الرجل السندريلا

جيمي برادوك.. كيف تمثل الرياضة ثورة الفقراء؟

جيمي برادوك ملاكم الوزن الثقيل

محمد بلال (القاهرة)

الرجل السندريلا، جيمي برادوك، ملاكم الوزن الثقيل، هكذا لقب في الولايات المتحدة في فترة الكساد العظيم.

لم يكن للأمر علاقة بحذاء مفقود، وموعد الـ12 ليلًا، وإنما كان له علاقة بقصة الفقير الضعيف الذي لا يتوقع له النجاح ولا الثراء، وقصة كفاحه الأسطورية، لكي ينجح فيما وصفه النقاد الرياضيون: «جيمي برادوك كان رمزًا للبطولة، ولم يفعل أحد ما فعله بالرياضة، وهو الوحيد الذي اعتبره الناس يعبر عنهم، ويمثل هويتهم وأملهم».
«أعطوني قطعة لحم وانظروا ماذا سأفعل»!

جيمي لم يكن فقط ملاكمًا فقيرًا، لكنه بعد فترة تألق قصيرة في صغره، كسرت يده اليمنى في ثلاثة مواضع، وفقد رخصته كملاكم، بعد أن فقد كل أمواله بسبب الحالة الاقتصادية، ليعمل برادوك لعام كامل عامل يومية بالميناء، ويتلقى معونات الفقر من الحكومة، كي يطعم أطفاله الجائعين.

بعد عام من اعتزال الملاكمة، حصل برادوك على فرصة لمباراة واحدة، يلاعب فيها ملاكمًا قويًّا يدعى جون جريفين، لإصابة خصم جريفين قبل المباراة.

لم يتدرب برادوك، ولم يعلم عن المباراة إلا قبل يومين، لكنه هزم جريفين في الجولة الثالثة بالقاضية، وباستخدام يده اليسرى التي يضطر لاستخدامها في عمله بالميناء، بسبب إصابات اليمنى المتكررة، ليخرج صارخًا بالصحافيين: «فعلت هذا ولم آكل شيئًا منذ يومين، أعطوني قطعتي لحم وانظروا ماذا سأفعل».

بعد هذه المباراة حقق برادوك، الكبير في السن، سلسلة من الانتصارات المفاجأة على ملاكمين أقوياء أصغر منه سنًّا. لم يراهن أحد على فوز برادوك، إلا الفقراء الذين شجعوه لأنه منهم، وفي كل مرة يفوز كان يمنحهم أملًا بحدوث نجاح غير متوقع لهم، ويفتح لهم الحلم بإمكانية تغير أحوالهم بشكل درامي مثله.

رأى الصحافيون أن قصته تمثل إشعالًا لأحلام الفقراء، كما تلهبها قصة السندريلا، وأنه يمنح البسطاء نفس الأمل الذي تمنحه القصص الخيالية فسموه الرجل السندريلا.

بعد سلسلة الانتصارات، حصل برادوك على فرصة لمواجهة بطل العالم للملاكمة، ماكس بيير، على اللقب.

في هذا الوقت أعاد برادوك كل ما حصل عليه من إعانات فقر إلى الحكومة، في بادرة أخرى تثير الإعجاب والأمل، فقد رأى مشجعوه من الفقراء أنه لا داعي للشعور بالعار لحصولهم على معونات فقر، إذا كان البطل قد احتاجها مثلهم، ويمكنهم أن يعيدوها متى تحسن حالهم مثله.

استعد برادوك للمباراة جيدًا، ونصحه خصمه بيير ألا يلعب المباراة، زاعمًا أنه لا يريد أن يتحمل ذنب قتله.

عام 1935، أقيمت المباراة في الحلبة الشهيرة «ماديسون سكوير جاردن» بحضور جماهيري كثيف، بينما التف كل من لم يحضر حول الراديو ليسمع المباراة، وذهب آخرون إلى الكنيسة للصلاة لبرادوك كي ينتصر.

بدأت المباراة وماكس بيير يسخر من برادوك، إلا أن لكمات برادوك أجبرته على اللعب بجدية، في مباراة استمرت 15 جولة، تحمل برادوك خلالها ضربات ماكس بيير الأطول منه بكثير والأصغر سنًّا، حتى فاز في النهاية بقرار الحكام، لتصبح قصة برادوك كما يقول النقاد الرياضيون هي أعظم قصة في تاريخ الملاكمة.

برادوك فعل ما لم يفعله أحد من قبل، ليس فقط بعودته الأسطورية من عامل بالميناء يده مكسورة لبطل العالم في الملاكمة، بل أيضًا بالأمل الذي أعطاه للفقراء.
ثورة الفقراء.. لماذا يحب الأرجنتنيون مارادونا أكثر من ميسي؟

جيمي برادوك ليس الوحيد الذي مثل أملًا للكثيرين، ولا الملاكمة هي الرياضة الوحيدة التي تحدث فيها المعجزات.

طبقًا للأبحاث، فالكثير من الرياضات تمثل للفقراء، أملًا في الثراء السريع، وتغير حال أسر بأكملها إذا بزغ فيها نجم، كما أن الفقراء يجدون في النجم الصاعد من القاع شيئًا يتجاوز الأمل وهو الهوية، أي التماهي في هوية النجم، ليصير كل نجاح له، نجاحًا لمشجعيه. هذه النجاحات تجعل الحياة الصعبة أكثر قبولًا.

يمكننا أن نفهم هذا المعنى في أمريكا اللاتينية، من خلال جنون الناس بكرة القدم، وخصوصًا بنجمين هما مارادونا وبيليه.

البرازيليون لديهم متحف فريد من نوعه متخصص فقط في كرة القدم، وتاريخها، وحسب التقارير فالبرازيل بها مليونا لاعب كرة قدم محترف، غير الهواة واللاعبين غير المسجلين.

كل واحد من هؤلاء يطمح أن يكون بيليه. هذا العشق للاعبين، لا يبدو أنه يتعلق بمهاراتهم الأسطورية، ولا بحب كرة القدم فحسب. في حوار مع جريدة الدايلي ميل، يقول الصحافي الأرجنتيني هوراشيو جارسيا عن الفرق بين ميسي ومارادونا: ميسي لاعب كرة قدم رائع، ومحبوب في كل العالم، إلا أن الأرجنتينيين يجدون صعوبة في حبه، لأنه عاش أغلب حياته في إسبانيا، وليس له علاقة بفقراء الأرجنتين كمارادونا.

ويضيف جارسيا: أما مارادونا فهو أيقونة، والكل يعبدونه هنا، مارادونا هو الأرجنتين، ويحبه الناس أكثر عندما يحكي قصة أبيه الذي كان يجبره على العمل الشاق وهو طفل، ليأخذ ما يكسبه الابن ويسكر به.

الانتماء لنادٍ أو فريق، والاحتفاء بالرموز الرياضية، يبدو أنه يتجاوز حتى مجرد الإشارات الطبقية والوطنية، وأحلام الثراء السريع. هناك أبحاث لمجموعة من الباحثين، تناولوا فيها الأبعاد التاريخية والجغرافية لتشجيع أكثر من فريق.

تشير هذه الدراسات إلى أن ثقافة التشجيع كثقافة فرعية، كثيرًا ما تعبر عن انتماء تاريخي لمنطقة، أو فئة أو اتجاه سياسي، مثل اليمين أو يسار، وأن المشجعين كثيرًا ما تتحول هتافاتهم إلى هتافات سياسية صريحة.

يرى الباحثون أنه في حالات تصبح اللعبة مجرد وسيلة لإمكانية التجمع، والتعبير عن الانتماء لفكرة ما بشكل منظم، وتصير الرياضة نفسها شيئًا فرعيًّا، وهو ما يتجلى في تشجيع بعض الفئات لأندية لا تحصل على بطولات، ولا تنافس حتى، واستمرارهم في تشجيعها بغض النظر عن أدائهم الرياضي. الهدف هنا لم يعد البطولات؛ بل هو التشجيع في حد ذاته.

البعض يرى هذه الجماعات الثانوية خطرة، وربما تثير المشاعر السلبية والصراع والشغب، إلا أن المفكر المصري أسامة القفاش، يرى أن وجودها مهم، كوسيلة منظمة ومقننة إلى حد ما تعبر عن العنف المتكون داخل الإنسان لأسباب مختلفة، بشكل يمكن احتواؤه وبأضرار أقل، وهو الأمر الذي أسماه بتحويل التناقض الداخلي في المجتمع، إلى تدافع.

ويرى القفاش أن هذه النظرية يمكن إسقاطها على المجتمع المصري، فالاحتفالات الضخمة التي كانت تخرج بعد فوز المنتخب المصري بكل بطولة، وكذلك الصراع المحتدم بين أولتراس أهلاوي وزملكاوي، يمكن أن نقول إنها كانت ممارسة مقننة للعنف المختزن في المجتمع، وتفريغ للإحباط بطريقة غير مؤذية في حالات كثيرة.

ويدلل القفاش على ذلك بالخسائر الجمة التي حدثت جراء محاولة قمع هذه التجمعات، وتحول بعضها إلى العنف، أو إلى السياسة بشكل مباشر بعد تعرضها للقمع.

وجهة النظر التي ترى التشجيع الرياضي شيئًا صحيًّا للمجتمع، تنفي تمامًا الاتهامات التي يوجهها البعض لشباب المشجعين حول كونهم غير مهتمين كما ينبغي بالأمور الجادة والمهمة، إذ كما ذكرنا قبلًا، وفقًا لوجهة النظر هذه، فالتشجيع يمثل أملًا، وهوية، وبطاقة خروج من عالم الفقر.

النظر إلى الشغف بالتشجيع كانحدار أخلاقي، يبدو أنه تفسير غير موضوعي للعديد من علماء الاجتماع، فجيمس كليلاند الباحث، الذي ألف العديد من الكتب عن الرياضة والتشجيع، يرى في كتابه «السلوك الاجتماعي في كرة القدم» أن التشجيع يمكن فهمه كمخرج شرعي للعنف، ما يجعل من الضرورة أن يكون التشجيع عدوانيًّا، لكي يحقق غرضه؛ إذ إن التشجيع يكون نوعًا من التعبير عن الهوية الذكورية، وهذا التعبير البدائي بحسبه عن النفس للشباب، هو ما يجعل مكانًا معينًا مثل ملعب كرة قدم يعينه، أو منطقة معينة تمثل تعبيرًا رمزيًّا عن القوة وفرض السيطرة.

ويؤكد الباحث أيضًا أن مواجهة السلطات لهذا العدوان بالعنف؛ تجعله يتزايد، بينما يقل عندما يترك ليجري في قنواته الطبيعية.

وما بين كون الرياضة أملًا في الترقي الاجتماعي، والانصهار في هوية، وكون التشجيع تعبيرًا صحيًّا عن العدوان، تظل جماعات المشجعين تنتج نصوصًا شبه ثورية، وتبدع في السخرية، وهو ما يجعل التشجيع، بعيدًا عن أي شيء آخر، مسليًا للغاية بالنسبة لأجيال متعاقبة من البشر.