معرضاً يعيد رسم خرائط الهوية والانتماء..

الشارقة للفنون تعرض تسعة أعمال كبرى عن علاقة الإنسان بالماء والوطن

يستعرض المعرض مجموعة مختارة من مقتنيات المؤسسة تُعرض للمرة الأولى في المنطقة الشرقية لإمارة الشارقة، ويقدّم تأملًا بصريًا في علاقة الإنسان بالأرض والمياه والهوية، وما بينهما من توترٍ دائم بين الوطن والمنفى، والانتماء والتشظي.

جون أكومفراه، البحر الدوّار (لقطة من الفيلم)، 2015.

المحررالثقافي
فريق تحرير القسم الثقافي والأدبي والفني

تنظم مؤسسة الشارقة للفنون ضمن برنامجها لخريف 2025، معرض «من أرضٍ ومياه» الذي يقام في مصنع كلباء للثلج، في الفترة بين 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2025 و31 مايو/ آيار 2026.

يقدم المعرض مجموعة مختارة من مقتنيات مؤسسة الشارقة للفنون، والتي تعرض للمرة الأولى في المنطقة الشرقية لإمارة الشارقة، وهو من تقييم جيوون لي، مديرة قسم التقييم في المؤسسة، وعبدالله الجناحي وأمل العلي، قيّمان مساعدان، بالتعاون مع ثريا كريديه وشهد مرشد، من قسم المقتنيات.

يحتضن المعرض تركيبات ضخمة لتسعة فنانين ومجموعة فنية من جميع أنحاء العالم، تتناول في مجملها علاقتنا وارتباطنا بالأرض والمياه والوطن، والتناقض الماثل بين طموحات الدولة القومية بعد الاستعمار من جهة، وحسرة المحرومين من وطنهم الأم، أو أصحاب الهويات المجزأة المجرّدين من اعتراف الدولة من جهة أخرى.

تنساب المياه عبر العديد من الأعمال، فتبدو وكأنها حدودٌ تفصل بين المناطق، ومنفذٌ إلى المجهول، وشبكةٌ مفتوحةٌ تمر عبرها الأساطير والتاريخ والموسيقى رغم التقسيمات المفتعلة، حيث نرى في فيلم «اطلها بالفضة» للفنانين باباك افراسيابي ونسرين طبطبائي، مجموعة من اللقطات الساحلية المطلّة على مضيق هرمز، وتسجيلات ميدانية لمحادثات صريحة مع القاطنين على شواطئه، حيث يكشف الفيلم عن حركة البضائع السرية عبر المياه الإقليمية على يد المهربين والصيادين الذين يستغلون معرفتهم الدقيقة بتضاريس المنطقة للعبور.

فيما تقدم مجموعة جي سي سي الفنية في عملها «دروب إيجابية» نقداً للتوجهات الحكومية التي استخدمت كوسيلة للحوكمة ورسم السلوكيات والقيم والخيارات الحياتية، لا سيما تلك التي وظفت ضمن الحملات الصحية وأُطّرت كجزء من رؤية واسعة للتقدم الوطني، حيث تشكك المجموعة بهذا التوجّه من خلال هذا العمل الذي يضم منحوتة جصّية بالحجم الطبيعي لأم وطفلها يمارسان العلاج باللمس الكمّي، وهو ممارسة انتشرت في فترة السبعينيات واستخدمت «طاقة قوة الحياة» لعلاج الجسد واستعادة عافيته. 

وبين الخيال والتوثيق يتأرجحُ فيلم «البحر الدوار» للفنان جون أكومفراه، حيث تمتزج اللقطات الممسرحة التي صورها بمقاطع من برامج الطبيعة التي أنتجتها هيئة الإذاعة البريطانية في تناقض مقلق بين السرديات والصور: البيئة البحرية وصيد الحيتان وانهيار البيئة وعلاقة الإنسان بالبحر. صُور الفيلم في جزيرة سكاي الإسكتلندية، وجزر فارو، والمناطق الشمالية من النرويج، وتتضمن مشاهده المؤثرة لحظات مختلفة من السلوك الافتراسي في البحر، بما في ذلك صور تجارة العبيد، وأزمة اللاجئين العالمية، وحركة العمال المهاجرين، بالإضافة إلى السجناء السياسيين الذين تاهوا في المحيط. 

أما الفنان جومبيت كوسويدانانتو فيوظّف الأعمال التركيبية والفيديو والموسيقى والأداء لتأمل المبادئ السياسية والكولونيالية والسلطة في سياق إندونيسيا ما بعد الإصلاح، ويجمع في عمله «كيرونكونغ كونكورديا» بين موسيقى «كيرونكونغ» التي تمارسها المجتمعات المختلطة والمهمشة في إندونيسيا، وإرث نادي كونكورديا الاجتماعي النخبوي في باندونغ، والذي اشتهر في القرن التاسع عشر بتصنيف زبائنه على أساس التقسيمات العرقية والإثنية. 

يتحدى الفنان مروان رشماوي في عمله «لبنان والبحر» التصور العام الذي يقول إن المناطق السيادية وحدودها ثابتة لا تتغير، ويختار المواد المستخدمة بعناية لإفساح المجال أمام إمكانية التآكل التدريجي للعمل والحدود التي يمثلها، حيث تجسّد الخرسانة الصلبة المناطق كثيفة السكان، ويمثل الشمع القابل للتشكيل الماء، فيما يُعد عمله «نُصُب تذكاري للأحياء» (2001–2008) نموذجاً إسمنتياً مصغّراً «لبرج المر» المهجور في وسط بيروت. وقد لعب هذا المبنى المؤلف من 34 طابقاً دوراً محورياً فيما عُرف «بمعركة الفنادق» (1975–1977) إبان الحرب الأهلية اللبنانية، ليخلّد بذلك ماضٍ شابه الدمار والفقد والتقلب، خلافاً لمعظم النماذج المعمارية التي تبرز التقدم والتنمية المستقبلية. 

وفي المقابل تأتي أعمال الفنان نبيل المخلوفي لتتأمل حالة الهجرة العالمية، وتلتقط مشاعر الاغتراب والانتماء في خضم دوامة التهجين الثقافي. ففي عمله «الاعتبار»، ينبثق شخصٌ مطأطئ الرأس من مسطحٍ مائيٍ ضحلٍ، محدّقاً بقارب خشبي صغير، كما لو أنه يتأمل في رحلة محفوفة بالمخاطر. في حين يصوّر عمله المائي «حجاب الليل» مجموعة من الشباب محتشدين في بيئة متباينة، حيث يبدو وكأنهم يفكرون في أمر يبقونه مخفياً عن المشاهد. أما عمله «الاقتراب»، فيصور تجمعاً آخر لشباب رياضيين يقفون في بركة تصل المياه فيها إلى الركبتين، بدرجات لونية باهتة بفعل أشعة الشمس المتواصلة، بحيث تبدو اللوحة وكأنها ملصق باهت يحوم بين الواقع والحلم.

وعلى مدار اثنتي عشرة ساعة تُلزم الفنانة نسرين خضر نفسها بدورة سباحة مرهقة ذهاباً وإياباً في مسبح خارجي مطلّ على البحر المتوسط في بيروت، لتعبر في عملها «بحر شاسع» عن التقاء الحدود المادية والمفاهيمية، فعلى الرغم من الدلالات الترفيهية المعتادة للمسبح، إلا أنه يمثّل في هذا العمل تطبيقاً مجازياً عن الحدود التي تطوّق حركة الفنانة وتحصرها ضمن نطاق محدود. 

«بيروانة نقود من صدف» هو عمل الفنانة تالوي هافيني الذي تستكشف من خلالاه عملة الصدف التقليدية التي ما تزال مستخدمة في منطقة بوغانفيل، وأجزاء أخرى من بابوا غينيا الجديدة، والتي تُستخدم في الاحتفالات والتزيين ويمكن حفظها في أوعية خاصة، على النقيض من العملات المعدنية والأوراق النقدية التي تظلّ حبيسة البنوك. استطاعت الدول القومية الناشئة بعد الاستعمار تأكيد سيادتها على اقتصادها وسياساتها النقدية بفضل تأسيس العملات الوطنية، لكن الاستخدام المستمر لعملة الصدف في المنطقة حافظ على قيم ثقافية محددة، وعلاقات وثيقة مع الأرض الأصلية التي سبقت وجود الدولة واستمرت بعدها رغم الطابع المركزي للسلطة.

يخوض الفنان وليد سيتي عبر لوحاته وتشكيلاته وأعماله التركيبية في المشاهد المعقدة للذاكرة والفقد، ويستكشف حالات الانتماء الهشّة التي تشكلها الاضطرابات الجيوسياسية والذاكرة الجماعية. يضم عمله «أعلام خاطئة» صفاً من الأعلام المصنوعة من شبكة شفافة، ولافتات مثقوبة تقوّض اللغة البصرية للهوية الوطنية، مُشككةً في الدور الذي تؤديه الأعلام ضمن البناء الأيديولوجي للدول القومية، أما عمله الثاني «أرض الخيال»، فيصور تضاريس خيالية جُرِّدت من علامات الخرائط، في محاولة لزعزعة الإطار الذي نتعرف من خلاله على منطقة بعينها. يشير العمل إلى انفصال الوطن عن الجغرافيا الثابتة، باعتباره هيكلاً قابلاً للتشكيل، وكياناً يمكن إعادة تعريفه وفق الإدراك الجماعي والاعتقاد المشترك. 

تستقطب مؤسسة الشارقة للفنون طيفاً واسعاً من الفنون المعاصرة والبرامج الثقافية، لتفعيل الحراك الفني في المجتمع المحلي في الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، والمنطقة. وتسعى إلى تحفيز الطاقات الإبداعية، وإنتاج الفنون البصرية المغايرة والمأخوذة بهاجس البحث والتجريب والتفرد، وفتح أبواب الحوار مع كافة الهويّات الثقافية والحضارية، وبما يعكس ثراء البيئة المحلية وتعدديتها الثقافية. وتضم مؤسسة الشارقة للفنون مجموعة من المبادرات والبرامج الأساسية مثل «بينالي الشارقة» و«لقاء مارس»، وبرنامج «الفنان المقيم»، و«البرنامج التعليمي»، و«برنامج الإنتاج» والمعارض والبحوث والإصدارات، بالإضافة إلى  مجموعة من المقتنيات المتنامية. كما تركّز البرامج العامة والتعليمية للمؤسسة على ترسيخ الدّور الأساسي الذي تلعبه الفنون في حياة المجتمع، وذلك من خلال تعزيز التعليم العام والنهج التفاعلي للفن.