الإشراف على مراقبة محتوى منصتي فيسبوك وانستغرام..
تقرير: من الحرية لمحاكم التفتيش.. سقطة فيسبوك في وحل الإخوان
أثبت فشل الغرب في إيقاف الحروب والصراعات التي تشهدها المنطقة خصوصا في البلدان العربية خلال السنوات الأخيرة، جهل الدول العظمى بواقع الأمور وخصوصية أنظمة الإسلام السياسي التي تسعى بشتى الطرق لاستغلال الفرصة للانقضاض على الحكم وتقديم نفسها كبديل يمكن التعايش معه رغم عدم اعترافها بأنظمة الدولة المدنية، لكن طرق الابتزاز التي استخدمتها الدول داعمة لتلك الجماعات الإسلامية مثل تركيا وقطر ولجوئها للخطاب المزدوج عبر توظيف الدين في السياسة لم يعد تنطلي على الشعوب التي ترفض أن تتحكم في مصيرها مصالح استراتيجية تضعها تحت رحمة حكم الإسلاميين.
شركة فيسبوك العملاقة وقعت في فخ مماثل لهذا الفشل التي يدفع ثمنه الغرب باهظا اليوم سواء عبر انتشار الجماعات المتطرفة في كل مكان من العالم أو الإرهاب الذي ضرب قلب العواصم الأوروبية.
اقترفت إدارة فيسبوك خطأ جسيما بتعيين الناشطة اليمنية توكل كرمان لتكون ضمن مجلس الإشراف العالمي لمراقبة محتوى منصتَي فيسبوك وانستغرام، وهو اختيار ربما سيكلفها ويكلف العالم كثيرا تماما كما كلف وصول تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين للحكم والتغلغل في بعض الدول العربية.
فيسبوك أعلنت الخبر أواخر الأسبوع الماضي، لكنها لم تنتظر أن يأتيها الرد على اختيارها المتسرع للناشطة الإخوانية عبر منصتها وعبر مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، حيث قدم لها النشطاء العرب الذين تريد "اشراكهم" في مراقبة المحتوى على منصاتها "سيرة ذاتية" حقيقية تجهلها عن بوق الإخوان وتاريخها في مناصرة خطابات الكراهية ضد كل من يعادي الإسلام السياسي أو يختلف مع الإسلاميين.
توكل كرمان القيادية في حزب الإصلاح اليمني هي العربية الوحيدة حتى الآن في مجلس الإشراف الذي استحدثته فيسبوك كهيئة مستقلة يمكنها إصدار أحكام على سياساته والمساهمة في الإشراف على المحتوى، لكن الشركة مطالبة الآن بمراجعة الطعون التي قالت أنها سيستمع لها في ما يخص هذه القرارات.
تبدو لجنة فيسبوك بهذا الاختيار أقرب لـ"شرطة الأخلاق الحميدة" التي سيسطر من خلالها الإخوان المسلمون على الفضاء الأزرق بنفس الطريقة التي نشروا بها جحافل "الذباب الإلكتروني" لسب وتشويه خصومهم عبر منصات التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة.
صوت كرمان يمثل نوع جديد ومبتكر من "محاكم التفتيش" التي يرى فيها الإسلاميون مجلسا رقابيا "شرعيا" مناسبا يمكن من خلاله تمرير أفكارهم الإقصائية ومحاسبة كل من ينتقدها أو يعارض سياساتهم ليس فقط في البلدان التي يتواجدون فيها بل للتأثير على الرأي العام وأيضا الأنظمة الغربية في مسائل سياسية واجتماعية واقتصادية تخدم أجندات الإسلام السياسي على الساحة الدولية.
اختيار فيسبوك للناشطة اليمنية التي تنكرت لبلدها ودفعت لها قطر وتركيا التي تقيم فيها حاليا، مقابل دعم الإخوان وسياساتهم في المنطقة، كفيل بأن يقدم للإخوان الفرصة لتكون له عين على كل من يعارض مشروعهم حتى بالأفكار. هذا الدور سيجعل من كرمان بمثابة "شرطي الأخلاق العليا" على المنصات الاجتماعية فقد أثبتت على مر سنوات أنها شخصية لا تتقبل النقد أو الرأي المخالف لها ولسياسات الإخوان. تاريخها على مواقع التواصل الاجتماعي هو الذي من المفترض أن يتحدث عن "مؤهلاتها" الحيادية فقد حذفت طيلة مشوارها الحافل بالتطبيل للإخوان عدد من المنشورات لنشطاء فقط لأنهم تجادلوا معها لا بل قامت بحظرهم من صفحاتها.
صوت توكل كرمان يمثل نوع جديد ومبتكر من "محاكم التفتيش" التي يرى فيها الإسلاميون مجلسا رقابيا "شرعيا" مناسبا يمكن من خلاله تمرير أفكارهم الإقصائية ومحاسبة كل من ينتقدها أو يعارض سياساتهم على مواقع التواصل
لا يخفى على أحد أن توكل كرمان التي جندها حزب العدالة والتنمية التركي برئاسة رجب طيب أردوغان، للاستثمار في مقتل الصحفي جمال خاشقجي، استهدفت أنظمة سياسية عديدة في المنطقة بخطابات عدائية موجهة ضد السعودية ومصر والإمارات وكل الدول التي رفضت توظيف الدين في السياسة ودعم إرهاب الإخوان.
هل تكفي شهادة الأكاديمية السويدية لـ"السلام" التي تحصلت عليها كرمان أن تنسي اليمنيين حرمان حزب الإصلاح الإخواني بلادهم من فرصة إنهاء الحرب فيها عبر عرقلة جهود الحكومة الشرعية والتحالف العربي لإنهاء انقلاب الحوثيين؟ طبعا يعرف اليمنيون جيدا مخططات الإخوان في بلادهم منذ سنوات وقد تأكدوا من ذلك مؤخرا عندما فتح حزب الإصلاح الذي تنتمي إليه توكل كرمان الباب على مصرعيه أمام قطر وتركيا لبث الفوضى في اليمن، فصاحبة "جائزة السلام" لا يمكنها أن تدافع عن السلام في البلد الذي تنتمي إليه، فالانتماء لدى الإخوان ليس للوطن أو الدولة بل للتنظيم ومصالح الجماعة اولا.
رئيس "مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية" (غير حكومي) في اليمن خالد الشميري طالب إدارة فيسبوك أولاً إلى الإطلاع على قائمة الحظر لحسابات كرمان، التي "تقوم بحظر كل من يخالف رأي الإخوان تقريباً" حتى تدرك حجم الكارثة التي اقترفتها، كما تساءل "كيف ستثق إدارة فيسبوك في نزاهتها ومراقبتها للمحتوى؟".
مناصرة الإخوان وتلميع صورتهم في المنتديات العالمية مقابل الشهرة وإلقاء المحاضرات الملقنة للترويج لمشروع الإسلام السياسي في المنطقة، لا يؤهل كرمان إلى لعب دور المراقب في أهم موقعين اجتماعيين يستخدمهما أكثر من 3.5 مليار شخص في العالم.
كيف لشركة فيسبوك أن تبرر اختيارها لشخصية إخوانية لا تحظى بشعبية ولا استقلالية وتؤمن بأفكار منظمة إرهابية محظورة في عديد البلدان الإسلامية، وهي تعلم أن مموليها في أنقرة والدوحة هم من دفعوا بها لتتصدر المشهد الإعلامي عبر منصات بيانتها موجودة في أرشيف فيسبوك وعبر قنوات داعمة للجماعات المتطرفة أصبحت معروفة بامتهان التحريض والتشويه كأداة فعالة لترويج مشروع الإسلام السياسي في المنطقة.
لعل الإجابة على هذه الأسئلة يعرفها جيدا مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ الذي كان في نفس المكان الذي تواجدت فيه توكل كرمان في فبراير الماضي عندما حضر ولأول مرة مؤتمر ميونخ الدولي للأمن الذي كان يعجّ بالشخصيات السياسية والعسكرية العالمية.
المحور القطري التركي حرص على أن تكون توكل كرمان عين الإخوان في أروقة اجتماعات المؤتمر الأمني وروجوا لها على أساس الناشطة العربية التي تسلمت "جائزة نوبل للسلام" وهي لا تملك في رصيدها لا مواقف ولا انجازات تذكر سوى مساندة حكم الإخوان الذي لم يخلف ورائه سوى الكوارث والحروب والأزمات تنزف أينما حل سواء في اليمن وسوريا وليبيا أو في السودان ومصر وتونس.
حضور توكل كرمان إلى جانب اجتماع يشارك فيه سياسيون رفيعو المستوى بما في ذلك 35 رئيس دولة وحكومة وأكثر من 100 وزير خارجية ودفاع وخبراء وممثلو قطاع الأعمال من جميع أنحاء لمناقشة التطورات السياسية والأمنية، هو نقطة البداية التي مهدت لاختيار فيسبوك لها بعد أن اشتغلت شخصيات نافذة تحت راية الدفاع عن "حقوق الإنسان" على الترويج لها تماما كما تم الترويج لحكم الإخوان كبديل لخلافة الأنظمة الدكتاتورية خلال ثورات ما يسمى بـ"الربيع العربي" والذي انطلق تحت رعاية وتنفيذ قناة الجزيرة القطرية بوق الإخوان التظليلي.
الإرهاب ينطلق أولا من الواقع الذي تنتجه الصراعات بين الدول لبسط النفوذ وتحكم تلك الحروب فقط المصالح الجيوسياسية، لكن اليوم تنتقل ذه النزاعات إلى الفضاء الافتراضي فيتحول الإسلاميون لأداة تنفذ مخططات مرسومة لهم مقابل نقل أفكارهم
الرئيس التنفيذي لفيسبوك الذي لاتزال فضيحة اختراق البيانات من قبل شركة "كامبردج أناليتيكا للاستشارات" تطارده، طالب خلال مؤتمر ميونخ بإقامة قواعد تنظيمية لمكافحة المحتوى الضار على الانترنيت وتساءل عن إطار العمل الذي يجب استخدامه في هذا الشأن.
زوكربيرغ قال خلال نقاش حول الموضوع أنه يجب الجمع بين إطار للعمل بين الصحف ووسائل الإعلام الموجودة وإطار يهتم بمجال الاتصالات الذي تمر فيه بيانات مليارات الأشخاص حول العالم، وهو ما يؤكد الأهمية الكبرى التي أصبحت تمثلها الشركات الكبيرة مثل فيسبوك وتأثيرها الهام على السياسة الأمنية وبالتالي على المصالح الجيوسياسية للدول في العالم.
إن السماح لشخصية إخوانية غير محايدة تماما لمنصب حساس كهذا في إدارة فيسبوك في ظل ما يعانيه العالم والشرق الأوسط ومنطقة شمال إفريقيا بالأخص من اضطرابات وتمدد لجماعات الإرهاب والتطرف، يكشف حجم الفشل وعدم المعرفة الجيدة للغرب بخصوصية المنطقة والمشاكل التي تمر بها بعض البلدان العربية التي ينشط فيها الإسلاميون.
لعل هذا الاختيار الخاطئ هو أيضا نتيجة لتراجع الولايات المتحدة عن دورها التقليدي كحارس للنظام الدولي، وتركها المجال لقوى أخرى مثل تركيا وإيران في السنوات الأخيرة لنشر الأنظمة الطائفية والعقائدية والترويج للإسلام السياسي على أنه البديل للأنظمة الدكتاتورية في المنطقة لتحقيق غايات توسعية استعمارية. وهو ما جعل أوروبا بثقلها تبقى في موقف المتفرج أمام ابتزاز تلك الدول التي استخدمت ضدها سلاح الإرهاب في السنوات الماضية وكانت شرارة انطلاقته من المحتوى المتطرف على مواقع التواصل الاجتماعي نفسها.
إن تردد الغرب في التدخل بالنزاعات الأجنبية العنيفة، لم ينهي تلك الحروب بل زاد من حدتها ووجد الإسلاميون فيها فرصة ثمينة لتمرير مشروعهم السياسي فعقيدتهم تزدهر عن طريق الفوضى واستمرار معاناة الحكومات من الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية وانتشار الفساد فيها، كل هذه العوامل هي البيئة الملائمة لفرض نموذج الإخوان السياسي.
يبدو أن إدارة فيسبوك لم تتعض من قرارات سابقة اتخذت على ضوء مؤتمر ميونخ للأمن خلال عقود من انعقاده سنويا، وما شهدته المنطقة العربية من اضطرابات بسبب ما اقترفه تنظيم داعش والجماعات المتطرفة الأخرى وعلاقة الدول الحاضنة والممولة للإخوان والجماعات الإسلامية بتأجيج تلك الصراعات للاستفادة منها.
الإرهاب ينطلق أولا من الواقع الذي تنتجه الصراعات بين الدول لبسط النفوذ وتحكم تلك الحروب فقط المصالح الجيوسياسية، لكن اليوم تنتقل هذه النزاعات إلى الفضاء الافتراضي فيتحول الإسلاميون والمتطرفون لأداة تنفذ مخططات مرسومة لهم مقابل نقل أفكارهم وعقائدهم أولا للسيطرة على العقول مباشرة.
وحتى وإن لم يتراجع فيسبوك عن قرار تعيين بوق الإخوان في لجنته "الرقابية"، لن تمثل توكل كرمان "صوت" النشطاء أو حتى المواطنين العاديين في البلدان العربية على أكبر منصة تواصل اجتماعي لإيصال آرائهم للغرب، فشركة رائدة مثل فيسبوك تدر المليارات لا تبحث عن الأفكار عبر هذه المبادرات بقدر ما تحتاج إلى "مؤثرين" تبرهن من خلالهم للعالم أن الجميع يشارك في صناعة القرار عبر هذا "التواصل".
هذا القرار يبدو انه خطوة لتبرئة الذمة من قبل فيسبوك أكثر منه اختيار لكفاءة توكل كرمان التي ستنقل لها وللجنة "المستقلة" كل الانتقادات والمساءلة التي كان يتعرض لها المسؤولون على الموقع يوميا محملين إياها مسؤولية انتشار الأخبار المظللة والكراهية والتطرف على المنصات الافتراضية.
حتى اللجوء لـ"تبييض" أفعالهم التخريبية والإصرار على تمرير مشروعهم السياسي الملطخ بالإرهاب عبر لوبيات وصناع القرار على الساحة الدولية، لا يغطي حجم الإفلاس الذي لحق الإخوان فالرفض الداخلي لهم من قبل الشعوب التي أرادوا أن يحكموها كفيل بترجمة انكشاف مخططاتهم للوصول إلى السلطة تحت غطاء ديني بعد أن أفسدوا ثورات كان شعارها الحرية التي ظهر فيسبوك كأنه يشارك هو الآخر في مصادرتها بقرار يفتقر لأدنى شروط الحيادية.
لا يمكن أن تنسى شعوب البلدان العربية التي شهدت احتجاجات ومظاهرات ضد الحكام الدكتاتوريين في السنوات الأخيرة، كيف ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إيصال صوتهم إلى العالم، لكنها تتذكر أكثر كيف سمحت الدول الغربية لجماعات الإسلام السياسي بأن تجهض تلك الثورات التي انتفضوا خلالها للحصول على الحرية والعيش بكرامة. خطوة فيسبوك الأخيرة تعيد نفس هذا السيناريو عبر تسييس فاضح لوسائل التواصل الاجتماعي سيساهم في إطلاق يد الإخوان أكثر لنشر خطابات الكراهية والتطرف وليس الحد منها.