ردود الفعل الفلسطينية.. بين الأمل والاتهام بالخداع..
وقف إطلاق النار في غزة.. خطة ترامب تفتح بوابة سلامٍ محفوفة بالمخاطر
تتحدث واشنطن عن "سلامٍ قابل للحياة"، يرى كثيرون أن غزة ما تزال تعيش "هدنة فوق الركام"، وسط تساؤلات كبرى حول واقعية خطة ترامب، ومصير السلطة في القطاع، وإمكانية صمود وقف إطلاق النار في وجه تناقضات الأطراف وسوء النيات المتبادلة.

انسحاب إسرائيلي جزئي من غزة: بداية النهاية أم إعادة تموضع عسكرية؟

في خطوة مفصلية نحو إنهاء حرب غزة المستمرة منذ عامين، بدأت إسرائيل تنفيذ انسحاب تدريجي لقواتها من أجزاء من قطاع غزة صباح الجمعة، تزامنًا مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. جاء ذلك عقب مصادقة الحكومة الإسرائيلية فجر الجمعة على المرحلة الأولى من خطة السلام التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي تتضمن وقفًا شاملًا لإطلاق النار وتبادلًا للأسرى والرهائن. يُنظر إلى هذا التطور على أنه لحظة حاسمة قد تمهد لإنهاء صراع أوقع خسائر فادحة في الأرواح والبنية التحتية في القطاع المحاصر، إذ تجاوز عدد الضحايا الفلسطينيين عشرات الآلاف فيما بلغ عدد قتلى الجنود الإسرائيليين 914 منذ اندلاع الحرب. في هذا التقرير التحليلي نستعرض أبعاد الانسحاب الإسرائيلي، وانعكاسات خطة ترامب للسلام، وردود الفعل الفلسطينية والدولية، بالإضافة إلى تقييم المشهد الميداني في غزة بعد دخول الهدنة حيّز التنفيذ.
أبعاد الانسحاب الإسرائيلي
أعلنت المتحدثة باسم الحكومة الإسرائيلية، شوش بدرسيان، أن الجيش الإسرائيلي سيبدأ انسحابًا تدريجيًا من معظم مناطق قطاع غزة خلال 24 ساعة من بدء سريان وقف إطلاق النار. وبموجب المرحلة الأولى من الاتفاق، ستتراجع القوات الإسرائيلية إلى خطوط متفق عليها داخل القطاع تُحددها خرائط خطة ترامب، مع الإبقاء على سيطرتها على نحو 53% من أراضي غزة في هذه المرحلة. عمليًا، يعني ذلك تموضع الجيش خلف “خط أصفر” مرسوم وسط القطاع، ما يترك أكثر من نصف مساحة غزة تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة حتى إشعار آخر. ومن المتوقع أن تستكمل عملية الانسحاب على مراحل لاحقًا، حيث تنص الخطة على مراحل إضافية تتضمن انسحابًا أوسع وإنشاء منطقة عازلة دائمة بمحاذاة الحدود.
رغم هذه الخطوة، لم تُعلن إسرائيل صراحةً نيتها الانسحاب الكامل من غزة حتى الآن. فبينما وصف الوسطاء الاتفاق بأنه يهدف إلى إنهاء الحرب بشكل نهائي، أكدت التصريحات الإسرائيلية أن التركيز منصب على استعادة الرهائن وتأمين الحدود، متجنّبةً تأكيد التخلي التام عن أي وجود عسكري داخل القطاع. وقد ضغطت حركة حماس خلال المفاوضات للحصول على جدول زمني واضح للانسحاب وضمانات بتنفيذه الكامل، وربطت ذلك بعملية إطلاق سراح الرهائن على دفعات. وعليه، يشكل مدى التزام إسرائيل بخطوات الانسحاب المتفق عليها عاملًا حاسمًا لثبات وقف إطلاق النار واستمرار المرحلة التالية من التفاهمات.
انعكاسات خطة ترامب للسلام
تشكل الهدنة الحالية جزءًا أوليًا من خطة سلام شاملة من 20 بندًا طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحل أزمة غزة. تهدف هذه الخطة إلى معالجة الجوانب الإنسانية والسياسية والأمنية للنزاع، وتتميز بتدخل مباشر وثقيل من الجانب الأمريكي. فيما يلي أبرز بنود خطة ترامب وانعكاساتها المحتملة:
وقف إطلاق نار شامل وتبادل الأسرى والرهائن: تشمل المرحلة الأولى إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين لدى حماس (بمن فيهم إعادة جثامين من قُتل منهم) مقابل إفراج إسرائيل عن حوالي 2000 أسير فلسطيني. دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ فور المصادقة الإسرائيلية، على أن تفرج حماس خلال 72 ساعة عن 20 إسرائيليًا ممن تأكد بقاؤهم أحياء وجثامين 28 آخرين، بينما تطلق إسرائيل دفعات من الأسرى الفلسطينيين بالتوازي. هذه الخطوة الإنسانية تهدف لبناء الثقة وامتصاص الغضب الشعبي، لا سيما مع ضغوط عائلات الرهائن في إسرائيل ومعاناة الأسرى الفلسطينيين.
انسحاب إسرائيلي تدريجي وضمانات أمنية: تنص الخطة على انسحاب القوات الإسرائيلية من معظم أنحاء قطاع غزة وصولًا إلى خطوط متفق عليها داخل القطاع كمرحلة أولى. وعلى المدى الأبعد، تُلزم الخطة إسرائيل باستكمال الانسحاب على مراحل، مع إقامة منطقة عازلة أمنية على طول الحدود بين غزة وإسرائيل لمنع تسلل الأسلحة والمقاتلين. هذه الترتيبات تُظهر سعيًا لتحقيق توازن بين مطلب إنهاء الاحتلال العسكري المباشر وتحفظات إسرائيل الأمنية. ومع ذلك، إبقاء الجيش الإسرائيلي على أكثر من نصف مساحة غزة حاليًا يطرح تساؤلات حول مدى سيادة الفلسطينيين المؤقتة على أرضهم خلال الفترة الانتقالية.
ترتيبات حكم جديدة في غزة (استبعاد حماس): ربما تكون أصعب بنود الخطة هي ما يتعلق بمستقبل الإدارة في غزة بعد الحرب. تدعو المرحلة الثانية من مبادرة ترامب إلى تشكيل إدارة مدنية جديدة للقطاع لا تضم حركة حماس، مع نشر قوة أمنية فلسطينية مدعومة بعناصر من دول عربية وإسلامية لتولي مسؤولية الأمن الداخلي. كما تطالب الخطة بـنزع سلاح حماس والفصائل الأخرى بشكل كامل لجعل غزة منزوعة السلاح. هذه البنود تعكس رغبة واشنطن وتل أبيب في تحجيم دور حماس مستقبلًا، لكنها في الوقت ذاته تثير مخاوف حول من سيسد الفراغ السياسي والأمني في غزة. حماس أعلنت صراحةً رفضها التخلي عن سلاحها طالما بقيت قوات إسرائيلية على أرض فلسطينية، ورفضت أي إدارة أجنبية مباشرة للقطاع، مؤكدة أنها لن تسلم الحكم إلا لحكومة فلسطينية تكنوقراط بإشراف السلطة الفلسطينية ودعم عربي. هذا يشير إلى احتمال اصطدام تنفيذ هذه المرحلة بعقبات كبيرة إذا لم يتم التوصل لصيغة ترضي التطلعات الفلسطينية وتضمن في الوقت ذاته أمن إسرائيل.
الدعم الدولي وإعادة إعمار غزة: إدراكًا لحجم الكارثة الإنسانية في غزة، ترتكز خطة ترامب أيضًا على دور دولي وعربي كبير في إعادة إعمار القطاع وتطوير اقتصاده بعد انتهاء القتال. تعهّدت دول عربية وإسلامية بتقديم التمويل اللازم لإعادة البناء، إذ أبدى الاتحاد الأوروبي ودول الخليج استعدادًا أوليًا لتوفير حزم مساعدات بمليارات الدولارات لإعمار غزة. كذلك تنص الخطة على نشر قوة دولية لدعم الاستقرار – حيث تم التلميح إلى قوة تقودها الولايات المتحدة بمشاركة دولية للمساعدة في حفظ الأمن خلال المرحلة الانتقالية. هذه الجهود مجتمعة تهدف لضمان تحول غزة نحو الاستقرار والازدهار بمجرد توقف الحرب، بحيث لا تعود بيئة حاضنة للصراع. مع ذلك، نجاح ذلك مشروط بإنهاء الحصار وفتح المعابر بشكل مستدام، إضافةً إلى التنسيق مع الفلسطينيين لضمان وصول المساعدات لمستحقيها وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة.
إن نجاح تنفيذ خطة ترامب بجميع مراحلها سيشكل سابقة تاريخية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إذ لم يسبق أن تحقق اتفاق بهذا الحجم منذ عقود. وللمفارقة، يعلق ترامب آمالًا كبيرة على هذا الاتفاق بوصفه إنجازًا سياسيًا نادرًا في ولايته الحالية. بيد أن التحديات عديدة؛ فالتجارب السابقة تظهر أن اتفاقات السلام الهشة قد تنهار أمام التفاصيل الخلافية. لا يزال كثير من الأسئلة العالقة دون إجابة واضحة – من سيتولى حكم غزة فعليًا؟ وكيف سيتم ضمان تفكيك ترسانة حماس دون تجدد القتال؟ وهل تفضي هذه الترتيبات في النهاية إلى تحقيق حل سياسي أشمل للقضية الفلسطينية أم تقتصر على ترتيبات إنسانية مؤقتة؟. كذلك يُواجه نتنياهو ضغوطًا داخلية؛ فبينما أُجبر على القبول بوقف القتال لإعادة الرهائن تحت ضغط الرأي العام، يعارض بعض حلفائه اليمينيين أي اتفاق يوقف الحرب قبل “استئصال حماس” بالكامل. هذه العوامل مجتمعة تجعل خطة ترامب فرصة محفوفة بالمخاطر: فهي تحمل إمكانية إنهاء معاناة غزة ووضع أسس سلام أوسع، لكنها أيضًا مهددة بالانهيار إن لم تُعالج بحذر الخلافات الجوهرية بين الأطراف المعنية.
ردود الفعل الفلسطينية والدولية
قوبل اتفاق وقف النار بترحيب حذر من الجانب الفلسطيني بمختلف أطيافه، إلى جانب إشادة دولية واسعة مع التشديد على ضرورة البناء عليه لتحقيق تسوية دائمة. حركة حماس – الطرف الرئيسي في غزة – أعلنت أنها وافقت على الصفقة لإنهاء الحرب، لكنها شددت في بيانها على الحصول على ضمانات من الولايات المتحدة والدول الضامنة بعدم نكوص إسرائيل عن بنود الاتفاق. وطالبت حماس بالتزام إسرائيل الكامل بالانسحاب ووقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، محذرةً أنها تتابع عن كثب تنفيذ التعهدات. وفي الوقت ذاته، عبر مسؤولون في حماس عن تقديرهم للجهود القطرية والمصرية والتركية في التوسط، بل ووجّهوا شكرًا – غير معتاد – للرئيس ترامب على "تعامله العادل" خلال المفاوضات، في دلالة على أهمية الدور الأمريكي في إبرام الصفقة.
من جهتها، رحبت السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عباس (أبو مازن) باتفاق غزة، واعتبرته بارقة أمل نحو حل سياسي أشمل. وأعرب عباس عن أمله بأن تكون هذه الهدنة مقدمة لعودة المسار التفاوضي وتحقيق حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967. كما أعلن استعداد السلطة للتعاون مع جميع الأطراف لضمان نجاح الاتفاق وترجمة بنوده على الأرض. ورغم أن السلطة لا تملك نفوذًا مباشرًا في غزة منذ سيطرة حماس عليها عام 2007، فإن إشراكها المحتمل في ترتيبات ما بعد الحرب – كما تقترح خطة ترامب – قوبل بتأييد منها، على أمل استعادة دورها هناك في إطار توافق وطني.
على الصعيد الشعبي الفلسطيني، اختلطت المشاعر بين الترحيب والتوجس. ففي غزة نفسها، خرج بعض السكان في تجمعات احتفالية حذرة فور إعلان الاتفاق، خصوصًا في خان يونس جنوب القطاع. عبّر الأهالي عن ارتياحهم لانتهاء القصف أخيرًا، لكن سرعان ما طغت مشاعر الحزن على الاحتفالات، إذ تذكّر الناس حجم الثمن الباهظ الذي دفعوه خلال عامين من الحرب. يقول أحد سكان غزة: "نحن سعيدون بوقف النار، لكننا فقدنا الكثير من الأحبة والأصدقاء ودُمرت منازلنا. حتى مع فرحتنا، لا نستطيع إلا أن نفكر بما ينتظرنا عند عودتنا لأحياء باتت غير قابلة للسكن". تعكس هذه الكلمات واقعًا مريرًا سيظل يخيّم على الغزيين رغم الهدوء الحالي، حيث يتطلعون إلى الإغاثة وإعادة الإعمار بقدر تطلعهم للسلام.
على الجانب الدولي، انهالت بيانات الترحيب والدعم فور إعلان الاتفاق. قطر ومصر وتركيا – الدول التي قادت وساطة المباحثات في شرم الشيخ – أشادت بنجاح الجهود الدبلوماسية. على سبيل المثال، أكد رئيس وزراء قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أن الاتفاق سيفضي إلى إنهاء الحرب ومعاناة غزة، مشددًا على أهمية التزام الأطراف بتنفيذ تعهداتهم. كما أعربت أنقرة والقاهرة عن رضاهما بالنتيجة، وأبدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "سعادة بالغة" بإنقاذ الأرواح عبر وقف إطلاق النار. من جهتها رحبت الولايات المتحدة بالاتفاق بوصفه انتصارًا دبلوماسيًا لإدارة ترامب، وحرص ترامب شخصيًا على الاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلي مهنئًا ومؤكدًا التزام واشنطن بضمان نجاح المرحلة المقبلة. وفي أوروبا، وصف القادة الاتفاق بأنه اختراق مهم. فقد رحب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوقف إطلاق النار معربًا عن أمله بأن "يُمهد الطريق لحل سياسي" للقضية الفلسطينية. كما صدر بيان مشترك عن الاتحاد الأوروبي يؤيد الاتفاق ويشدد على ضرورة إيصال المساعدات العاجلة إلى غزة المنكوبة، فيما أعلنت بروكسل استعدادها للمساهمة في خطة إعادة الإعمار المقبلة.
حتى الأمم المتحدة رحبت بحذر بالتطورات. فقد دعا الأمين العام أنطونيو غوتيريش جميع الأطراف إلى الالتزام الكامل بشروط الاتفاق لضمان استمرار الهدنة، وطالب بإتاحة الوصول الفوري للمساعدات الإنسانية دون عوائق إلى سكان غزة. وأكد غوتيريش أن "معاناة المدنيين يجب أن تنتهي" في إشارة إلى حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها القطاع. كما أبدت العديد من العواصم الأخرى دعمها؛ السعودية رحبت عبر وزارة خارجيتها بالاتفاق آملةً أن يفضي إلى تحرك عاجل لتخفيف المعاناة الإنسانية عن كاهل الشعب الفلسطيني. روسيا أيضًا أيّدت الخطوة واعتبرتها تطورًا إيجابيًا يمكن أن يفتح الطريق لتسوية أشمل، فيما وصف رئيس الوزراء البريطاني (كير ستارمر) الاتفاق بأنه "بصيص أمل" يجب البناء عليه فورًا. هذا الإجماع الدولي النسبي على دعم وقف الحرب يعكس إدراكًا عالميًا بضرورة وضع حد للعنف الدائر منذ عامين، والذي تسبّب في زعزعة الاستقرار الإقليمي وأثار انتقادات حادة ضد إسرائيل بسبب حجم الدمار والخسائر في صفوف المدنيين.
في المقابل، لا تخلو الساحة من أصوات معارضة أو قلقة. إسرائيليًا، ورغم دعم المؤسسة الأمنية والسياسية الرسمية للاتفاق، أبدى وزراء يمينيون متشددون امتعاضهم. فقد صرّح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أنه لن يصوت لصالح اتفاق يثبت حكم حماس مؤقتًا في غزة، مشددًا على ضرورة استئصال “حماس” بالكامل فور عودة الرهائن. ورغم أن سموتريتش وأمثاله لم يعطلوا إقرار الاتفاق في النهاية، إلا أن مواقفهم تنذر بصعوبات محتملة أمام استمرار التهدئة أو الانتقال إلى ترتيبات سياسية دائمة، خاصة إذا شعر الجانب الإسرائيلي بأن أهدافه الأمنية لم تتحقق بالكامل.
المشهد الميداني في غزة بعد الهدنة
على الأرض في غزة، يسود هدوء حذر بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وسط مشاهد تختلط فيها مظاهر الفرح بوقف القتال مع حجم الدمار الهائل الذي خلفته المعارك. خلال الأيام والساعات التي سبقت بدء الهدنة، استمر الجيش الإسرائيلي في قصف عنيف حتى اللحظات الأخيرة. وشهد يوم الخميس (عشية وقف النار) غارات إسرائيلية مكثفة على مناطق عدة أبرزها مدينة غزة ومخيم الشاطئ، ما أدى إلى سقوط مزيد من الضحايا الفلسطينيين حتى قبيل سريان التهدئة. وفي إحدى تلك العمليات الأخيرة، تعرضت قوة إسرائيلية لكمين قناصة في مخيم الشاطئ، أسفر عن مقتل جندي إسرائيلي وإصابة آخرين أثناء انسحاب الوحدات من مواقعها الأمامية. أعلن الجيش الإسرائيلي صباح الجمعة عن مقتل الرقيب أول ميخائيل مردخاي نحماني (26 عامًا) برصاص قناص خلال اشتباك في شمال غزة قبل ساعات من بدء سريان وقف إطلاق النار. وقد جاء هذا الحادث ليؤكد أن الخطر على القوات الإسرائيلية استمر حتى آخر لحظة وأن خطوط التماس ظلت مشتعلة إلى أن أُعطيت الأوامر بوقف إطلاق النار المتبادل. في حادث آخر منفصل قبيل الانسحاب، أفادت تقارير بإصابة أربعة جنود إسرائيليين بجراح متفاوتة جراء تصادم عرضي بين مركبة عسكرية (جيب هامفي) ومدفع ميداني أثناء إعادة التموضع باتجاه الحدود، مما يعكس حالة الإجهاد والفوضى في الميدان قبيل انسحاب القوات. هكذا، دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ بعد سباق مع الزمن شهد استمرار الاشتباكات المتقطعة، الأمر الذي جعل سكان غزة يشككون حتى اللحظة الأخيرة في احتمال صمود التهدئة.
على الجانب الفلسطيني، تكشّفت حجم المأساة الإنسانية كاملةً مع توقف أصداء القصف. فقد أظهرت الإحصاءات الرسمية أن الحرب خلال عامين حصدت أرواح أكثر من 67 ألف فلسطيني في قطاع غزة، بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال. كما فاق عدد الجرحى 170 ألفًا بحسب وزارة الصحة في غزة، ناهيك عن مئات الآلاف من المدنيين الذين اضطروا للنزوح داخل القطاع بحثًا عن الأمان. هذه الخسائر البشرية المروعة، غير المسبوقة في جولات الصراع السابقة، حولت كثيرًا من أحياء غزة إلى مناطق منكوبة تعج بالركام والذكريات الأليمة. وبحسب شهود عيان وتقارير دولية، لم تسلم بنية تحتية أو مرفق في غزة من التدمير؛ فلقد سُوّيت أحياء سكنية بأكملها بالأرض في مدينة غزة وشمال القطاع، وتعرضت المرافق الحيوية من مستشفيات ومدارس وشبكات مياه وكهرباء لأضرار جسيمة أو خروج كامل عن الخدمة. وتصف جهات حقوقية ودولية ما حدث في غزة بأنه كارثة إنسانية ومعيشية بكل المقاييس، حيث باتت مناطق واسعة "غير صالحة للحياة البشرية" في الوقت الراهن. إذ تعاني غزة من تلوث خطير لمياهها الجوفية وتربتها نتيجة تراكم الأنقاض والذخائر غير المنفجرة، فضلاً عن انهيار أنظمة الصرف الصحي والمياه النظيفة. ووسط انقطاع الكهرباء وشح الوقود لأشهر، تعطلت محطات معالجة المياه وتوقفت معظم آبار الشرب عن العمل، مما ينذر بأزمات صحية وبيئية طويلة الأمد تتجاوز آثار الحرب المباشرة.
في ظل هذا المشهد القاتم، تشكّل الهدنة المتفق عليها بصيص أمل لسكان القطاع. فمع توقف القتال، بدأت شاحنات الإغاثة بالتحرك محملةً بالإمدادات الضرورية التي طال انتظارها. إدخال المساعدات الإنسانية يُعد جزءًا أساسيًا من الاتفاق، حيث من المقرر تدفق مئات الأطنان من الغذاء والدواء والوقود إلى غزة عبر المعابر الحدودية تحت إشراف منظمات دولية وبالتنسيق مع مصر. وهذه هي المرة الأولى منذ شهور التي يُسمح فيها بمرور هذا الحجم من المواد الأساسية، بعدما استخدمت إسرائيل سياسة الحصار الخانق ومنعت إدخال المواد التموينية والوقود خلال العمليات العسكرية، متهمةً حماس باستغلالها. ومن شأن وصول المساعدات العاجلة أن يخفف حدة أزمة الجوع والعطش التي عانى منها المدنيون، ويساعد المستشفيات على معالجة الجرحى والمرضى في ظل نقص حاد بالأدوية والمستلزمات الطبية. ويؤكد مسؤولون أمميون أن الأولوية الآن هي تأمين الاحتياجات الأساسية لأكثر من مليوني فلسطيني في غزة يعيشون ظروفًا شبه مستحيلة، والعمل على إعادة تشغيل خدمات الكهرباء والمياه بالحد الأدنى لمنع تفاقم الكارثة الإنسانية.
ورغم سكون المدافع، لا تزال التحديات الميدانية ماثلة بقوة. إذ يتطلب تثبيت وقف إطلاق النار تعاونًا دقيقًا بين الأطراف على الأرض لتفادي أي احتكاكات أو خروق أمنية قد تشعل المواجهات من جديد. فما زال الجيش الإسرائيلي يحتفظ بوجوده في أكثر من نصف القطاع كما أسلفنا، ويتمركز جنوده في مناطق محاذية للخطوط المتفق عليها للانسحاب. في المقابل، لا يزال عناصر حماس وفصائل المقاومة متواجدين في المناطق التي لم تدخلها القوات الإسرائيلية أو انسحبت منها حديثًا. هذا الوضع الهش قد يولّد استفزازات أو سوء فهم ميداني إذا لم تُضبط الأمور بحذر – ولعل حادثة القناص الأخيرة تنبهنا إلى مدى سهولة انزلاق الأمور إلى العنف حتى أثناء عملية الانسحاب. من هنا تبرز أهمية الدور الذي سيؤديه المراقبون الدوليون المزمع إرسالهم لمتابعة تنفيذ الاتفاق، وكذلك ضرورة التنسيق الأمني عبر الوسطاء لمنع أي فراغ قد تستغله جهات معارضة للتهدئة.
على صعيد آخر، بدأ سكان غزة يعودون بحذر إلى أطلال منازلهم لتفقّد ما تبقى منها مع وقف القصف. المشهد أشبه ما يكون بزلزال مدمر: أبنية مهدمة، شوارع ممتلئة بالحفر والركام، سيارات محترقة، ومسحات واسعة من الخراب تمتد بمد البصر. ويواجه العائدون واقعًا مريرًا، حيث الكثيرون منهم فقدوا عائلاتهم أو جيرانهم تحت الأنقاض، كما أن منازلهم إما دُمّرت بالكامل أو أصبحت غير صالحة للسكن إطلاقًا. وقد أعلنت جهات هندسية في غزة أن نحو 40% من مباني القطاع باتت غير آمنة نتيجة الأضرار الهيكلية، ما يعني أن إعادة إسكان مئات الآلاف من المشردين ستكون مهمة شاقة وملحة في الأسابيع المقبلة. في هذا السياق، يُتوقع إنشاء مخيمات ومراكز إيواء مؤقتة بإشراف الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة لاستيعاب النازحين، ريثما تتم عملية إزالة الأنقاض وإصلاح البنى التحتية الأساسية على الأقل.
مجمل القول، أوقفت الحرب في غزة مؤقتًا لكن تبعاتها الكارثية مستمرة. لقد انتهت المرحلة الأسوأ من العنف، لتبدأ مرحلة صعبة من معالجة الجراح وإعادة الإعمار والتسوية السياسية. يتنفس أهالي غزة الصعداء لانعدام أصوات الانفجارات لأول مرة منذ شهور، لكنهم يقفون على عتبة واقع جديد مليء بالتحديات: إغاثة عاجلة لملايين المنكوبين، وإعادة بناء ما دمّرته الحرب، وترتيبات أمنية وسياسية معقدة ينبغي التوافق عليها لضمان ألا يعاود القتال. ويرى المراقبون أن نجاح اتفاق وقف إطلاق النار الحالي قد يكون مجرد الخطوة الأولى على طريق طويل لاستعادة الاستقرار في غزة. هذا الطريق يتطلب دعمًا دوليًا استثنائيًا وإرادة صادقة من جميع الأطراف لترجمة الوعود إلى أفعال. وفي حال الوفاء بالتعهدات – بإخلاص – فإن نهاية هذه الحرب قد تشكّل بداية مسار جديد نحو حل دائم ينهي دوامة العنف في غزة، ويفتح صفحة مختلفة للعلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية في المستقبل المنظور. أما إن تعثر التنفيذ أو تجددت المواجهات، فسيجد الفلسطينيون والإسرائيليون أنفسهم مرة أخرى في نقطة الصفر أمام كارثة إنسانية أشد وطأة قد لا يتحملها أحد. الوقت وحده كفيل بكشف أي السيناريوهين سيتحقق على أرض غزة: تثبيت التهدئة والسير نحو السلام، أم العودة إلى مربع الحرب والمعاناة من جديد. الأسابيع القادمة ستكون حاسمة في الإجابة على هذا السؤال المصيري.