، ونفذت ضربات محدودة داخل اليمن.
ومع عودة ترامب إلى الحكم في 2025، تبنت واشنطن نهجًا أكثر تشددًا في البداية، فأعادت تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية أجنبية وأطلقت حملة جوية مكثفة تحت اسم "رايدرز الأشداء". لكن العملية توقفت فجأة في مايو رغم كلفتها العالية، وهو ما عزز انطباع الحلفاء الخليجيين بعدم اتساق السياسة الأميركية. اليوم تبدو مقاربة واشنطن وكأنها تقتصر على إبقاء الحوثيين تحت الضغط بأدوات محدودة، دون مبعوث خاص أو رؤية متماسكة.
ثانياً: الحوثيون كفاعل إقليمي معادٍ
لم يعد الحوثيون مجرد جماعة محلية، بل تحوّلوا إلى فاعل إقليمي معادٍ. فقد أظهروا قدرتهم على استهداف إسرائيل من مسافة تتجاوز ألفي كيلومتر، وواصلوا تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر الذي يمر عبره أكثر من 12% من التجارة العالمية. هذا التوسع منحهم خبرة عسكرية وشعبية إقليمية، وأدى إلى تقوية التيار المتشدد داخل الحركة على حساب التيار البراغماتي.
كما توسعت علاقاتهم الخارجية مع إيران، وتنامت صلاتهم بموسكو وبكين، حيث تجنبت سفن البلدين الاستهداف. وتشير تقارير إلى وجود مستشارين روس في الحديدة واهتمام روسي بتزويدهم بتقنيات عسكرية، فضلًا عن حصولهم على مكونات مزدوجة الاستخدام من الصين، والتنسيق مع حركة الشباب في الصومال.
ثالثاً: هواجس الخليج من سياسة واشنطن
تنظر السعودية والإمارات بقلق متزايد إلى السياسة الأميركية المتذبذبة، خصوصًا أن الحوثيين باتوا يهددون مشاريع التحول الاقتصادي في المملكة، ويستغلون رغبتها في التهدئة للضغط والابتزاز. ويخشى خصوم الحوثيين في اليمن من احتمال تنازل الرياض عن مواقع استراتيجية مثل مأرب مقابل ضمان الاستقرار. كما تعززت صورة واشنطن لدى الشركاء الخليجيين كقوة غير موثوقة، تتخلى عن العمليات في منتصف الطريق وتفتقر إلى الالتزام طويل الأمد.
رابعاً: حدود العمليات العسكرية الأميركية والإسرائيلية
أثبتت التجارب أن الضربات الجوية المكثفة لا تردع الحوثيين ولا تقضي عليهم، بل تمنحهم فرصة للظهور بمظهر الصامدين أمام قوى كبرى، ما يعزز سرديتهم الدعائية. فالعمليات الأميركية والإسرائيلية وإن ألحقت أضرارًا ببنيتهم التحتية، فإنها لم تمنع استمرار الهجمات الحوثية بالصواريخ والطائرات المسيّرة، بل عززت روايتهم بأنهم رأس حربة المواجهة مع الغرب وإسرائيل.
خامساً: الحاجة إلى مقاربة جديدة
تؤكد التطورات أن الحوثيين اليوم أكثر خطورة مما كانوا عليه قبل حرب غزة، وأن السياسة الأميركية الحالية غير كافية. المطلوب هو بلورة مقاربة شاملة بالتنسيق مع شركاء الخليج تقوم على:
دعم القوات الحكومية اليمنية عسكريًا ومنحها غطاءً جويًا من التحالف، خاصة في مأرب والساحل الغربي.
تقديم ضمانات أمنية واضحة للسعودية والإمارات عبر صفقات سلاح إضافية وتدريب موسع، مع التزام بالدفاع عنهما إذا تعرضتا لهجوم.
إصلاح الحكومة اليمنية المنقسمة بدور أميركي جامع لتوحيد الرؤية الخليجية بشأنها.
استهداف شبكات السلاح والتمويل الحوثية بالتعاون مع عمان والإمارات ودول أخرى لوقف التهريب والتدفقات المالية.
إطلاق مسار سياسي شامل يتضمن حلولًا تفاوضية وحزمة إعادة إعمار وتنمية بدعم خليجي، لدمج الحوثيين في النظام بعيدًا عن النفوذ الإيراني.
خاتمة
إن استمرار النهج الأميركي المتذبذب في اليمن يمنح الحوثيين فرصة لتعزيز نفوذهم الإقليمي والدولي، ويفاقم المخاطر على مصالح واشنطن والخليج. المطلوب ليس فقط ضربات محدودة أو بيانات سياسية، بل سياسة شاملة تنسق عسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا مع الشركاء الخليجيين، وتعيد إطلاق مسار سياسي واقعي. من دون ذلك، سيظل الحوثيون قادرين على تهديد التجارة الدولية، وابتزاز السعودية، وتوسيع حضورهم الإقليمي كذراع مناوئة للمصالح الأميركية والغربية.