مقاربة واضحة..

أولوية الداخل قبل بغداد: قراءة في موقف الحزب الديمقراطي الكردستاني

تعكس هذه الدعوة رؤية ترى أن قوة الموقف الكردي في المركز لا تُبنى عبر التفاوض وحده، بل تنطلق أولًا من تماسك الداخل، وتفعيل المؤسسات، وترسيخ الاستقرار السياسي بوصفه شرطًا أساسًا لحماية المكتسبات وتعزيز القدرة التفاوضية في بغداد.

الديمقراطي الكردستاني وإعادة ضبط المسار السياسي قبل الذهاب إلى بغداد

بغداد

تأتي دعوة الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى الإسراع في تشكيل حكومة إقليم كردستان قبل الانخراط في مفاوضات مع بغداد في توقيت سياسي بالغ الحساسية، تتقاطع فيه الاستحقاقات الدستورية مع تعقيدات داخلية وضغوط إقليمية متزايدة. ولا تبدو هذه الدعوة انعكاسًا لحسابات ظرفية، بقدر ما تعبّر عن رؤية سياسية ترى أن ترتيب البيت الكردي الداخلي يمثل شرطًا جوهريًا لتعزيز الموقف التفاوضي وحماية الاستقرار السياسي في الإقليم.

وقد عكس اجتماع الهيئة المركزية للحزب، برئاسة مسعود بارزاني وبمشاركة نيجيرفان بارزاني، إدراكًا واضحًا لمخاطر استمرار حالة الفراغ السياسي، ولا سيما في ظل تأخر تفعيل البرلمان وانتخاب رئيس الإقليم وتشكيل الكابينة الحكومية العاشرة. ويرى الحزب أن هذا التعطيل بات يشكّل عبئًا حقيقيًا على المشهد السياسي، ويهدد بتآكل ما تحقق من مكتسبات خلال السنوات الماضية.

وانطلاقًا من ذلك، شدد الحزب الديمقراطي الكردستاني على ضرورة الفصل بين مسار تشكيل حكومة الإقليم ومسار التفاوض مع بغداد، معتبرًا أن الربط بين الملفين لا يخدم الموقف الكردي، بل يضعفه ويفتح الباب أمام ضغوط سياسية إضافية في المركز.

وخلال المرحلة التي أعقبت المصادقة على نتائج انتخابات برلمان كردستان، أطلق الحزب حراكًا سياسيًا واسعًا، تمثل في إرسال وفود رفيعة المستوى إلى مختلف القوى السياسية في الإقليم، في محاولة لتشكيل حكومة ذات قاعدة تمثيلية عريضة. وتعكس هذه الخطوة مقاربة تقوم على الشراكة والانفتاح، حتى مع الأطراف التي اختارت موقع المعارضة، بما ينسجم مع خطاب الحزب حول احترام نتائج الانتخابات وتعددية المشهد السياسي.

وفي ما يخص العلاقة مع الاتحاد الوطني الكردستاني، يقرّ الحزب الديمقراطي بوجود تعثر في مسار المفاوضات، لكنه يعزو ذلك إلى قراءات غير دقيقة للمرحلة السابقة، مؤكدًا في الوقت نفسه أن باب الحوار لا يزال مفتوحًا، شريطة أن يستند إلى نتائج الانتخابات الأخيرة واستحقاقاتها السياسية. ويعكس هذا الموقف مسعى لإعادة ضبط العلاقة بين الحزبين الرئيسيين في الإقليم، بعيدًا عن منطق التفاهمات المؤجلة أو الرهانات المرتبطة بملفات خارجية.

وفي المقابل، يستند الحزب الديمقراطي إلى الزخم الشعبي الذي حققه في الانتخابات الأخيرة، حيث نال ثقة أكثر من مليون ومئة ألف ناخب، ما منحه موقعًا متقدمًا داخل الإقليم وعلى مستوى المشهد السياسي العراقي. ويُنظر إلى هذا الإنجاز بوصفه تتويجًا لمسار سياسي طويل ارتبط بنهج بارزاني، وبقدرة الحزب على الحفاظ على تماسك قاعدته الشعبية رغم الأزمات الاقتصادية والسياسية التي شهدها الإقليم.

ويرى الحزب أن هذا الثقل الانتخابي يفرض مسؤولية سياسية مضاعفة، سواء من خلال الإسراع في تشكيل حكومة مستقرة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية، أو عبر حضور فاعل في مجلس النواب الاتحادي يسهم في التشريع والرقابة والدفاع عن مصالح الإقليم.

وفي ملف الحقوق القومية للكرد في بغداد، يطرح الحزب الديمقراطي رؤية تقوم على توحيد الموقف الكردي والتفاوض بصوت واحد، بعيدًا عن التشتت الحزبي. ويؤكد أن الشراكة مع المكونين الشيعي والسني يجب أن تُبنى على أسس التوازن والتوافق، مع التمسك بالاستحقاقات الدستورية، وفي مقدمتها المادة 140، وقانون النفط والغاز، وتأسيس مجلس الاتحاد، إلى جانب معالجة ملفات الموازنة ورواتب موظفي الإقليم.

ولا تنفصل هذه الرؤية عن قراءة الحزب للتحولات الإقليمية، إذ يرى في التطورات الجارية في تركيا بشأن القضية الكردية، وفي النقاشات المرتبطة بمستقبل سوريا، فرصًا سياسية واقتصادية يمكن استثمارها، شريطة أن يتمتع الإقليم بالاستقرار والتماسك الداخلي.

وبذلك، تعكس دعوة الحزب الديمقراطي الكردستاني لتشكيل حكومة الإقليم قبل الذهاب إلى بغداد قناعة راسخة بأن قوة الموقف الكردي في المركز تنبع أولًا من وحدة الصف في الإقليم. فترسيخ الاستقرار السياسي، وتفعيل المؤسسات الدستورية، والبناء على ما تحقق من مكاسب رغم التحديات، يشكل، وفق هذه المقاربة، المدخل الواقعي لحماية حقوق الإقليم وتعزيز حضوره في معادلة الحكم العراقية.